وجهة نظر

نهاية عصر؟ تحليل دورة حياة الحركة الإسلامية التقليدية في ظل صعود التيار السلفي والدعوة الرقمية

عبد الفتاح الحيداوي

تُعدّ الحركة الإسلامية التقليدية، التي برزت كقوة فاعلة في المشهد الديني والسياسي خلال القرن العشرين، استجابة لتحديات كبرى كالتغلغل الاستعماري، وتراجع المرجعية الإسلامية، وتفشي مظاهر التغريب. لقد مثّلت هذه الحركات، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، مشروعا إصلاحيا طموحا يهدف إلى استعادة مكانة الإسلام في الدولة والمجتمع. إلا أن هذه الحركات، وبعد قرن تقريبًا من نشأتها، تواجه اليوم منعطفا تاريخيا حاسما، يتسم بالجمود والتراجع، وعجزها عن تقديم رؤى تجديدية حقيقية تتناسب مع التحولات المتسارعة في المجتمعات الإسلامية والعالمية. في المقابل، شهدت الساحة الدينية صعودا لافتا للتيار السلفي بمختلف أطيافه، بالإضافة إلى الاختراق الواسع الذي حققته الدعوة الرقمية في الفضاء الدعوي، مما دفع بالحركات التقليدية إلى حالة من الانكفاء وفقدان التأثير.

المحور الأول: الجذور والنشأة – الحلم الإسلامي في القرن العشرين وتحدياته

نشأت الحركات الإسلامية التقليدية في سياق تاريخي مضطرب، تميز بانهيار الخلافة العثمانية سنة 1924، وهو الحدث الذي مثّل، في المخيال الإسلامي، رمزًا لانهيار وحدة الأمة الإسلامية وضياع السيادة السياسية. تزامن ذلك مع تصاعد الهيمنة الاستعمارية الغربية على العالم العربي والإسلامي، سواء في شكل احتلال مباشر (كالاستعمار الفرنسي في المغرب والجزائر، والبريطاني في مصر والعراق)، أو من خلال فرض أنظمة موالية وفاقدة للشرعية الشعبية.

في هذا المناخ، برزت الحركات الإسلامية التقليدية كـ”حلم جماعي” يسعى إلى استعادة الهوية الإسلامية، وإعادة تأسيس الدولة الإسلامية وفق مرجعية الشريعة. وقد كانت جماعة الإخوان المسلمين، التي أسسها حسن البنا في مصر سنة 1928، النموذج الأبرز لهذا التيار، حيث جمعت بين الدعوة إلى الإصلاح الديني والاجتماعي، وبين مشروع أسلمة الدولة، مستفيدة من خيبة الأمل تجاه المشاريع القومية والليبرالية آنذاك.

وفي المغرب، ظهرت حركة الشبيبة الإسلامية في السبعينيات كامتداد محلي لهذا التيار، متأثرة بخطاب الإخوان من جهة، وبتجربة الحركة الطلابية من جهة أخرى، حيث رفعت شعارات الدفاع عن الهوية الإسلامية ضد التغريب، وركّزت على العمل الدعوي داخل الأحياء الشعبية والجامعات، كما طوّرت خطابًا سياسيًا ناقدًا للنظام، ما أدّى إلى صدامات لاحقة معها.

تميزت هذه الحركات في بداياتها بـأيديولوجيا شمولية، تمزج بين التزكية الروحية والتكافل الاجتماعي والنضال السياسي. فمثلاً، أسست جماعة الإخوان المسلمين شبكة من الجمعيات الخيرية والمستوصفات والمدارس، وكان شعارها “الإسلام هو الحل” يعكس تصورًا بأن الدين قادر على تقديم أجوبة لكل مشاكل المجتمع، من الأخلاق إلى الاقتصاد. هذه المؤسسات شكّلت بدائل قوية عن مؤسسات الدولة، لا سيما في الأحياء الفقيرة والمهمّشة، مما منح الحركات قاعدة اجتماعية واسعة.

لقد كان العمل التربوي محوريًا، حيث ركّزت الحركات على تكوين الفرد المسلم من خلال دروس الوعظ، والأنشطة الدعوية، وحلقات الذكر، باعتباره حجر الزاوية في مشروع النهضة. ثم تطور هذا المشروع إلى تصور سياسي متكامل يسعى إلى تطبيق الشريعة، وإقامة “الدولة الإسلامية” على أساس بيعة وشورى.

ومع تصاعد الفشل التنموي والفساد في الأنظمة الحاكمة، خاصة بعد هزيمة 1967 أمام إسرائيل، فقدت الأنظمة القومية والعلمانية مصداقيتها، ووجدت الحركات الإسلامية نفسها في موقع القوة، مستقطبةً قطاعات واسعة من الطبقات الوسطى والطلبة، الذين رأوا في الإسلام السياسي بديلًا حضاريًا.

لكنّ هذا الصعود لم يكن دون ثمن، فقد واجهت هذه الحركات قمعًا شديدًا من قبل الأنظمة، كما حصل في مصر مع حملة عبد الناصر ضد الإخوان، والتي وصلت إلى السجن والإعدامات في الخمسينيات والستينيات. وفي المغرب، واجهت الشبيبة الإسلامية قمعًا بعد اتهامها بالتورط في اغتيال عمر بنجلون سنة 1975.

كما شهدت هذه الحركات خلافات داخلية عميقة، خصوصًا حول مدى الانخراط في العمل السياسي، وأولوية الإصلاح التدريجي مقابل المواجهة المباشرة. ظهرت تيارات أكثر تشددًا داخل بعض هذه الحركات، كما حصل مع الجماعة الإسلامية في مصر التي انشقت عن الإخوان، وذهبت إلى خيار العمل الجهادي المسلح، ما أدى إلى صراعات فكرية وتنظيمية حول الوسائل والغايات.

كما أن الواقع السياسي المعقد فرض تحديات على هذه الحركات، إذ وجدت نفسها مضطرة إلى التوفيق بين شعاراتها الثورية وبين ضرورات البراغماتية السياسية، خصوصًا في تجارب المشاركة الديمقراطية. فعندما قررت حركة النهضة في تونس أو حزب العدالة والتنمية في المغرب دخول المعترك الانتخابي، ظهرت التناقضات بين المرجعية الإسلامية والشروط الليبرالية للديمقراطية، ما دفع البعض لاتهام هذه الحركات بـ”التنازل عن المبادئ”.

المحور الثاني: أزمة التجديد – السكون أمام التحولات وعواقبها

مع مرور الزمن، بدأت الحركات الإسلامية التقليدية تفقد زخمها التاريخي والرمزي، وتُواجه أزمة بنيوية عميقة على المستويين الفكري والتنظيمي. فقد نشأت هذه الحركات، مثل جماعة الإخوان المسلمين في مصر وحركة الشبيبة الإسلامية في المغرب، في سياقات ما بعد الاستعمار، وكانت تعبّر عن طموح لاستعادة الهوية الإسلامية وبناء مشروع بديل للدولة القُطرية الحديثة التي وُصمت بالفشل أو الارتهان للغرب. إلا أن استمرار هذه الحركات في الاعتماد على أدبيات التأسيس الأولى—التي صيغت في منتصف القرن العشرين—جعلها تبدو خارج السياق في مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين، سواء على مستوى التحولات الاجتماعية أو التكنولوجية أو السياسية.

ظل خطاب هذه الحركات يدور حول شعارات كبرى من قبيل “الهوية الإسلامية”، و”تطبيق الشريعة”، و”إقامة الدولة الإسلامية”، دون أن تُواكب ذلك مشاريع واقعية قابلة للتطبيق أو رؤى تفصيلية تُقنع الأجيال الجديدة. بل إن بعض هذه الشعارات تحولت إلى عبارات رمزية خاوية بفعل تكرارها دون مضمون تجديدي حقيقي. وقد كان الخطاب موجَّهًا في الغالب من الأعلى إلى الأسفل، محكومًا بمنطق الوصاية الفكرية والتربوية، لا بمنطق التفاعل الأفقي والحوار التشاركي، وهو ما أفقد هذه الحركات القدرة على تجديد قاعدتها الاجتماعية.

إحدى أكبر الإشكاليات تمثّلت في عجز هذه الحركات عن فهم تحولات الثقافة والقيم لدى الأجيال الجديدة، التي تربّت في بيئة رقمية مفتوحة، تطالب بالحريات الفردية والمشاركة السياسية والعدالة الاجتماعية، وليس فقط بالشعارات العقدية الكبرى. فمثلاً، لم تستطع هذه الحركات تقديم إجابات مقنعة لأسئلة الشباب حول الديمقراطية، حقوق المرأة، التعددية الدينية، والعلاقة بين الدين والدولة، مما خلق فجوة متزايدة بينها وبين قطاعات واسعة من المجتمع.

على المستوى السياسي، كان الفشل في التجربة السلطوية سببًا رئيسيًا في انكشاف أزمة المشروع. فقد أُتيحت لبعض هذه الحركات فرصة ممارسة السلطة، كما حدث مع حزب العدالة والتنمية المغربي بعد 2011، أو جماعة الإخوان في مصر بعد الثورة، لكن تلك التجارب أظهرت ضعفًا في الأداء، وتردّدًا في حسم الخيارات، وغموضًا في العلاقة بين الدعوي والسياسي. أدى ذلك إلى تآكل ثقة الجمهور في هذه الحركات، وظهور انشقاقات داخلها، وتحول البعض نحو نقد ذاتي خجول لم يصل إلى مستوى مراجعات فكرية جذرية تعيد قراءة المشروع في ضوء الواقع.

إن هذا الجمود في الخطاب والتفكير، وتردي الأداء السياسي، ساهم في تراجع تأثير الحركات الإسلامية التقليدية، وفتح الباب أمام صعود قوى جديدة أكثر قدرة على التكيف مع تحولات العصر، سواء كانت تيارات سلفية رقمية، أو جماعات حقوقية محافظة، أو حتى اتجاهات ما بعد الإسلاموية التي تجاوزت فكرة الدولة الإسلامية كغاية نهائية. وبالتالي، فإن مأزق هذه الحركات لا يكمن فقط في ضعفها الظرفي، بل في فقدانها للمبررات التاريخية والسياسية والفكرية التي كانت تمنحها الشرعية والامتداد.

 المحور الثالث: صعود التيار السلفي – من الهامش إلى التأثير والتمكين

في ظل التراجع البنيوي والفكري الذي أصاب الحركات الإسلامية التقليدية، برز التيار السلفي كقوة دينية صاعدة، مستفيدًا من الفراغ الذي خلّفه انكفاء تلك الحركات عن المشهد الدعوي والسياسي، وعجزها عن مواكبة التحولات الثقافية والاجتماعية المتسارعة. فقد كان يُنظر إلى التيار السلفي، في كثير من السياقات، باعتباره تيارًا هامشيًا، محدود التأثير، ومنكفئًا على ذاته داخل دوائر الاهتمام العقدي الضيق. إلا أن العقدين الأخيرين، خاصة بعد أحداث “الربيع العربي”، شهدا صعودًا متسارعًا لهذا التيار، الذي استطاع أن يعيد تموضعه بذكاء في قلب المشهد الديني.

استمد التيار السلفي هذا الصعود من عدة عوامل موضوعية وذاتية.

أولها وضوح خطابه العقدي، المبني على مركزية التوحيد، وتنزيه العقيدة من البدع والشركيات، وهو خطاب، رغم تبسيطه، وجد صدى لدى شرائح واسعة من الشباب المتعطش للمعنى واليقين.

ثانيها بساطة هذا الخطاب في تقديم إجابات قطعية على أسئلة دينية واجتماعية معقدة، دون الحاجة إلى التأويل أو التوسط، ما جعله أقرب للذهنية التقليدية في المجتمعات المحافظة. ثالثها تقديمه لنفسه كحارس للإسلام “الصحيح” المستند إلى فهم السلف الصالح، في مقابل ما يصوره كـ”تحريفات” أُدخلت على الدين عبر اجتهادات الحركات الحركية، مثل الإخوان المسلمين، أو التيارات الفكرية الحديثة.

وقد تميز هذا التيار برفضه الواضح والممنهج لمقولات الحركات الإسلامية التقليدية، خاصة “الإخوان”، الذين اتهمهم بـ”تمييع العقيدة” والانخراط في العمل السياسي على حساب التوحيد. بل إن رموزه البارزين مثل الشيخ ربيع المدخلي، أو محمد أمان الجامي، وغيرهم، بنوا مشروعهم العقدي والدعوي على “نقد الحركية” و”التحذير من الإخوان”، معتبرين أن الانحراف عن منهج السلف بدأ منذ إدخال مفاهيم الديمقراطية والانتخابات والعمل الحزبي إلى العمل الإسلامي.

في السياقات الخليجية، وخاصة في السعودية والكويت، لقي هذا التيار دعمًا رسميًا ومؤسسيًا، حيث تبنّت مؤسسات الدولة كثيرًا من أطروحاته العقدية، ووفرت له منصات الدعوة والإعلام، ما مكّنه من الانتشار والتجذر في أوساط الشباب وطلاب العلم. بل إن بعض الجامعات الشرعية الكبرى – مثل الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة – أصبحت حواضن لتخريج الدعاة السلفيين من مختلف أنحاء العالم الإسلامي. كما ساهمت القنوات الفضائية، مثل قناة المجد، وإذاعة القرآن الكريم، في ترسيخ حضور هذا التيار داخل النسيج الاجتماعي الخليجي، وخصوصًا من خلال دعم “السلفية العلمية” التي تركز على التلقي والاتباع دون الانخراط في السياسة.

بعد أحداث عام 2011، وبخاصة في مصر وتونس وليبيا، دخل التيار السلفي مرحلة جديدة، حيث أصبح لاعبًا سياسيًا في بعض الحالات، ولاعبًا أمنيًا – ثقافيًا في حالات أخرى. ففي مصر، دخلت الدعوة السلفية – ممثلة في حزب النور – المعترك السياسي بقوة، محاولة الجمع بين المشاركة السياسية والمحافظة على الصفاء العقدي، وهي تجربة أثارت جدلًا واسعًا داخل البيت السلفي نفسه. أما في دول الخليج، فقد تبنى التيار السلفي خطابًا محافظًا يُعلي من قيمة “الأمن العقدي والاجتماعي”، ويرفض بشدة التغيير السياسي الجذري، مما جعله حليفًا ملائمًا للأنظمة التي رأت في شعاراته وسيلة لضبط المجال الديني وتحصينه من الاختراقات الإخوانية أو الجهادية.

هذا الصعود لم يكن وليد تراجع الحركات التقليدية فحسب، بل أيضًا نتيجة قدرة التيار السلفي على التكيف مع السياقات الجديدة. فقد استثمر في تقنيات الإعلام الرقمي، وأسس شبكات دعوية عبر الإنترنت، ومنتديات علمية، وقنوات يوتيوب، تجاوزت في كثير من الأحيان خطاب المؤسسات الرسمية التقليدية. كما ساهم تنوع أطياف التيار السلفي في توسيع قاعدته الاجتماعية؛ فبينما ركزت السلفية العلمية على نشر العقيدة والرد على المخالفين، توجهت السلفية الدعوية إلى العمل الخيري والتربوي، في حين احتفظت السلفية الجهادية بجاذبيتها لدى فئة من الشباب المتحمس للصدام مع الواقع المحلي والدولي.

لكن الدراسات الحالية، وإن كانت تُقر بوجود هذه الأطياف الثلاثة، فإنها تركز أساسًا على السلفية العلمية والدعوية، باعتبارهما النموذجين الأكثر تأثيرًا في الحياة الدينية والاجتماعية، والأقرب إلى البنية الرسمية في عدد من الدول، دون أن يُغفل السياق العام الذي مكّن التيار السلفي عمومًا من إعادة تشكيل الخطاب الديني الحديث، مستفيدًا من إخفاقات غيره، ومن مرونته الخاصة في التحول من الهامش إلى المركز.

المحور الرابع: الديناميات الرقمية – المنصة الجديدة للدعوة وتحدياتها على الحركات التقليدية

لقد أحدثت الثورة الرقمية تحولًا جذريًا في الفضاء الدعوي الإسلامي، بما يشبه “انقلابًا ناعمًا” على أنماط التلقي التقليدية. فقد انتقل مركز الثقل من المساجد والمؤسسات الدينية الرسمية وشبه الرسمية، إلى منصات التواصل الاجتماعي، حيث بات الفاعلون الجدد لا يُقاسون بعدد طلبة العلم الذين تخرجوا على أيديهم، بل بعدد المتابعين والإعجابات والمشاهدات. هذا التغير لم يكن تقنيًا فقط، بل مسّ بنية السلطة الدينية، وطبيعة الخطاب، وتفاعل الجمهور معه.

ففي السابق، كان الشيخ التقليدي، المتخرج من جامعة إسلامية أو مؤسسة علمية راسخة، يحتكر شرعية الخطاب باسم التخصص والتزكية، بينما أصبحت المنصات الرقمية تعج بـ”دعاة مؤثرين” قد لا يملكون أي تأهيل علمي رسمي، ولكنهم يمتلكون أدوات الإقناع والتأثير، والقدرة على صياغة محتوى مبسط، سريع الانتشار، وعاطفي التوجه. هذا ما يسميه البعض بـ”تحول المرجعية من العمامة إلى الكاميرا”، حيث لم يعد التلقي قائمًا على العمق بقدر ما أصبح مشروطًا بسرعة الوصول وسهولة الفهم.

وقد أظهر التيار السلفي، وخاصة بشقه الدعوي غير الحركي، قدرة لافتة على استثمار هذا التحول الرقمي. فقد تمكّن دعاة سلفيون من بناء جمهور واسع عبر منصات مثل يوتيوب وتيك توك والإنستغرام والتيليغرام، حيث يتصدر المشهد اليوم أسماء مثل عبد الله رشدي،  ووسيم يوسف (بصيغته الإماراتية)، إضافة إلى عدد كبير من الدعاة الشباب الذين يقدمون محتوى بصريًا خفيفًا يتراوح بين الفتاوى اليومية والردود السريعة واللقطات المثيرة للجدل.

كما برع السلفيون الرقميون في إعادة صياغة الخطاب ليكون أكثر قربًا من اهتمامات الجمهور: فتناولوا قضايا العلاقات، والربا، والموسيقى، والحجاب، والتعامل مع الأبناء، وغيرها من المواضيع اليومية، بلغة شعبية سهلة، بعيدة عن التنظير الأكاديمي. ساعدهم في ذلك توظيف أدوات مثل: المونتاج الجذاب، والقصص القصيرة، والمؤثرات الصوتية، والتفاعل الحي عبر التعليقات والبث المباشر، مما جعل الدعوة تبدو ترفيهية أحيانًا، لكنها فعالة في تشكيل الوعي الديني، لا سيما عند الجيل الرقمي الذي يفضل المعلومة المختصرة والسريعة.

في المقابل، تأخرت الحركات الإسلامية التقليدية، مثل جماعة الإخوان المسلمين، وعدد من الحركات الحركية المغربية والمشرقية، في إدراك عمق التحول. فقد ظلت تعتمد على القنوات الفضائية القديمة، أو المواقع الإلكترونية ذات الطابع النخبوي، بينما كانت التيارات الأخرى تقتحم الفضاءات التي يرتادها الشباب. كما ظل خطاب هذه الحركات حبيس اللغة الأيديولوجية الثقيلة، والتصورات الكبرى (الأمة، الدولة، الخلافة)، بينما كان الجمهور يبحث عن حلول لمشاكل الحياة اليومية.

ويظهر هذا التفاوت بوضوح في متابعة التفاعل الرقمي؛ حيث تحصد مقاطع قصيرة لبعض الدعاة السلفيين ملايين المشاهدات، في حين لا تتجاوز مقاطع بعض المؤسسات الدعوية التقليدية بضعة آلاف. كما أن الحضور التنظيمي للحركات التقليدية على المنصات الحديثة غالبًا ما يكون متأخرًا، ويفتقر إلى المرونة والإبداع.

ويُمكن فهم هذا التحول ضمن ما يُعرف بـ” التحول من التلقين إلى التفاعل“، حيث لم يعد الجمهور مجرد متلقٍ سلبي، بل أصبح يعلّق، ويشارك، ويعيد النشر، بل يطالب الدعاة بالرد على قضايا محددة. وهو ما استوعبه الخطاب السلفي، الذي تبنى نموذجًا تواصليًا أكثر أفقية، بدلًا من الخطاب الوعظي الهرمي التقليدي.

إن هذا التحول الرقمي في المجال الدعوي يشي بأن المعركة لم تعد فقط في مضمون الخطاب، بل أيضًا في منصة إنتاجه وتوزيعه. ولذلك، فإن من لا يملك الحضور الرقمي الفعال، غالبًا ما يتلاشى تأثيره، ولو كان يمتلك أعمق المخزون العلمي. وفي هذا السياق، يرى الباحث الأمريكي بيتر ماندافيل (Peter Mandaville) في دراسته حول “الدين والسياسة في الفضاء السيبراني”، أن “الإسلام لم يعد يُمارس فقط من خلال المؤسسات، بل أيضًا من خلال الهاشتاغات، والميمز، والمقاطع القصيرة، التي تصوغ فهمًا جديدًا للدين.”

المحور الخامس: شروط الصمود وإعادة التموقع – نحو نموذج إسلامي جديد

إذا أرادت الحركات الإسلامية التقليدية استعادة فعاليتها وتأثيرها في المشهد الديني والاجتماعي والسياسي، فإن ذلك يتطلب مراجعات جذرية وشاملة تتجاوز مجرد الإصلاحات السطحية أو التجميلية. هذه المراجعات لا بد أن تمس البنية الفكرية والتنظيمية والخطابية لهذه الحركات، انطلاقًا من وعي نقدي بالتاريخ، وفهم واقعي لتحولات الحاضر، واستشراف دقيق لمتطلبات المستقبل. ويمكن تحديد أبرز هذه المراجعات في المحاور التالية:

1. تجديد الخطاب الديني والفقهي:

لطالما تمحور خطاب الحركات الإسلامية التقليدية حول ثنائية “الحلال والحرام”، وركّز على الشكليات الشعائرية والسلوكيات الفردية، وأغفل الأبعاد المقاصدية الكبرى للدين. إن تجاوز هذا الإطار الضيق يتطلب تبني خطاب ديني أكثر شمولية وإنسانية، يُعلي من قيم الرحمة والعدل والكرامة والواقعية، ويضع الإنسان في قلب المشروع الإسلامي.

فعلى سبيل المثال، لا يكفي أن تكتفي الحركة بالتحذير من الربا، بل يجب أن تقدم بدائل اقتصادية عادلة، وتتبنى خطابًا يواكب النقاشات العالمية حول العدالة الاقتصادية، والتنمية المستدامة، ومكافحة الفقر. ولا يكفي الحديث عن “الاختلاط” في الجامعات، بل ينبغي الانخراط في تطوير رؤى حول إصلاح التعليم، وتمكين المرأة، وتوظيف الفقه لتحقيق المصلحة العامة.
وفي هذا السياق، يمكن الاستفادة من اجتهادات مدرسة مقاصد الشريعة الحديثة، كما نجد لدى العلامة علال الفاسي أو الشيخ الطاهر بن عاشور، أو مقاربات المعاصرين من أمثال راشد الغنوشي وطارق رمضان، الذين حاولوا ربط الدين بأسئلة الحرية والعدالة والهوية في سياقات معقدة.

2. إعادة هيكلة التنظيمات: من الجماعة إلى الشبكة:

تعاني الحركات الإسلامية من جمود تنظيمي مزمن، حيث تشتغل بمنطق الجماعة المغلقة الهرمية، مما ينتج نخبًا مكرورة، وضعفًا في تجديد القيادة، وتهميشًا للكفاءات النسائية والشابة. المطلوب اليوم هو التحول نحو نموذج الحركة الشبكية، أي التنظيم المرن، القائم على اللامركزية والتخصص والتشبيك المفتوح.

لقد أثبتت تجارب الواقع أن النموذج الشبكي أكثر قدرة على التفاعل مع الأحداث، كما رأينا في نجاح حركات مثل حملة “حزب النور” في مصر قبل 2013 في استغلال وسائل التواصل لبناء قاعدة شعبية واسعة، أو نجاح حركات شبابية كـ”العدالة المناخية” و”حركة 20 فبراير” في المغرب في جذب الجماهير عبر التنوع والانفتاح.

لا بد للحركات الإسلامية من إعادة الاعتبار للتنظيم غير المؤدلج، القائم على الوظيفة وليس على الولاء، وعلى المشترك القيمي لا الانتماء الحزبي، وعلى التفاعل الأفقي بدل التراتبية العمودية.

3. بناء شراكات استراتيجية مع الفاعلين الجدد:

من أبرز مظاهر فشل الحركات الإسلامية التقليدية عزلتها عن الفاعلين الجدد في المجتمع، خصوصًا النساء والشباب والنشطاء الحقوقيين والبيئيين والفنانين. بدلًا من الاكتفاء بالخطاب الأخلاقي التقليدي، ينبغي إقامة جسور تعاون وشراكة مع هذه القوى، بما يخدم المصلحة العامة ويكسر الصور النمطية.

على سبيل المثال، يمكن أن تتعاون الحركات الإسلامية مع منظمات الدفاع عن البيئة في مشاريع التنمية المستدامة من منطلق القيم الإسلامية في “العمارة والإصلاح”، أو مع حركات حقوق الإنسان في الدفاع عن كرامة المعتقلين السياسيين أو ضحايا التهميش، بدل أن تظل رهينة معارك الهوية فقط.

لقد أظهر الواقع أن العمل التشاركي يعزز الشرعية الاجتماعية والسياسية، كما حدث في بعض تحالفات المجتمع المدني في تونس بعد الثورة، حين اجتمعت قوى مختلفة، بما فيها الإسلاميون، حول أهداف مشتركة كالدستور والعدالة الانتقالية.

4. استيعاب منطق العصر وفهم آليات التأثير الجديدة:

التحولات التكنولوجية والرقمية فرضت واقعا جديدا، لم تعد فيه السلطة بيد من يمتلك المنبر أو الكتاب، بل بيد من يتقن الخطاب الرقمي وصناعة الصورة والتأثير الرمزي. الحركات الإسلامية مطالبة بفهم هذه البيئة، لا فقط كأداة دعوية، بل كفضاء إنتاج فكري ونفسي وثقافي جديد.

يتطلب ذلك تكوين نخب جديدة متمكنة من أدوات الإعلام الرقمي، والتحليل النفسي الاجتماعي، وتكنولوجيا الاتصال.

ومن أبرز النماذج التي فهمت هذا التحول مبكرًا حركة النهضة في تونس، حين دعمت تكوين كوادر إعلامية محترفة، وانفتحت على الإعلام المدني والرقمي، بعكس حركات تقليدية بقيت رهينة المنشورات الورقية أو المحاضرات المغلقة.

في المقابل، فإن صعود “المؤثرين الدينيين” الذين لا ينتمون لتنظيمات، يكشف أن الجمهور اليوم لا يبحث عن “الشرعية التنظيمية” بل عن “القدرة على الإقناع والتواصل”. من هنا تبرز الحاجة لصياغة خطاب تفاعلي، مرن، وغير سلطوي.

 المحور السادس: تأثير التحولات الجيوسياسية والصراعات الإقليمية

لم تكن الحركات الإسلامية التقليدية بمعزل عن التأثير العميق للتحولات الجيوسياسية والصراعات الإقليمية والدولية التي عرفها العالم العربي والإسلامي منذ النصف الثاني من القرن العشرين. فمنذ نشأتها، وجدت هذه الحركات نفسها في قلب صراعات كبرى شكلت معالم تحركها وأثرت على خطابها واستراتيجياتها. فقد أسهم الصراع العربي الإسرائيلي في إذكاء الشعور بالهوية الدينية والقومية، مما دفع العديد من الحركات، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، إلى تبني خطاب مقاوم ضد “العدو الصهيوني”، وقدمت نفسها كبديل عن الأنظمة القومية التي فشلت في تحرير فلسطين، بل اتُهمت أحيانًا بالتواطؤ أو التقصير.

في مرحلة الحرب الباردة، وجدت بعض الحركات الإسلامية نفسها في موقع التوظيف السياسي، إذ دعمت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون الإسلاميين في سياق مواجهة الشيوعية، كما حصل في أفغانستان مع دعم “المجاهدين” ضد الاتحاد السوفياتي، وهو ما انعكس أيضًا على بعض الحركات في المشرق العربي التي استفادت من هذا المناخ لتمدد نفوذها تحت غطاء “الدفاع عن الإسلام ضد الإلحاد الشيوعي”.

غير أن الزلزال الأكبر تمثل في أحداث 11 سبتمبر 2001، والتي شكلت نقطة تحول مفصلية في علاقة الإسلاميين بالعالم. فقد تم الخلط، سياسيًا وإعلاميًا، بين الإسلام السياسي السلمي والتيارات الجهادية ، مما أدى إلى تضييق واسع على الحركات الإسلامية، حتى تلك التي اختارت العمل السلمي والمؤسساتي. وشهدت هذه المرحلة تصاعدًا في الخطابات المعادية للإسلام، وازديادًا في الضغوط الأمنية، خاصة في بلدان الخليج وشمال إفريقيا.

ثم جاءت موجة الربيع العربي في 2011 لتفتح أفقًا جديدًا، بدا وكأنه يمثل فرصة تاريخية أمام الحركات الإسلامية للانتقال من هامش المعارضة إلى مركز الحكم. صعدت قوى إسلامية تقليدية، مثل “حزب العدالة والتنمية” في المغرب و”النهضة” في تونس، و”الإخوان المسلمون” في مصر، مستفيدة من حالة الفراغ التي خلفها سقوط الأنظمة السلطوية. غير أن هذا الصعود كان قصير الأمد في بعض السياقات؛ ففي مصر، أدى انقلاب 2013 إلى الإطاحة بالإخوان، وما تلاه من تصنيفهم “جماعة إرهابية” في بعض الدول، بينما في تونس والمغرب، واجهت الحركات الإسلامية تحديات داخلية وخارجية جعلتها تدخل في مسار تراجعي تدريجي.

كما أثرت الصراعات الإقليمية الجديدة وصعود قوى مثل إيران وتركيا والإمارات والسعودية في إعادة تشكيل خريطة التحالفات والدعم الإقليمي، مما انعكس مباشرة على الحركات الإسلامية. فقد أدى تصاعد التوتر السني-الشيعي إلى انقسام بعض الحركات بين مؤيد للسياسات الإيرانية (مثل حماس في فترة ما)، ومعارض لها بشدة، مما خلق نوعًا من التشظي في المواقف، وأضعف وحدة الصف الإسلامي. كما لعب التمويل دورًا حاسمًا، إذ تم تجفيف منابع الدعم في بعض الحالات، أو توجيهها نحو تيارات دعوية أكثر انسجامًا مع سياسات الدول الراعية.

في ظل هذه التحولات، اضطرت بعض الحركات إلى إعادة ترتيب أولوياتها، فانتقلت من خطاب الثورة والتغيير الجذري إلى خطاب التدرج والإصلاح من الداخل، كما حصل مع حزب العدالة والتنمية في المغرب، أو اختارت الانسحاب من الحياة السياسية كما فعلت “النهضة” مؤخرًا بعد سنوات من المشاركة. في المقابل، حاولت حركات أخرى التشبث بخطابها الأصلي، لكنها واجهت حصارًا سياسيًا وإعلاميًا أفقدها الكثير من قدرتها على التأثير في المجال العام.

إن تفاعل الحركات الإسلامية مع هذه التحولات الجيوسياسية لم يكن واحدًا، بل اتسم بالتنوع حسب السياق المحلي والوزن التنظيمي والمرجعية الفكرية، لكنه في مجمله يعكس تراجعًا تدريجيًا عن مواقع القوة والفاعلية، ودخولًا في مرحلة من المراجعة أو الانكفاء، أو إعادة التموضع في مشهد سياسي متغير لا يعترف بالثوابت القديمة.

المحور السابع: دور المرأة والشباب في مستقبل الحركات الإسلامية

منذ نشأتها، غالبًا ما تعاملت الحركات الإسلامية التقليدية مع المرأة والشباب كفئات “مساعدة” أو “مساندة” للقيادة المركزية التي يهيمن عليها رجال من جيل المؤسسين أو النخب الدعوية التقليدية. فقد كانت أدوار النساء غالبًا محصورة في الأعمال الاجتماعية والتربوية، مثل تنظيم الأسر النسائية، والمشاركة في الحملات الخيرية، وتفعيل التربية الدعوية داخل البيوت. أما الشباب، فكان يُنظر إليهم كاحتياطي بشري لدعم القواعد التنظيمية، من خلال المهام اللوجستية أو التعبئة الميدانية.

غير أن التحولات الاجتماعية والثقافية الكبرى، التي عرفتها المجتمعات الإسلامية في العقود الأخيرة، فرضت معطيات جديدة على هذه الحركات، وجعلت من استمرار هذه الرؤية التقليدية عبئًا على قدرتها في التجديد والاستمرارية. فقد أدّت عوامل متعددة، مثل التعليم العالي، وانتشار وسائل التواصل الرقمي، وتنامي الخطاب الحقوقي، وصعود الحركات النسوية، إلى رفع منسوب الوعي لدى النساء والشباب بمكانتهم داخل المجتمع، وبحقهم في المشاركة الكاملة في صياغة القرار السياسي والديني داخل التنظيمات التي ينتمون إليها.

 الخاتمة: نحو مستقبل ديني منفتح ومستوعب

تمرّ الحركة الإسلامية التقليدية بمنعطف تاريخي حاسم، يضعها أمام خيارين لا ثالث لهما: إما التراجع والانحسار نحو هامش التأثير، أو التجديد الجذري الذي يمكنها من استعادة فعاليتها ودورها. لقد أظهرت الدراسة أن أسباب هذا التراجع متعددة ومتشابكة، تتراوح بين الجمود الفكري والتنظيمي، والفشل في التكيف مع التحولات الاجتماعية والثقافية، والعجز عن مواكبة الديناميات الرقمية، بالإضافة إلى تأثير التحولات الجيوسياسية والصراعات الإقليمية. كما أن صعود التيار السلفي والدعوة الرقمية قد كشف عن نقاط ضعف جوهرية في بنية وخطاب الحركات التقليدية.

إن التحدي الأكبر الذي يواجه هذه الحركات اليوم هو كيفية إعادة تعريف دورها في عالم متغير، دون التخلي عن مبادئها الأساسية. هذا لا يعني نهاية العمل الاسلامي كقوة فاعلة في المجتمعات، بل يدعو إلى التفكير في نموذج جديد للديناميات الدينية، يتجاوز الأطر التقليدية الضيقة. هذا النموذج يجب أن يكون منفتحًا على الاجتهاد، قادرًا على استيعاب تعقيدات العصر وتحدياته، وأن يركز على القيم الإنسانية المشتركة، والعدالة الاجتماعية، والرحمة، والمشاركة. يجب أن تستفيد هذه الحركات من دروس الماضي، وأن تتحلى بالشجاعة الكافية لإجراء مراجعات فكرية وسياسية شاملة، وأن تتبنى آليات عمل مرنة وشبكية، تمكنها من بناء شراكات حقيقية مع مختلف فئات المجتمع، خاصة الشباب والنساء.

إن المستقبل الديني في المنطقة والعالم يتجه نحو أشكال أكثر تنوعًا وتعددية، حيث تتكسر الاحتكارات التقليدية للمعرفة والسلطة الدينية. وفي هذا السياق، يمكن للحركات الإسلامية التقليدية، إذا ما اختارت مسار التجديد الحقيقي، أن تستعيد مكانتها كقوة أخلاقية وفكرية تسهم في تحرير الإنسان وتنميته، لا كأداة للهيمنة والتنميط. إنها دعوة للتفكير في إسلام مستقبلي، يجمع بين الأصالة والمعاصرة، ويستوعب الإنسان بكل أبعاده، ويقدم حلولًا للتحديات الراهنة، ويساهم في بناء مجتمعات أكثر عدلًا وإنسانية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *