وجهة نظر

لا يمكن ضبط الحياة السياسية في المغرب بمنطق دستور 1996 والمؤسسة الملكية حريصة على احترام روح وفلسفة دستور 2011

دستور 2011 وثنائية السلطة التنفيذية
لقد أسهمت الوثيقة الدستورية لـ 29 يوليوز 2011 في إعادة توزيع السلطة التنفيذية، بتقييد السلطة التقديرية للملك في تعيين رئيس الحكومة وأثره في التخفيف من عدم التوازن بين السلطات، وحضور المنهجية الديمقراطية في تعيين رئيس الحكومة من الحزب المتصدر لانتخابات أعضاء مجلس النواب.

دستور 2011 أجاب عن جزء من الطالب الكتلة الديمقراطية وكذا الشعارات التي رفعت في سياق الدينامية الاحتجاجية لحركة 20 فبراير التي رفعت مطلب الملكية البرلمانية كشعار يرادف مفهوم الانتقال إلى النظام البرلماني الذي يوسع من صلاحيات الحكومة، باعتباره جهازا تنفيذيا منبثقا من الإرادة الشعبية المعبر عنها بصناديق الاقتراع، وبالتالي فالفصل 89 من دستور 2011 أضحى ينص على أن الحكومة تمارس السلطة التنفيذية، وأن الحكومة تعمل، تحت سلطة رئيسها، على تنفيذ البرنامج الحكومي وعلى ضمان تنفيذ القوانين، وأن الإدارة موضوعة تحت تصرفها، كما تمارس الإشراف والوصاية على المؤسسات والمقاولات العمومية.

وبموجب الباب الخامس من الدستور، فإن رئيس الحكومة، يمارس السلطة التنظيمية ويعين في الوظائف وفي المؤسسات والمقاولات العمومية، وهو ما يعني إرجاع العديد من المؤسسات العمومية إلى منطق التبعية للحكومة وإخضاعها للسياسة العامة للدولة التي أصبحت من اختصاص مجلس الحكومة قبل عرضها على المجلس الوزاري.
من الناحية الدستورية، تحول رئيس الحكومة إلى طرف أصيل وأساس في تعيين سائر أعضاء الحكومة وإعفائهم انطلاقا من تطور صلاحيته الاقتراحية في هذا المجال، بالإضافة إلى تقييد الإطار الدستوري لسلطة الملك في التعيين في المناصب العليا التي أصبحت تدخل في المجال المشترك بين الحكومة والملك.

لكن في المقابل من ذلك، فإن المؤسسة الملكية ما زالت حاضرة بشكل قوي على مستوى المجال التنفيذي من خلال بوابة المجلس الوزاري الذي يحتل مكانة أهم من مجلس الحكومة؛ فهو يحتفظ بصلاحيات استراتيجية وتحكيمية وتوجيهية (خطاب 17 يونيو 2011)، ويتداول في التوجهات الاستراتيجية للدولة في مشاريع مراجعة الدستور، أي: في السلطة التأسيسية الفرعية والقوانين التنظيمية، أي تلك القوانين التي تحدد المبادئ العامة للدستور، وكذلك مصير المؤسسات السياسية الأساسية في الدولة، ناهيك عن أن المجلس الوزاري يقرر في السياسة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية للدولة من خلال تحديد التوجهات العامة لمشروع قانون المالية (الفصل 49)، ومشاريع قوانين الإطار التي يُعرفها (الفصل 71)، دون أن نغفل أن المجلس الوزاري الذي يترأسه الملك ينظر في قضايا أخرى، من قبيل، مشاريع قوانين العفو العام والنصوص المتعلقة بالمجال العسكري وإعلان حالة الحصار وإشهار الحرب، ويحال إليه مشروع مرسوم رئيس الحكومة القاضي بحل مجلس النواب، وينظر كذلك في التعيينات باقتراح من رئيس الحكومة في إطار القانون التنظيمي المحدد للائحة المؤسسات الاستراتيجية للدولة.

المسالك الدستورية لمواجهة الأزمات في ظل التطبيق الديمقراطي للدستور
يتضح بشكل جلي بأن الملك يحترم الفقرة الأولى من الفصل 47 من دستور 2011 التي تسند رئاسة الحكومة إلى الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها، رغم أن هذا المقتضى يثير تأويلا على مستوى التفعيل العملي، حيث لم يشترط النص الدستوري في تعيين رئيس الحكومة أن يكون الأمين العام أو رئيس الحزب.

وفي ذات المنحى، اتجهت الممارسة الملكية إلى تعيين رئيس الحكومة من الحزب الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب (2011/ العدالة والتنمية-2016/ العدالة والتنمية-2021/ التجمع الوطني للأحرار)، مما يعني أن المؤسسة الملكية تحترم المنهجية الديمقراطية التي تتماشى مع منطوق دستور 2011 ومع فلسفة خطاب 9 مارس 2011.

وهكذا، مادام أن التعيين الملكي لرئيس الحكومة يظل شكليا مقيدا بنتائج صناديق الاقتراع، فإن إعفاء رئيس الحكومة يستند على هذه الفلسفة المستمدة من قاعدة توازي الشكليات، تحت طائلة السقوط في أحكام الفقرة الأولى من الفصل 47 التي ترتب حصانة دستورية لرئيس الحكومة أمام الملك، حيث لا يتوفر هذا الأخير من الناحية الدستورية على حق إعفاء رئيس الحكومة، وهذا ما يُفهم من منطوق الفقرة الثالثة من الفصل 47 التي تنص على أنه للملك بمبادرة منه، بعد استشارة رئيس الحكومة أن يعفي عضوا أو أكثر من أعضاء الحكومة من مهامهم، وبمفهوم المخالفة؛ لا ينبغي أن يُفهم من عبارة “أو أكثر من أعضاء الحكومة”، أن رئيس الحكومة يدخل ضمن العبارة التي سبقت الإشارة إليها.

ومن هذا المنطلق، يطرح التساؤل حول المسالك الدستورية المحتملة في حالة وقوع بعض التوترات أو الاحتكاكات أو غيرها من الصراعات التي تجعل رئيس الحكومة في قلب النقاش العمومي، حيث يمكن التعويل على المسالك الدستورية التالية:

– المسلك الأول: في حالة إقرار رئيس الحكومة بفشله أو تجاوبه مع المطالب الشعبية أو إذا شعر بتفكك أغلبيته أو أي سبب من الأسباب الناتجة عن عدم قدرته على الاستمرار في قيادة الحكومة؛ يمكن له تقديم (أي رئيس الحكومة لاستقالته الطوعية للملك) وهو ما يجد سنده في الفقرة السادسة من الفصل 47 من دستور 2011 تنص على أنه يترتب على استقالة رئيس الحكومة إعفاء الحكومة بكاملها من لدن الملك).

– المسلك الثاني: إذا استمرت مدة التوتر وطال أمدها، ورفض رئيس الحكومة تقديم استقالته الطوعية والاختيارية، فإنه لا يوجد نص صريح يعطي للملك حق إعفاء رئيس الحكومة، وهذا ما يتيح للملك إعمال هذا الإجراء بطريقة غير مباشرة من خلال حل مجلسي البرلمان أو أحدهما (استنادا للفصول، 51 ــ 96 ــ 97 ــ 98 من دستور 2011) الذي يترتب عليه استقالة رئيس الحكومة المكلف بالمشاورات وإجراء انتخابات في أجل شهرين، وهو مسلك غير عادي من شأنه أن يدخل المغرب في أزمة دستورية ويعبر عن عدم استقرار سياسي، ومن شأنه أن يشجع الشارع على تفعيله (أي هذا المسلك) في مواجهة الحكومات القادمة، مما قد يؤثر على الاستقرار الحكومي، فضلا عن كونه مسلكا سيمنح الحكومة فرصة التهرب من مسؤوليتها بحجة أنها لم تمنح لها الولاية الزمنية الكاملة لاستكمال برنامجها الحكومي.

– المسلك الثالث: إمكانية الملك إعفاء رئيس الحكومة، وتعيين شخصية ثانية من نفس الحزب الحاصل على المرتبة الأولى لاستكمال ما تبقى من الولاية الحكومية، وهو إجراء يتعذر البحث له عن سند دقيق وواضح في الدستور؛ حيث يصعب القياس على واقعة إعفاء رئيس الحكومة المكلف (عبد الإله بنكيران) على اعتبار أن هذا الأخير لم يستطع جمع الأغلبية ويعد رئيس حكومة غير منصب من قبل الأغلبية المتمثلة في مجلس النواب.

الحرص الملكي على التأويل الديمقراطي للدستور من خلال عدم التدخل في الخلافات الحكومية والحزبية
أظهرت الممارسة السياسية الملكية، ما بين سنة 2011 وسنة 2025 بروز العديد من الأحداث التي كان بإمكان الملك أعمال مقتضيات الفصلين 51 أو 59 من دستور 29 يوليوز 2011، إلا أن التفسير الملكي الديمقراطي حال دون الإعلان عن حل البرلمان أو حالة الاستثناء (خلال تأخر تشكيل الحكومة المنبثقة عن انتخابات أكتوبر 2016، وأثناء مناوشات الكركرات، وخلال احتجاجات الريف بالحسيمة، واحتجاجات منطقة جرادة شرق المغرب ، جائحة وباء كورونا، فضيحة امتحان المحاماة، احتجاجات الطلبة الأطباء، النقاش حول تقديم ملتمس الرقابة، ثم باقي الاحتجاجات سواء الفئوية أو المطالبة بالحق في الماء أو تجويد بعض الخدمات….).

لابد من التذكير بالخلافات السياسية التي عرفتها حكومة السيد عبد الاله بنكيران الأولى التي عجلت بإصدار حزب الاستقلال لبيان مجلسه الوطني المنعقد في 11 ماي 2013 بالرباط معبرا فيه عن قراره الانسحاب من الحكومة، وطلب التحكيم الملكي بناء على مقتضيات الفصل 42 من دستور 2011.

وفي المقابل، يظهر، بشكل جلي، أن الملك برفضه استعمال التحكيم الملكي، يكون قد أوّل هذا الخلاف تأويلا ديمقراطيا، واعتبر بأن الصراع ذو تكييف سياسي ويتخذ صبغة خلاف داخلي بين أحزاب التحالف الحكومي، ولا يرقى إلى قضية التحكيم أو التدخل الملكي.

لذلك، يلاحظ أنه بالرغم من الإقرار الصريح لدستور 2011 لمفهوم الحكم الأسمى بين مؤسساتها الذي يسهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية المؤطرة بمقتضيات الفصل 42 من الدستور، فإن الملك أصبح يتشدد في تكييف الوقائع التي تتطلب تحكيما ملكيا، ويتجلى ذلك من خلال الكثير من الوقائع، لعل أهمها واقعة انسحاب حزب الاستقلال، من حكومة عبد الإله بنكيران في سنة 2013 ومطالبة قيادة حزب الاستقلال بالتحكيم الملكي، ثم واقعة تأخر تشكيل الحكومة فيما أضحى يعرف إعلاميا “بالبلوكاج الحكومي” المرتبطة بنتائج الانتخابات التشريعية لسنة 2016، حيث تدخل الملك مستخدما التحكيم الملكي في إطار التمسك بنفس الحزب المتصدر، والقيام بإعفاء رئيس الحكومة المكلف (غير المنصب من قبل مجلس النواب) وتعويضه بشخص ينتمي إلى نفس الحزب في إطار التقيد بالمنهجية الديمقراطية، ونفس التوجه سلكته المؤسسة الملكية خلال النقاش حول مدونة الأسرة وكذا التفكير في طرح ملتمس الرقابة لإقالة الحكومة والنقاش حول إصلاح القوانين الانتخابية وغيرها من الخلافات السياسية.

وهكذا ترسخت الكثير من التقاليد التي عززتها الممارسة الملكية بعد دستور 2011 من خلال حرص المؤسسة الملكية على احترام مبدأ فصل السلط، من خلال تجنب تفعيل فصول استثنائية كحل البرلمان أو إعلان حالة الاستثناء أو التدخل في اختصاصات المؤسسات الدستورية، رغم تعدد الأزمات. كما رفض الملك التدخل في الخلافات الحزبية، معتبرا إياها شأنا سياسيا داخليا، مما يعكس التزاما بتوزيع الاختصاصات كما حدده الدستور، خاصة ما يتعلق بدور رئيس الحكومة في تدبير الشأن العام وإدارة السياسات العمومية وتنفيذ البرنامج الحكومي، مع احتفاظ الملك بدوره كمهندس للتوجهات الكبرى وضامن لوحدة الدولة واستمرارية مؤسساتها.

أمين السعيد: أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية بجامعة سيدي محمد بن عبد الله فاس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *