الجزائر وطرابلس ورهانات الانفصال في الصحراء (1970–1973): قراءة في الأرشيف الفرنسي واستراتيجيات الدولة الحاجزة (وثائق)

تشكل الفترة الممتدة بين مطلع السبعينيات وبداية سنة 1973 منعطفاً حاسماً في تاريخ المنطقة المغاربية، إذ انتقلت قضية الصحراء من مجرد ملف مرتبط بتصفية الاستعمار الإسباني إلى ورقة جيوسياسية وظّفتها الجزائر وليبيا في صراعهما الإقليمي مع المغرب. وتكشف الوثائق الفرنسية التي أُفرج عنها مؤخراً أن هذا التحول لم يكن وليد اللحظة أو نتاج ظروف ظرفية، بل كان ثمرة تخطيط منهجي استهدف إضعاف المغرب وإعادة رسم موازين القوى في المنطقة.
فقد أبانت أرشيفات يناير 1971 أن فكرة “منظمة تحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب”، التي تعود بدايتها إلى سنة 1969، لم تكن حركة تلقائية أو طبيعية النشأة، بل كانت بذرة أولية لمشروع انفصالي غذّته الجزائر ورعته عبر وسائلها الإعلامية والسياسية. ولعل أحداث العيون يوم 17 يونيو 1970، التي أسفرت عن سقوط ضحايا في مواجهة مع سلطات الاستعمار الإسباني، شكلت لحظة ميلاد خطاب انفصالي جديد، انتقل من مجرد المطالبة بإنهاء الوجود الإسباني إلى الترويج لخيار الانفصال التام، وهو خطاب تمت صياغته وتسويقه دولياً عبر الصحافة الجزائرية في ظل مناقشات الأمم المتحدة حول مستقبل الصحراء.
في هذا السياق برز التحالف الجزائري–الليبي، الذي تبلور بين عامي 1972 و1973، باعتباره أكثر من مجرد تعاون سياسي ظرفي، إذ كان عبارة عن مشروع متكامل لإنتاج فاعل متمرّد يخدم أهدافاً استراتيجية محددة. الجزائر وفّرت المظلة الدبلوماسية والدعم اللوجستي، بينما تكفلت ليبيا بتمويل وتسليح الحركات الناشئة، وساهمت في توفير شبكات تهريب عابرة للحدود. والواقع أن جوهر هذا التحالف لم يكن موجهاً نحو تحرير الأرض من الاستعمار الإسباني بقدر ما كان يسعى إلى إقامة حاجز استراتيجي يفصل المغرب عن عمقه الإفريقي، في انسجام مع ما يُعرف في حقل العلاقات الدولية باستراتيجية الدولة الحاجزة (buffer state strategy).
والملاحظ أن توظيف العنف والإرهاب كأداة للصراع ظهر مبكراً في هذا المسار، حيث برزت شحنات الأسلحة التي تم ضبطها قرب مراكش سنة 1973 كدليل على وجود إرادة منظمة لزعزعة الاستقرار الداخلي للمغرب. كما تواصلت هذه المقاربة في ما عُرف بعملية بومدين سنة 1979، ثم في الخطابات التحريضية التي طُرحت لاحقاً خلال التسعينيات، وتجد صداها حتى في العقدين الأخيرين. كل هذه الوقائع تندرج ضمن ما يُصطلح عليه بالإرهاب المدعوم من الدولة (state-sponsored terrorism)، حيث تتحول الحركات الانفصالية إلى وكلاء استراتيجيين (proxy actors) في خدمة أجندات أنظمة إقليمية.
إن القراءة الجيوسياسية لهذه الحقبة تكشف بوضوح أن الجزائر لم تكن تسعى إلى “تمكين الصحراويين” أو الدفاع عن حقوقهم، بقدر ما كانت تعمل على إضعاف المغرب ومناورته دبلوماسياً، متجاوزة بذلك التزاماتها في اتفاقات إفران وتلمسان. فخلق فاعل صحراوي بديل لم يكن غاية نهائية، بل وسيلة لإعادة التوازن بعد تداعيات حرب الرمال سنة 1963 وورقة ضغط دائمة في ملف الحدود غير المحسومة. ومن ثم، يمكن القول إن الانفصال لم يكن في حد ذاته هدفاً، بل مجرد أداة استراتيجية داخل صراع إقليمي أكبر.
وخلاصة القول، إن المرحلة الممتدة من 1970 إلى 1973 تكشف أن قضية الصحراء لم تنشأ من رحم المطالب المحلية وحدها، وإنما تمت صناعتها كمشروع إقليمي مضاد وظفته الجزائر وليبيا لإضعاف المغرب وإعادة تشكيل الخريطة السياسية للمغرب الكبير. وقد أسس هذا التحالف لنزاع طويل الأمد ما زالت تداعياته قائمة، في حين اعتمد المغرب على شرعيته التاريخية والسياسية للدفاع عن وحدة ترابه الوطني. إننا هنا أمام حالة نموذجية في العلاقات الدولية تبرز كيف يمكن لقوى إقليمية أن تستثمر ورقة الانفصال والإرهاب لإعادة صياغة الجغرافيا السياسية، وهي دروس لا تخص المغرب وحده، بل تشمل كل الدول التي تواجه مخاطر تسييس الهويات والانقسامات الداخلية وتحويلها إلى أدوات للصراع.
اترك تعليقاً