منتدى العمق

رسائل أمنية من موسكو

في أعقاب التحولات البنيوية العميقة التي باتت تخترق الترتيب العالمي المعاصر، والموسومة بتعدد الفواعل من غير الدول، وتشظي أنماط التهديدات العابرة للحدود، تبرز المقاربات الأمنية المتباينة الأقطاب كبديل موضوعي عن النظم السائدة للضبط الأمني الدولي، التي لطالما كانت مرتبطة بثنائية المركز والهامش، أو بمنطق الهيمنة التراتبية. و تأسيسا على هذا الرافد المعرفي، يصبح التفاعل الأمني في صيغته التعددية ضرورة استراتيجية تمليها مقتضيات الأمن الجماعي، وتفرضها الاستحقاقات المتزايدة المرتبطة بمحاربة الإرهاب الدولي، والجريمة المنظمة، والتحديات السيبرانية ذات الطبيعة الشبكية.

وانسجاما مع هذا التصور التحويلي، تأتي مشاركة السيد عبد اللطيف الحموشي، المدير العام للأمن الوطني ومراقبة التراب الوطني، في المنتدى الثالث عشر لرؤساء الأجهزة الأمنية والاستخباراتية المنعقد بالعاصمة الروسية موسكو، بوصفها مؤشرا دالا على تموقع النموذج الأمني المغربي ضمن خرائط الاصطفاف الدولي الجديدة، ليس فقط كفاعل تقني ذي خبرة تراكمية، بل كمنتج فعلي لأطر معرفية وتدبيرية بديلة في الحقل الأمني. فهذه المشاركة لا تقرأ في معزل عن سيرورة الاعتراف الدولي المتصاعد بالنجاعة المؤسساتية للمؤسسة الأمنية المغربية، ولا عن الدينامية التشاركية التي تنخرط فيها الرباط مع شركائها في الجنوب كما في الشمال، في مسعى لإرساء هندسة أمنية كونية غير قابلة للتجزئة، قائمة على منطق التناسق السيادي، والتقاطع الاستخباراتي، والتقارب الاستشرافي في فهم التهديد وتفكيك بنياته المركبة.

كما أن هذه المشاركة التي تستند إلى مرتكزات نظرية متنوعة، تتراوح بين الواقعية البنيوية  التي ترى في السلوك الأمني امتدادا لتوازنات القوة و” نظرية الاعتماد المتبادل المركب” التي تؤكد على أن التعاون الأمني لم يعد ترفا سياسيا بل ضرورة وجودية  تعكس وعيا استراتيجيا مغربيا بضرورة تجاوز الانخراط الظرفي إلى بناء تحالفات طويلة الأمد، تتخذ من الأمن مدخلا ناعما لإعادة ترسيم الفضاءات الدولية خارج منطق القطبية المزدوجة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن المشاركة المغربية اللافتة في هذا اللقاء الحيوي تجسد بوضوح بعدا إضافيا مرتبطا بدقة التوقيت وخصوصية السياق.
إذ تأتي هذه المشاركة في لحظة دولية موسومة بتكثف التهديدات السيبرانية، وتفاقم تعقيد الشبكات الإجرامية، وتصاعد الطابع اللامركزي للتحديات الأمنية، الأمر الذي يفرض مراجعة النموذج التقليدي للتعاون الأمني لصالح أنماط شبكية مرنة، غير خطية، تتقاطع فيها نظم المقاربات الأمنية الاستشرافية مع ديناميات التدبير الوقائي. ولعل الكلمة التي ألقاها السيد عبد اللطيف الحموشي في الجلسة الافتتاحية لهذا المؤتمر الدولي تؤكد بجلاء هذا التحول في التفكير الأمني، حيث شدد في مداخلته على أن التعاون العادل والمتكافئ بين الدول هو مناط نجاح أي بنية أمنية مشتركة تروم مواجهة التهديدات والتحديات الأمنية في المشهد العالمي الحالي، مضيفا أن المدخل الأساسي لتحييد المخاطر والتهديدات الاستراتيجية المتنامية ينطلق من ضرورة خلق بنية أمنية مشتركة وغير قابلة لتفكيك، تساهم فيها مصالح الأمن والاستخبارات الوطنية بتعاون وتنسيق وثيقين مع نظيراتها في مختلف دول العالم.

ما يستشف من هذا التصور هو أن النموذج الأمني المغربي لا ينظر إلى الأمن كأداة لضبط الداخل فقط، بل يرى على أنه فضاء للتفاعل الكوني، يقوم على مفاهيم متقدمة كالأمن الوقائي الشبكي، الذي يتجاوز منطق رد الفعل إلى الهندسة الاستباقية القادرة على تحييد التهديد قبل تشكله، معتمدة في ذلك على منظومة متكاملة تدمج بين العنصر البشري، والوسائل التكنولوجية والهندسة الاستخباراتية. وقد أكد السيد عبد اللطيف الحموشي على هذا المعطى بقوله: “واجب التحذير الذي يؤطر عملنا الاستباقي، ومسؤولياتنا المشتركة، يفرضان علينا تبادل المعلومات حول كل التهديدات الأمنية المرصودة أو المحتملة، وتقاسمها بشكل مؤمن وفوري، بما يحقق أمننا الجماعي على أساس مبدأ رابح رابح”.

إن هذا الحضور المغربي المتفرد في قلب موسكو من أجل المساهمة الفعلية في هندسة رؤى أمنية عالمية، لا يمكن فصله عن سيرورة ممتدة الأثر من السياسات الأمنية الناجعة، تجسدت في بناء جهاز استخباراتي ذي كفاءة عالية، استطاع عبر السنوات أن يرسخ حضوره كمصدر موثوق للتخطيط الاستراتيجي المبكر ومكافحة الإرهاب، وهو ما تبلور في تحييد العديد من العمليات الإرهابية الخطيرة، ليس فقط داخل التراب الوطني، بل على مستوى أوروبا الغربية، كما تؤكده العمليات النوعية التي أحبطتها الرباط والتي كانت تستهدف باريس، ومدريد، وبروكسل، والتي اعترفت فيها الأجهزة الأوروبية بالدور المركزي للمغرب في ذلك.

ومن المهم كذلك الإشارة إلى أن زيارة السيد عبد اللطيف الحموشي إلى موسكو في أبريل 2016، ولقاءه حينها بسكرتير مجلس الأمن القومي الروسي نيكولاي باتروشيف، شكلت النواة الأولى لمسار منهجي طويل الأمد، يقوم على بناء الثقة وتوسيع نطاق التعاون الثنائي في ميدان محاربة الإرهاب، والجرائم المنظمة، وتبادل المعلومات الحساسة. غير أن المؤتمر الأخير في 2025 جاء ليؤكد أن المغرب لم يعد يتعامل مع الأمن كمسألة ظرفية أو مهنية صرفة، بل باعتباره مدخلا جيواستراتيجيا لإعادة التموقع داخل النسق الدولي، بما يضمن استقلالية القرار، وفعالية الحضور، دون الوقوع في فخ التبعية أو التماهي.

هذه الرؤية الاستراتيجية، التي تنخرط في إطار ما يمكن تسميته بنظرية الشبكات الأمنية، تؤسس لفكرة مفادها أن الدولة المتوسطة، حين تمتلك مشروعا استخباراتيا ومؤسسيا فعالا، يمكن أن يتحول مسارها إلى محور رئيسي و مركزي في شبكة الأمن العالمي، ما يجعلها قادرة على التأثير في صنع القرار الأمني، لا بوصفها دولة تابعة، بل بصفتها منتجا فعليا للمعلومة الأمنية، وشريكا متكافئا في بناء الأمن الجماعي.

و على هذا الأساس، يجدر بنا القول على أن تواجد المغرب في مؤتمر موسكو، وتجديد خطابه الأمني عبر شخص المدير العام للأمن الوطني، لا يجب أن يقرأ فقط في ضوء المشهد الدبلوماسي، بل ينبغي تحليله كتحول بنيوي في هندسة السياسات الخارجية المغربية، يقوم على إعادة تعريف مفهوم السيادة الأمنية، في ظل تفكك الحدود الموروثة بين الداخلي والخارجي، وتشابك الهويات، وتنامي الطابع الشبكي للتهديدات. ومن هنا، يصبح المغرب ليس مجرد حالة أمنية ناجحة، بل نموذجا قابلا للتحليل ضمن الأدبيات المقارنة في الدراسات الأمنية، خاصة في ظل فراغ النظريات الغربية عن توصيف تجارب الجنوب التي لا تكرر النموذج بل تعيد إنتاجه بصيغة مغايرة.

فما يبدو للوهلة الأولى مجرد مشاركة رسمية في منتدى أمني دولي، إنما يخفي خلفه دينامية معرفية واستراتيجية معقدة، تؤسس لتصور مغربي جديد للأمن كمنظومة شاملة، تعيد رسم التفاعل بين الدولة والأمن، بين الجنوب والشمال، بين المحلي والعالمي، في أفق بناء أمن متعدد الأقطاب، يتجاوز حدود الجغرافيا، ويعيد الاعتبار لجدلية الفاعلية والتكافؤ في مواجهة الأخطار الكونية المشتركة.

.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *