“نحو يسار فاعل: دعوة إلى بناء مشروع مجتمعي يلامس هموم الناس ويعكس تطلعاتهم”

إن الإنسان ليس كائنا نقيا من الخير أو الشر، بل هو كائن يتكون في صميمه من توتر دائم بين هذين القطبين ويحمل في طبيعته إمكانيات الرحمة كما يحمل إمكانيات العنف، وفيه من بذور البناء مثلما فيه من أسباب الهدم وهذه ليست فرضية أخلاقية فحسب، بل هي امتداد لجدلية كونية قائمة على الأضداد تتجلى في الطبيعة كما تتجلى في النفس البشرية، إن الخير والشر لا يحددان في الفراغ بل في تفاعل الإنسان مع محيطه, مع ضروراته, مع السلطة والمؤسسات, ومع الثقافة التي ينشأ فيها.
لقد ذهب ابن خلدون في تحليله إلى أن الإنسان ابن بيئته يتشكل فعله الأخلاقي بناء على السياقات التي تحيط به لا بناء على جوهر ديني أو عرقي، فالخير والشر يتعاقبان على الأفراد كما تتعاقب الفصول على الأرض، تبعا للظروف والضرورات فلا يمكن إذن اختزال الإنسان في هويته الدينية أو العرقية بل يجب فهمه في صيرورته التاريخية والاجتماعية، حيث تتفاعل عناصر السلطة والتنشئة والعنف الرمزي لتنتج الفعل الأخلاقي أو غير الأخلاقي.
إننا حين نسقط هذا الفهم على المجتمع المغربي ندرك أن الإنسان المغربي ليس فاسدا بطبعه، بل هو نتاج منظومة سياسية وثقافية لم تُنصفه لأن الدولة في جوهرها مطالبة بأن تبني الإنسان قبل أن تبني الأجهزة غير أن ما حصل هو العكس تماما فقد أُهمل التعليم، وتحول الإعلام إلى وسيلة ترويجية بدل أن يكون وسيلة تنويرية، وضاقت مساحات الحرية وغابت الثقة، حتى غدا المواطن مضطرا للتكيف مع منظومة مغلقة تنمي فيه الجهل و النفاق بدل الصراحة والانكماش بدل المشاركة، هكذا خفت صوت الخير الكامن فيه وبرزت سلوكيات سلبية منها الحقد و الضغينة و أعطاب نفسية إنها ليست تعبيرا عن طبيعته، بل عن الظروف التي وُضع فيها.
إن وجهة نظري التي أطرحها اليوم لم تأت من فراغ بل من سؤال حقيقي عن الأصل عن المشترك الذي يجمع الناس في هذا البل لقد عدت إلى الهامش بل إلى هامش الهامش، فوجدت أن هناك شعبا لم يُستلب بعد ما زال يحمل ثقافته في روحه ويؤمن بقيمه العميقة دون أن يعبر عنها بلغة مثقفة التقيت نساءً ورجالاً، شيوخاً وشباباً، يناقشون القيادة ويحلمون بالتغيير ويطرحون الأسئلة الكبرى بعفوية خالصة هؤلاء لم تسحقهم الرأسمالية ولم يغتربوا عن ذواتهم بل ما زالوا يبحثون عن مشروع جامع، عن رجل أو فكرة يتحقق حولها الإجماع الوطني.
هذه اللقاءات جددت إيماني بالتراكمية وبأن الأثر لا يصنعه المثقف المنعزل في برجه العاجي، بل يصنعه ذاك الذي يتغذى من نبض الأرض من قصص الناس، من واقعهم إن التغيير لا يستورد ولا يُفرض بالشعارات بل يُصاغ من داخل المجتمع، من خلال تفاعل جدلي بين الفكر والواقع بين الطرح النظري والممارسة الميدانية إن ما وجدته في تلك الحوارات العفوية هو وعي خام، غير مؤدلج لكنه حي يتوق إلى العدل والكرامة والحرية، حتى وإن لم يعبر عن ذلك بمفردات سياسية دقيقة.
جلسات تحقق الإجماع حول أبرز اللحظات التي حافظ فيها المغرب على بوصلة البناء الوطني، لحظات كانت فيها تجربة حكومة عبد الله إبراهيم لم تكن حكومة تكنوقراطية معزولة عن الناس، بل كانت حكومة ذات نفس اجتماعي وطني تحاول بناء الدولة من الإنسان ومن الأرض معا كانت حكومة تؤمن بالبحث السوسيولوجي كأداة للفهم وبالهوية الوطنية كقيمة جامعة لا كإيديولوجيا ضيقة حافظت على علاقة قريبة مع الشعب، ولم تكن تتحدث بلغة غريبة عن وجدان الناس لهذا لا يزال الحنين الشعبي قائما تجاهها، باعتبارها لحظة سياسية نادرة اتسق فيها القول بالفعل واتجهت فيها الدولة لتكون راعية لا راكبة على أعناق الناس، إن استحضار تلك التجربة ليس من باب النوستالجيا بل باعتبارها دليلا على أن التغيير ممكن حين توجد الإرادة السياسية والفكر المنغرس في تربة الوطن.
في هذا السياق يبرز سؤال اليسار بالنسبة لي لقد آن لهذا التيار في المغرب كما في بقية العالم العربي، أن يراجع موقعه من الواقع لقد انفصل عن الناس وتاه في دوائر النخبوية والتحليل المجرد ونسي أن التغيير الحقيقي لا يتم بالنيابة عن الشعب بل يتم عبر الشعب، ومن داخله ما أحوج اليسار اليوم إلى أن يتأمل في تجربة ماو تسي تونغ في الصين حين دمج الوعي الماركسي بالتراث الكونفوشي، وصاغ ثورته من داخل الثقافة الشعبية لا ضدها ذلك النموذج رغم تعقيداته، يُذكرنا بأن المثقف المناضل ليس من يفرض الحقيقة بل من يعيد اكتشافها مع الجماهير.
وفي خضم هذا كله تبرز الحاجة الملحة إلى لاهوت تحرير جديد، لا يقتصر على الكنيسة أو المجال الديني كما ظهر في أمريكا اللاتينية بل يشتبك مع أسئلة الحرية والعدالة في سياقنا المغاربي والعربي لاهوت لا يقصي الروح بل يحررها، لا يستبدل الاستلاب الرأسمالي باستلاب أيديولوجي بل يمنح الإنسان الحق في أن يكون فاعلا في واقعه مستعيدا كرامته وأمله وقدرته على الحلم هذا اللاهوت الجديد هو مشروع تحرر مشروع عودة إلى الأصل من أجل بناء المستقبل.
إن الخير لن يموت في الإنسان لكنه يحتاج إلى شروط لكي ينمو حين تتحول الدولة إلى حاضنة للكرامة، وحين يصبح التعليم محرضا على السؤال، والإعلام فضاء للفهم والثقافة مسارا لإعادة الاعتبار للناس… حينها فقط سيعود الإنسان إلى توازنه، وسينبثق من داخل المجتمع مشروعه الحقيقي المشروع الذي لا يُولد من فوق بل ينبت من الأرض.
لذلك أوجه نداء صادق إلى كل المثقفين، إلى كل من لازال يؤمن بإمكانية انبعاث يسار جديد يسار لا يكتفي بلعن الظلام من الأبراج، بل ينزل إلى الميدان حاملا شمعة الفهم والحوار نداء إلى كل الحالمين بمشروع مجتمعي تحرري، جامع ومنفتح ينطلق من الواقع لا من الكتب يضع نصب عينيه الإنسان لا الأيديولوجيا نحتاج إلى جامعات شعبية حاضنة لكل التناقضات، تُمثل الأجيال كلها وتمنح الشباب موقع القيادة لا التهميش نحتاج إلى جبهة فكرية للنقاش المفتوح تسائل كل شيء، وجبهة نضالية موحدة للتصدي للفساد والاستبداد لا تُقصي أحدا من أبنائها، ولا تُفرط في أحد من أحلامها وحده اليسار الذي ينبت من هموم الناس هو القادر على إعادة الاعتبار للمعنى، وإحياء الأمل في زمن السخرية واليأس.
اترك تعليقاً