وجهة نظر

جلالة الملك محمد السادس: مهندس الزمن والمجال

​عندما يلوح جلالة الملك بالراية المغربية، إيذاناً بانطلاق تدشين مشروع ما، فإنه لا يحرّك مجرد قطعة قماش في الهواء، بل يوقظ ذاكرة الأرض ويستدعي أرواح المجال. إنها لحظة رمزية تعيد إنتاج السيادة في الفضاء العام، وتجدّد الصلة الوجودية بين السلطان ومجاله. الراية هنا ليست مجرد رمز، بل هي شِفرة الانتماء، ختم الشرعية، وبيعة المجال ذاتها. بها يُعاد ترسيم العلاقة بين الحاكم والمكان، بين الروح والجسد، وبها تُعلن بداية طقس من طقوس التجلّي العمراني.

​بالأمس، لم يكن مشروع النقل السككي الجهوي في الدار البيضاء مجرد بنية تحتية، بل كان تطريزاً حضرياً يُعيد تشكيل النسيج الاجتماعي للمدينة. الحديد، الذي يحمل دلالات القوة والصلابة، يتحوّل إلى خيوط من نور تُطرّز بها المدينة، كما تُطرّز العباءة الملكية بغرز السيادة والرحمة. القطارات لا تنقل الأجساد فقط، بل تحمل الرموز، وتُعيد صياغة الإيقاع اليومي، وتخلق فضاءات جديدة للتفاعل والعيش. الأطراف تُربط بالمركز، والتهميش يُستبدل بالتمدين والاندماج، والجماعة تُعاد تشكيلها بالفعل اليومي المعاش، لا بالخطاب النظري.

​الملك لا يدشن البنية المادية فحسب، بل يُعيد تشكيل بُنية الزمن. كل مشروع ملكي يحمل “توقيعاً زمنياً” خاصاً، يُدخل المدينة في دورة جديدة من التحديث المتسارع. يُعاد إنتاج التاريخ عبر الفعل العمّار، ويُعاد تشكيل المستقبل عبر لحظة التدشين. الملك هنا هو صانع الإيقاع الحضري، مهندس السيادة، وقطب البركة. حضوره الطقسي يمنح المشروع شرعية روحية عميقة، ويُعيد إطلاق دورة الحياة في شرايين المكان.

​تُعامل الدار البيضاء ككائن حي له نبض وذاكرة وجراح. والمشروع الملكي هو عملية جراحية رمزية تُعيد وصل الأعضاء، وتُعيد توزيع الطاقة التنموية، وتُعيد تعريف “البيضاوي” بوصفه انتماءً حيّاً يُصاغ بالحركة والمشاركة الفاعلة. كل مشروع ملكي يُعيد كتابة الذاكرة الجمعية، ويحوّل التنقل من مجرد امتياز إلى فعل يومي متاح، ومن تهميش جغرافي إلى اندماج هوياتي.

​اليوم، ومن الأرض إلى السماء، ومن السكة إلى المحرك، ومن الجهوي إلى الكوني، يطلق الملك محمد السادس أشغال المركب الصناعي المتخصص في محركات الطائرات بالنواصر. هذا ليس مجرد انطلاقة تقنية، بل فعل رمزي يعيد تشكيل العلاقة بين الدولة، الروح، والصناعة. النواصر، باسمها ودلالتها، تصبح مقاماً للانطلاق والصعود، للبركة، وللربط المقدس بين الأرض والسماء. المحرك هو القلب النابض، هو السر الكامن، هو مصدر القوة. وحين يصنع المغرب محركات الطائرات، فإنه يصنع أدوات للتحليق، ويصنع رمزية جديدة لوجوده الحضاري.

​الانتقال من السكة إلى المحرك ليس تحوّلاً تقنياً وحسب، بل هو قفزة في الرؤية، وفي الطموح الوطني، وفي اللغة الرمزية التي تتحدث بها الدولة إلى شعبها والعالم. الأرض تُمثل الثبات والرسوخ، والسماء تُمثل الانعتاق والآفاق. السكة هي السير الحثيث في الطريق، والمحرك هو التحليق الواثق في فضاء المعنى. المشروع الصناعي الجديد يعكس رؤية ملكية متبصرة بعيدة المدى، لكنه يعكس أيضاً إرادة روحية للارتقاء، للانعتاق، وللربط بين المادة والمعنى.

​وجود ولي العهد الأمير مولاي الحسن إلى جانب الملك يُضفي بُعداً استمرارياً مهماً، وكأن المشروع امتداد لسلالة رمزية تحمل في طياتها فكرة التجدد، والربط العضوي بين الماضي والمستقبل. الصناعة، حين تُسخّر لخدمة الإنسان والوطن، تصبح ضرباً من العبادة والإتقان. مصنع محركات الطائرات ليس مجرد فضاء تقني، بل مقام للإتقان، للابتكار، للاستدامة. هذه القيم الثلاث هي جوهر التحول المغربي من الترسيم الجغرافي إلى الانطلاق العالمي، من المحلية إلى الكونية، ومن البنية المادية إلى الروح الخلاقة.

​الملك لا يتحدث دائماً بالكلمات، بل يكتب بلغة الرمزية العميقة، بلغة الجسد، بلغة “الصمت الذي يصرخ بالمعنى”. من المشروع السككي إلى محرك الطائرة، من الأرض إلى السماء، يكتب المغرب فصلاً جديداً في سرديته الوطنية، حيث يصبح الفضاء العمراني مَظهراً حياً للمواطنة، والإيمان، والسيادة، في آنٍ واحد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *