الخطر الصامت: الابتزاز الإلكتروني في المغرب وتحديات المواجهة

تقديم:
في ظل تسارع التحول الرقمي في المملكة المغربية، شهدت السنوات الأخيرة ظهور أشكال جديدة من الجريمة، وعلى رأسها الابتزاز الإلكتروني، الذي أصبح معضلة أمنية واجتماعية معقدة. وبالرغم من الجهود التشريعية والتوعوية، فإن السياسات الجنائية ما زالت عاجزة عن مواكبة تطور الجريمة الرقمية. فكيف يمكن حماية الأفراد في فضاء افتراضي تتغير مخاطره كل يوم؟ وهل المغرب مستعد فعلاً لمواجهة هذه التهديدات غير المرئية؟
جريمة تتطور… واستراتيجيات تتأخر
الابتزاز الإلكتروني ليس مجرد ظاهرة عرضية؛ بل تطوّر ليأخذ أشكالًا أكثر تنظيماً واحترافية، غالباً عبر شركات وهمية أو شبكات إجرامية عابرة للحدود. الضحية غالبًا ما يكون شابًا أو امرأة، يجد نفسه محاصرًا بين خوف الفضيحة أو الخسارة المالية، وضعف آليات الحماية والدعم.
الهندسة الاجتماعية، البرمجيات الخبيثة، استغلال الشبكة المظلمة… كلها آليات حديثة تجعل من الجريمة الرقمية معركة غير متكافئة بين الضحية والجاني. ومع غياب منظومة وقاية رقمية متكاملة، يتحول كل مواطن إلى هدف محتمل في أي لحظة.
فجوة تشريعية ومؤسساتية واضحة
رغم التنصيص على جرائم الابتزاز الرقمي في القانون الجنائي وقانون حماية المعطيات الشخصية، فإن النصوص الحالية غالبًا ما تبقى متأخرة عن إيقاع التحولات التكنولوجية. كما أن ضعف التنسيق بين المؤسسات الأمنية والقضائية يعرقل تتبع الجناة، خاصة حين يكونون خارج الحدود الوطنية أو يستعملون تقنيات إخفاء متقدمة.
تجارب دولية: من الحماية الرقمية إلى المواكبة النفسية
العديد من الدول الغربية أحدثت أجهزة متخصصة لرصد الجريمة الإلكترونية، وتحليلها، وتقديم الدعم النفسي والاجتماعي للضحايا.
فرنسا مثلًا، أنشأت وحدات متخصصة داخل جهاز الشرطة والدرك لمكافحة الابتزاز الرقمي، مع اعتماد برامج توعية على نطاق وطني.
في كندا، يُوفر مركز إحصائيات العدل قواعد بيانات دقيقة حول الجريمة الرقمية، وتُنشر تقارير دورية توجه السياسات الأمنية والجنائية.
المغرب: مبادرات متفرقة، ومعطيات مشتتة
في المغرب، تتوفر معطيات مهمة لدى النيابة العامة والمديرية العامة للأمن الوطني، لكن غياب التنسيق المؤسسي وافتقار الاستراتيجية الوطنية الواضحة يجعل المواجهة محدودة النجاعة. غالبًا ما تكون الاستجابة ظرفية ومرتبطة برد الفعل بدل بناء منظومة استباقية قائمة على الرصد والتحليل.
الحاجة إلى جهاز وطني لرصد الجريمة الرقمية
انطلاقًا من هذه التحديات، تبرز الحاجة الملحة إلى إحداث “مرصد وطني للجريمة الرقمية”، كمؤسسة عمومية مستقلة، مهمتها الأساسية:
تجميع وتحليل معطيات الابتزاز الرقمي من مختلف المصادر الرسمية والخاصة.
إصدار تقارير دورية توجه صانعي القرار الأمني والجنائي.
دعم الضحايا نفسيًا واجتماعيًا.
المشاركة في شبكات التعاون الدولي لمواجهة الجريمة العابرة للحدود.
تحيين القوانين وتكييفها مع التطورات التكنولوجية السريعة.
نحو سياسة جنائية رقمية متجددة
إحداث مرصد وطني للجريمة الرقمية لن يكون ترفًا مؤسساتيًا، بل ضرورة استراتيجية تفرضها تعقيدات الجريمة الرقمية اليوم.
هذا الجهاز سيكون بمثابة “ذاكرة رقمية جماعية”، توفر المعطيات الموضوعية لصناعة قرار جنائي عقلاني، وتمنح الضحايا صوتًا ودعمًا حقيقيًا، بدل أن يبقوا مجرد أرقام في تقارير إعلامية عابرة.
خاتمة:
المغرب اليوم أمام خيارين:
إما الاستثمار في بناء منظومة رصد وتحليل للجريمة الرقمية تحمي المجتمع وتواكب التحولات،
أو الاستمرار في منطق التجزئة والاستجابة الظرفية، بما يهدد سلامة الأفراد ويُضعف فعالية السياسة الجنائية على المدى الطويل.
اترك تعليقاً