حديث في السياسة

ما بات يعرف إعلاميا ب”مول الماستر” وشعبيا ب”فراقشية التعليم”، قد يرى فيه البعض، فرصة لتوجيه البوصلة نحو واقع الجامعة المغربية، التي تسلل إليها أخطبوط العبث والفساد في صمت، وقد يرى فيه البعض الآخر، مؤشرا على ما وصل إليه “بعض” الأساتذة الجامعيين، من إفلاس قيمي وأخلاقي، في غياب الرقابة والضبط، في حرم جامعي، بات فيه الولوج إلى “مهنة التدريس”، يخضع في حالات كثيرة، لمعايير الزبونية والمحسوبية والمحاباة والموالاة، بعيدا عن شرف المهنة وأخلاقياتها، وبمعزل عن شروط الكفاءة والاستحقاق والنزاهة والاستقامة والسلوك القويم؛
لكن، مهما استرسلنا في محاولة فهم ما جرى من نكسة جامعية، حاملة لكل مظاهر الإساءة للجامعة المغربية، التي لعبت أدوارا معتبرة في بناء المغرب المستقل، لما قدمته من أطر وخبرات وكفاءات، فالثابت أننا أمام فضيحة قيمية وأخلاقية وقانونية وقضائية وسياسية بامتياز، وجريمة متكاملة الأركان، تؤكد بما لايدع مجالا للشك، أن الفساد بات كالمرض الخبيث الذي يعبث بجسد الوطن، ويحرمه من فرص النهوض والبناء والنماء والبهاء؛
“قنبلة ابن زهر” هي بدون شك، مرآة عاكسة لعدد من “القنابل الموقوتة” المركونة في كثير من القطاعات والمجالات، قابلة للانفجار في أية لحظة، في ظل بنية سياسية وسوسيوثقافية، يميزها تطبيع شامل، مع ثقافة الجشع والأنانية المفرطة والعبث والتسيب والانحراف، والمصلحة العمياء والزبونية والوصولية والانتهازية، ويطبعها إفلاس حقيقي في القيم الوطنية والدينية، وإضرار واضح بمصالح الوطن واستخفاف عبثي بقضاياه المصيرية؛
في هذا الإطار، إذا كانت كل الأنظار موجهة نحو الأستاذ الجامعي المعتقل على ذمة التحقيق، بمعية من معه من الموقوفين، فالثابت، أنه مجرد مقدمة رثائية في قصيدة طويلة، تفوح رائحة الفساد بكل تعبيراته، من بين أبياتها وقوافيها، معبرة ودالة على كل “أناني” و”انتهازي” و”وصولي” و”منعدم ضمير”، مات فيه حس المواطنة، وانعدمت فيه قيمة المسؤولية والالتزام ونكران الذات، اختار مع سبق الإصرار، أن يكون شريكا في فعل الفساد، سعيا وراء شواهد عليا، بدون أدنى جهد أو حركة، طمعا في ترقية مهنية، أو الظفر بوظيفة عمومية أو الولوج إلى مهنة حرة، أو الحصول على مسؤولية إدارية، أو إدراك مكانة معتبرة في حزب سياسي، أو الدخول إلى قبة البرلمان، أو الظفر بحقيبة وزارية، دون مراعاة واقع ومستقبل الوطن، ولا تقدير كلفة الفساد على البلاد، ولا اعتبار المساس بالحقوق وضرب مبادئ العدالة والإنصاف وتكافؤ الفرص والاستحقاق …
ما حدث من قنبلة جامعية، يتجاوز حدود المساس بهيبة الجامعة المغربية وسمعتها، ويتخطى درجات بيع الشواهد الجامعية بمقابل مالي، بل هو علاوة على ذلك، جريمة مع سبق الإصرار والترصد ضد الوطن، لأنه يجعل الوطن أسيرا خلف قضبان العبث والفساد، ويعدم مبادئ التكافؤ والاستحقاق والإنصاف، لأن الموظف أو المسؤول، الذي يقبل أن يشتري شهادة جامعية عليا بمبالغ مالية معتبرة، دون أدنى مجهود، على حساب أشخاص آخرين تتوفر فيهم شروط الكفاءة والاستحقاق، ويرتقي بها مهنيا، أو يعبد بها، مسار الولوج إلى مناصب المسؤولية، أو حتى المناصب العليا، لن يكون إلا شريكا في “تسمين” غول الفساد، ومنتجا لثقافة اليأس والإحباط، ومساهما في تكريس فقدان الثقة في الدولة والقانون والمؤسسات، ومعرقلا حقيقيا لما يتطلع إليه الوطن، من تنمية وازدهار وبهاء وإشعاع…
“قنبلة ابن زهر”، تكفي لنفهم عمق الفساد المستشري داخل المجتمع، ونستوعب ما بات عليه الخطاب السياسي من بؤس وانحطاط وإفلاس، ونتفهم “أسباب النزول”، فيما يتعلق بما يواجه المجتمع من اختلالات وأعطاب تنموية، تعمق بؤر الفقر والإقصاء الاجتماعي، وتوسع دائرة الفوارق السوسيو اقتصادية والمجالية، ويكفي في هذا الصدد، على سبيل المثال لا الحصر، الإشارة إلى ما تعيشه الكثير من المدن المغربية، من مظاهر البؤس والعشوائية والاستغلال الفاحش للملك العام والتدهور البيئي وتشوه المنظر العام، أمام أعين المسؤولين، في غياب آليات الرقابة والضبط وربط المسؤولية بالمحاسبة، ومن حسنات الاستعداد لتنظيم المونديال، أنه استنفر السلطات الترابية، وعبد الطريق أمام الجرافات، لتهاجم ما تركه الفساد المستشري، من عشوائية وفوضى …، والمطلوب اليوم، أن تحضر إرادة محاربة الفساد، والقطع مع ثقافة عدم الإفلات من العقاب، وإشهار سيف “ربط المسؤولية بالمحاسبة” في وجه الفاسدين والمفسدين، وتحييد كل من يرعى الفساد، بالصمت أو التواطؤ أو التطبيع، أو إنتاج الإطار القانوني الحامي له؛
إذا كانت الأجهزة الأمنية جادة وشاطرة في محاربة الخطر الإرهابي وتجفيف منابعه، فذات الجدة والشطارة، لابد أن تكون حاضرة في تحرير الوطن من الفساد، لأن “الإرهابي” و”الفاسد”، وإن اختلفت دوافعهما ومنطلقاتهما، فهما “وجهان لعملة واحدة”، عنوانها العريض “الإضرار بالوطن” و”الإساءة للدولة والمؤسسات”، و”ضرب اللحمة الوطنية”، و”السعي نحو إثارة الاضطراب المجتمعي”، و”المساس بمصالح البلاد وقضاياها المصيرية”؛
في الوقت الذي يشتغل فيه ملك البلاد حفظه الله، على ملفات حيوية واستراتيجية، تروم صون الوحدة الترابية للمملكة، وخدمة القوة المغربية الناعمة، وإحداث التحول التنموي المنشود، هناك من يمارس لعبة الهدم والعرقلة والتشويش، بسلوكه العبثي، وانعدام مسؤوليته، وأنانيته المفرطة، وانتصاره لمصالحه الضيقة على حساب مصالح الوطن وقضاياه المصيرية، والنتيجة المأسوف عليها، مغرب يتحرك بسرعتين متناقضيتن تماما، مغرب النهضة والأوراش الكبرى والمشاريع الملكية التنموية الرائدة والإشعاع الإقليمي والدولي، ومغرب لازال أسير الفقر والتهميش والإقصاء الاجتماعي، بسبب تمدد أخطبوط العبث، وانتشار ثقافة الاستخفاف بقضايا الوطن والمواطنين، في أوساط الكثير من المسؤولين منعدمي المسؤولية والضمير؛
وعليه، فقنبلة ابن زهر، تدعو إلى استعجال شن حملة تطهير حقيقية، لتجفيف منابع الفساد والعبث، وتحرير الوطن من كل فاسد أو عابث أو أناني أو انتهازي أو وصولي أو مستغل للنفوذ…، يهدم الوطن ويسعى إلى خرابه، ويحرمه من كل فرص التحرر والانعتاق والتميز والإشراق؛
مغرب اليوم بما وصل إليه من تحولات معتبرة في عهد جلالة الملك محمد السادس أيده الله، وما يواجهه من تحديات ورهانات اقتصادية وتنموية واستراتيجية وإشعاعية، في حاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى، إلى رجالات دولة حقيقيين، ومسؤولين تتوفر فيهم شروط المواطنة الحقة، أوفياء للوطن، ومخلصين لثوابت الأمة الجامعة، ومساهمين فعليين في المشروع المجتمعي الذي يقوده عاهل البلاد، بحكمة وصمت وتبصر وسداد، ومنخرطين بتضحية ونزاهة ونكران ذات، في خدمة القوة المغربية الناعمة الصاعدة، أما “الفاسدون” و”العابثون” و”المندفعون” و”الكوفيون”…، فلم يعد مسموحا ولا ممكنا التعامل معهم بأسلوب “الفرجة” أو “المهادنة” أو “التطبيع”، وآن الأوان، للتعامل معهم، بما يليق بعبثهم وقلة حيائهم، من حزم ومسؤولية وضبط ومحاسبة وعقاب وتطهير، حرصا على الوطن، الذي لا يمكن البتة، أن يبقى رهينة الفاسدين والعبثيين والمعرقلين والمندفعين…
وفي المجمل، لايمكن أن نبني الوطن بمدرسة معطوبة وجامعة تسلل إليها الفساد والعبث، وبمؤسسات تمثيلية ضعيفة أو مرتبكة، كما لا يمكن أن نكسب رهانات المغرب الممكن، في مجتمع تراجعت فيه القيم الوطنية والأخلاقية والدينية بشكل مثير للقلق، مما يفرض إعادة الاعتبار للمدرسة، وتطهير الجامعة المغربية مما تسلل إليها من فساد وعبث وانحطاط، وبالتعليم الناجع والمنتج والعادل والمنصف والفعال، يمكن أن نبني الإنسان/المواطن، ونكسب رهانات مؤسسات وطنية قوية وذات مصداقية، خادمة للوطن، وداعمة لما يتطلع إليه المواطنون، من تنمية وكرامة ومساواة وعدالة اجتماعية، وكلما تعطلت عجلة المدرسة، أو تأزمت وضعية الجامعة، كلما تقدم الفساد، وتناسل الفاسدون والعابثون والوصوليون والانتهازيون، وتشكلت “القنابل الموقوتة” التي تهدد البلاد والعباد.
على أمل أن تكون “قنبلة ابن زهر”، فرصتنا جميعا لتحرير الوطن، والانخراط الجمعي في بنائه وخدمة مصالحه وقضاياه المصيرية، بوطنية حقة ونزاهة واستقامة ونكران ذات. ولا يمكن أن ندع الفرصة تمر، دون الاعتراف بقيمة الجامعة المغربية، وتقدير أدوارها في التكوين والتأطير وتنمية البحث العلمي والابتكار، والإسهام في الفعل التنموي، والتنويه بكل أستاذ جامعي مسؤول ونزيه ومستقيم ومثابر، يخدم المجتمع من الزاوية التي ينتمي إليها؛
مع ضرورة التذكير، إلى أن الكرة هي الآن في مرمى القضاء، الذي يتعين عليه، أن يحيط عموم المواطنين، علما بحقيقة ما جرى والمعطيات الأولية للقضية، في إطار الحق في المعلومة، ولوضع حد لما يروج من أخبار ومعلومات، يصعب معها تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ولا يمكن إلا أن نثق في القضاء المستقل والحر والنزيه، لأدواره المحورية المتعددة الزوايا، في ترسيخ دولة الحق والقانون والمؤسسات والعدالة والمساواة الاجتماعية، وتحرير الوطن من كل أشكال وتعبيرات العبث والفساد. فعاش الوطن ولا عاش من خانه، أو من عاث فيه عبثا وفسادا ووقاحة وانحطاطا.
اترك تعليقاً