منتدى العمق

التمثل بدل التنزيل: أزمة إدراك الإسلام في زمن الخطاب المشوه

لوِ انتشرت بعضُ الأفكارِ المتطرِّفةِ المنسوبةِ للإسلام، لَما طُمِسَت معالِمُهُ الأصليّة، وغابت صورتُهُ النقيّةُ خلفَ خطابٍ مُشوَّهٍ يَحتكرُ التأويلَ ويُشوِّهُ المفاهيمَ، فلا نَعودُ نُميّزُ بينَ جَوهَرِ الدِّينِ وطَبعاتِه المُزيَّفةِ.
في زمنٍ تتناسل فيه التأويلاتُ المتطرّفةُ باسمِ الدين، تغدو صورةُ الإسلامِ الأصيلةِ عُرضةً للتشويهِ والانتحال. فليستِ النصوصُ وحدَها ما يُشكّل الوعيَ الديني، بل تمثّلاتٌ اجتماعيةٌ وأيديولوجياتٌ تتسلّل إلى الخطاب، وتُعيد إنتاجَ الدين في طبعاتٍ مشوّهةٍ تُحجب جوهرَه وتَطمس معالمَه. وحين يحتكرُ خطابٌ أُحاديّ التأويلِ سلطةَ الفهم، وتُعاد صياغةُ المفاهيمِ المركزيةِ خارجَ سياقاتِها الشرعية، ويتراجعُ صوتُ الاعتدال، يفقدُ الناسُ القدرةَ على التمييزِ بين الأصل والزيف. عندها، لا تُطرَح المسألةُ بوصفها صراعًا بينَ إيمانٍ وكُفر، بل بينَ إسلامٍ حقيقيٍّ ونسخٍ مزوَّرةٍ تُسوَّقُ باسم الوحي، وتُفرَض على الضميرِ الجمعي باعتبارِها هي الدِّين.
أولًا: لماذا يصعب التعرف على “الطبعة الأصلية” للدين عند انتشار أفكار متطرفة؟
1.هيمنة الخطاب المشوَّه
لا تنتشر الأفكار المتطرّفة بوصفها نصوصًا معزولة، بل كخطابٍ شاملٍ يتغلغل في الفضاء العام، يحتكر التفسير، ويصادر المعنى. وحين تتكرّس هذه الهيمنة، تصبح “النسخة المتطرفة” هي العدسة الوحيدة التي يُرى الدين من خلالها.
2.تشويه المفاهيم المركزية
تُعاد صياغة مفاهيم رئيسة مثل الجهاد، الحاكمية، الولاء والبراء، دار الكفر ودار الإسلام، وتطبيق الشريعة بشكل يتعارض مع مقاصد الدين وروحه، ما يُخرج هذه المفاهيم من سياقها الشرعي إلى فضاء أيديولوجي مؤدلج.
3.تراجع سلطة العلماء الوسطيين
حين يُهمَّش العلماء المعتدلون أو يُطعن في شرعيتهم، تتعطّل القدرة الجماعية على التمييز بين التأويل الرشيد والانحراف العقدي، ويُفتح المجال أمام خطاب شعبوي يدّعي تمثيل “الإسلام النقي”.
ثانيًا: هل يوجد شيء اسمه “الطبعة الأصلية” للدين؟
نعم، لكن مع مراعاة التمييز بين:
•الدين في ذاته: أي الوحي (القرآن والسنة الصحيحة)، وهو المرجعية الأصلية.
•الدين كما يُفهم ويُمارس: وهو نتاج تفاعل النصوص مع الزمن والثقافة واللغة والسلطة، ما يُنتج تباينات في التمثّلات الدينية.
وعليه، يمكن التفريق بين:
•الإسلام النصّي: كما ورد في النصوص الشرعية.
•الإسلام التاريخي: كما عاشه المسلمون في تجاربهم الاجتماعية والسياسية.
•الإسلام المُؤوَّل: كما فهمه الناس ضمن شروطهم الزمانية والمكانية.
عندما تهيمن التأويلات المتطرّفة، تُشوَّه صورة الإسلام النصّي، وتُحجب معالمه، فيضيع جوهره وسط تراكم من التفسيرات المُعلّبة.
ثالثًا: كيف يمكن استعادة صورة الإسلام النقية؟
1.إعادة فتح باب الاجتهاد التأويلي المقاصدي، عبر استحضار مقاصد الشريعة وروح النصوص، لا الاقتصار على ظاهرها المجتزأ.
2.تأهيل خطاب ديني وسطي، عقلاني، نقدي، يستطيع مواجهة الانحراف دون الوقوع في التمييع أو التبرير الانتهازي.
3.فكّ الارتباط بين الدين والأدلجة، بتحرير الخطاب الديني من الاستخدام السياسي، والعودة به إلى مجاله الأصلي بوصفه مشروع هداية لا مشروع صراع.
* الخاتمة:
إنّ أخطر ما يُهدّد صورة الإسلام اليوم ليس الجهل به، بل التمثّلات المحرّفة باسمه. فما يصل إلى الناس ليس النص، بل التأويل؛ والتأويل إذا خضع لمنطق الصراع والهيمنة، أفرز دينًا مريضًا في الإدراك العام. لذلك، فإن المعركة ليست بين الإسلام وعدمه، بل بين إسلام حقيقيّ نابع من جوهر الوحي، وطبعات مزوّرة تُروَّج كأنها الأصل، فيما هي مجرد أقنعة للسلطة والأيديولوجيا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *