مجلس الجالية المغربية المقيمة بالخارج: بين الواقع ورهانات التجديد (الجزء الثاني)

مقدمة
لطالما شكلت الجالية المغربية المقيمة بالخارج رافدًا أساسيًا للتنمية الوطنية ورمزًا للعلاقات المتجذرة بين المغاربة ووطنهم الأم. وتأتي العناية الملكية السامية بشؤون هذه الفئة من المواطنين لتؤكد على الأهمية التي يوليها المغرب لمواطنيه في المهجر، وحرصه على ضمان حقوقهم ومصالحهم، وتوثيق أواصر ارتباطهم بهويتهم وثقافتهم الوطنية. في هذا السياق، كان إحداث مجلس الجالية المغربية بالخارج بموجب الظهير الشريف رقم 1.07.208 بتاريخ 21 ديسمبر 2007، خطوة استراتيجية نحو بناء إطار مؤسسي يُعنى بشؤونهم ويُمثل همزة وصل فعالة بينهم وبين مختلف المؤسسات الوطنية.
وقد قدمت هذه الورقة في جزئها الأول تحليلًا معمقًا لمسار مجلس الجالية المغربية بالخارج، بدءًا من سياقات التأسيس ومضامين الظهير الملكي المؤسس، مرورًا بـرهانات التجديد التي تفرضها التحديات الراهنة والمستقبلية. كما تستعرض الورقة التركيبة المستقبلية المقترحة للمجلس، مُحللةً إيجابياتها وتحدياتها، ومبرزةً الأهمية القصوى لضمان الشفافية، التنسيق الفعال، والمرونة في هذا الهيكل الجديد. إن التجديد المنشود لا يُعد مجرد تحديث لهيكل إداري، بل هو فرصة تاريخية لتعزيز الثقة، تبسيط الخدمات، وتحفيز المساهمة الشاملة للجالية في مسيرة التنمية المستدامة للمغرب، وتكريس دورها كجسر للتواصل الحضاري والثقافي مع بلدان الإقامة.
وفي نفس السياق، جاءت هذه الورقة في جزئها الثاني من خلال محورين، الأول خصص لرهانات تجديد مجلس الجالية المغربية بالخارج، ثم الثاني لعرض خلاصات عامة.
المحور الأول: مجلس الجالية المغربية بالخارج أهم رهانات تجديده
إن تجديد مجلس الجالية المغربية المقيمة بالخارج يمثل رهاناً محورياً لتحسين العلاقة بين الوطن الأم وأبنائه المنتشرين في مختلف بقاع العالم، وتعزيز مساهمتهم في التنمية الشاملة للمغرب. يمكن تلخيص أهم الرهانات في النقاط الخمس التالية:
إعادة بناء الثقة وتعزيز التمثيلية:
تجاوز فجوة الثقة: هناك شعور سائد لدى جزء من الجالية بعدم الثقة في المؤسسات الإدارية المعنية بشؤونهم. التجديد يجب أن يهدف إلى إعادة بناء هذه الثقة من خلال الشفافية والمحاسبة وتلبية تطلعات الجالية بشكل ملموس.
تمثيلية أوسع وأكثر فعالية: يجب أن يكون المجلس الجديد ممثلاً حقيقياً لمختلف شرائح الجالية المغربية وتنوعها، وأن يصبح فضاءً للنقاش وتبادل الأفكار وقوة اقتراحية حقيقية، بعيداً عن كونه مجرد هيكل شكلي.
إشراك الكفاءات: استقطاب الكفاءات والخبرات المغربية بالخارج، وتمكينها من المشاركة الفاعلة في صياغة السياسات العمومية وتنزيلها.
تبسيط المساطر وتطوير الخدمات:
رقمنة الخدمات الإدارية والقضائية: يعتبر تبسيط ورقمنة المساطر الإدارية والقضائية من أهم التحديات. الجالية تعاني من تعقيدات بيروقراطية في الحصول على الوثائق أو إنهاء الإجراءات، مما يتطلب تحولاً جذرياً نحو الرقمنة لتوفير الوقت والجهد.
تقريب الإدارة: يجب أن تتوجه الإدارة المغربية بشكل أكبر نحو الجالية، وتوفير خدمات قنصلية وإدارية أكثر قرباً وفعالية، وتذليل الصعوبات التي تواجهها في بلدان الإقامة.
مدة صلاحية الوثائق: مراجعة صلاحية بعض الوثائق مثل جوازات السفر لتتوافق مع المعايير الدولية وتسهيل تنقلات الجالية.
تعزيز المساهمة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية:
تحفيز الاستثمارات: على الرغم من التحويلات المالية الكبيرة، لا تزال مساهمة الجالية في الاستثمارات الوطنية الخاصة محدودة (حوالي 10%). التجديد يهدف إلى فتح آفاق جديدة أمام استثمارات الجالية داخل الوطن، وتوفير بيئة جاذبة ومحفزة لهم، والتنسيق الوثيق مع المراكز الجهوية للاستثمار والصناديق العمومية.
دعم المشاريع التنموية: تشجيع الجالية على الانخراط في مشاريع اجتماعية واقتصادية تنموية في المغرب، والاستفادة من خبراتهم وتجاربهم.
الحفاظ على الهوية: تعزيز الروابط الثقافية واللغوية والدينية لأبناء الجالية مع وطنهم الأم، ومساعدتهم على الحفاظ على هويتهم المغربية في بلدان الإقامة.
تفعيل الدور السياسي والتشريعي:
إشراك في الحياة السياسية: تحقيق مشاركة فعلية للمغاربة المقيمين بالخارج في الحياة السياسية، بما في ذلك حق التصويت والترشيح، بما يتوافق مع الدستور المغربي، وبما يحقق تيسير عملية المشاركة في استفادة مع ما يتيحه التطور التقني الحالي، وكذا من التجارب الدولية ذات الصلة.
قوة اقتراحية تشريعية: أن يكون للمجلس دور فعال في تقديم المقترحات التشريعية التي تخدم مصالح الجالية وتذلل التحديات التي تواجهها. وذلك بالتنصيص على حقه في الإحالة الذاتية، وكذا تقوية دوره الاستشاري بجعل استشارته قبلية ملزمة، وحتى في حالات استشارة مطابقة.
الشراكة والتعاون:
التعاون مع دول الإقامة: تعزيز أواصر الصداقة والتعاون بين المغرب ودول إقامة الجالية، لضمان حقوق الجالية وحماية مصالحها.
التنسيق بين المؤسسات: ترشيد مشهد المتدخلين المتعددين في مجال شؤون الجالية، وتحقيق التكامل والتنسيق بين مختلف الهيئات والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية المعنية.
باختصار، يمثل تجديد مجلس الجالية المغربية المقيمة بالخارج فرصة تاريخية لإعادة تعريف العلاقة بين المغرب وجاليته، وتحويلها إلى علاقة شراكة حقيقية تخدم مصالح الطرفين، وتساهم في بناء مغرب أقوى وأكثر انفتاحاً على العالم.
المحور الثاني: تجديد مجلس الجالية المغربية بالخارج خلاصة عامة
لقد شكل إحداث مجلس الجالية المغربية بالخارج بموجب الظهير الملكي لعام 2007 نقطة تحول في مقاربة المغرب لشؤون مواطنيه المقيمين بالخارج، مؤكدًا على العناية الملكية السامية بهذه الفئة ودورها المحوري في التنمية الوطنية. ومع تطور مشهد الهجرة وتزايد تعقيداته، أصبح تجديد هذا المجلس ضرورة حتمية لمواكبة التحديات الجديدة وتعزيز فعاليته وتمثيليته.
تُظهر قراءة الظهير الملكي المؤسس أن الأسباب الموجبة لإنشاء المجلس كانت واضحة، تمثلت في توثيق أواصر الارتباط، توفير إطار للتشاور، وضمان المشاركة الكاملة للجالية في الحياة الوطنية. وقد حدد الظهير رسالة وأهدافًا طموحة للمجلس، شملت صياغة السياسات، الحفاظ على الهوية، ضمان الحقوق والمصالح، والمساهمة في التنمية الشاملة. أما على مستوى الهيكل التنظيمي والاختصاصات، فقد مُنح المجلس استقلالًا إداريًا وماليًا، واضطلع بمهام استشارية مهمة، أبرزها إبداء الرأي في مشاريع القوانين المتعلقة بالهجرة ورفع التوصيات والتقارير لجلالة الملك.
وفيما يتعلق بـالتركيبة المستقبلية المقترحة للمجلس، فإنها تسعى إلى إطار تنظيمي أكثر شمولية وفعالية، من خلال دمج فئات متنوعة: الخبراء، ممثلي الجمعيات والمنظمات غير الحكومية، ممثلي الهيئات والمؤسسات الوطنية، وممثلي الدولة. هذه التركيبة، وإن كانت تحمل إيجابيات كبيرة في ضمان التنوع والشمولية وتكامل الأدوار، فإنها تفرض أيضًا تحديات تتعلق بضرورة وضع معايير واضحة وشفافة لاختيار الأعضاء، وضمان آليات تنسيق فعال بين جميع الفئات، بالإضافة إلى أهمية أن تكون التركيبة مرنة وقابلة للتقييم والتعديل في المستقبل لضمان استمرار فعاليتها.
في المحصلة، إن رهانات تجديد مجلس الجالية المغربية بالخارج تتجاوز مجرد التحديث الهيكلي؛ إنها تمثل فرصة ذهبية لـإعادة بناء الثقة بين الجالية والمؤسسات، وتعزيز التمثيلية الحقيقية لمختلف شرائحها. كما أن التجديد يهدف إلى تبسيط المساطر ورقمنة الخدمات، بما يضمن تقريب الإدارة وتذليل الصعوبات البيروقراطية التي تواجه المغاربة بالخارج. ولا يقل أهمية عن ذلك تعزيز مساهمتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، من خلال تحفيز الاستثمارات ودعم المشاريع التنموية والحفاظ على الهوية المغربية الأصيلة. وفي السياق السياسي، يُعد تفعيل الدور السياسي والتشريعي للمجلس، بما في ذلك حق الاقتراح التشريعي وجعل استشاراته ملزمة، خطوة جوهرية نحو إشراك أكبر للجالية في الحياة الوطنية. وأخيرًا، يهدف التجديد إلى ترشيد مشهد المتدخلين وضمان التنسيق الفعال بين مختلف المؤسسات، وتعزيز الشراكة والتعاون مع دول الإقامة لحماية مصالح الجالية.
خاتمة
في الختام، نؤكد ومن خلال ما جاء في هذه الورقة على أن إحداث مجلس الجالية المغربية بالخارج سنة 2007 كان تحولا نوعيا وخطوة مفصلية تعكس الاهتمام الملكي بهذه الفئة الحيوية. ومع تطور مشهد الهجرة وتزايد تعقيداته، بات تجديد هذا المجلس ضرورة حتمية لضمان مواكبة التحديات وتعزيز فعاليته وتمثيليته.
لقد استعرضت الورقة الأهداف الطموحة للمجلس كما وردت في الظهير الملكي المؤسس، والتي شملت تعزيز الارتباط بالوطن، الحفاظ على الهوية، وضمان حقوق ومصالح الجالية، بالإضافة إلى تفعيل مساهمتهم في التنمية. كما تم تحليل التركيبة المستقبلية المقترحة للمجلس، والتي تسعى لدمج مختلف الخبرات والتمثيليات لضمان الشمولية.
وعلى هذا الجانب، إن رهانات التجديد تتجاوز مجرد التحديث الهيكلي؛ فهي فرصة لإعادة بناء الثقة، تبسيط الخدمات، تعزيز المساهمات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتفعيل الدور السياسي والتشريعي للجالية. كما نجد أن هذا التجديد يهدف كذلك إلى ترشيد التنسيق بين المؤسسات وتعزيز الشراكة مع دول الإقامة أو بلدان المواطنة الجديدة.
في المحصلة، يمثل تجديد مجلس الجالية المغربية بالخارج فرصة تاريخية لتحويل العلاقة بين المغرب وجاليته إلى شراكة حقيقية تخدم مصالح الطرفين. وسيتوقف نجاح هذه العملية على قدرة الفاعلين على تحويل هذه الرهانات إلى واقع ملموس، عبر تعزيز الشفافية، إشراك الكفاءات، والاستجابة الفعالة لتطلعات الجالية، ليصبح المجلس بذلك مؤسسة قوية وفاعلة تساهم في تعزيز الروابط، دفع عجلة التنمية، وعكس صورة المغرب الحديث.
اترك تعليقاً