“من الوهابية إلى الإسلام” .. لشهب: هذه رحلتي من الوهابية إلى العقل (الحلقة 11)

ضمن هذا الشهر الكريم، نعرض عليكم متابعي جريدة “العمق” سلسلة جديدة مع الكاتب خالد لشهب. يروي فيها تجربته من “اعتناق” مذهب بن عبد الوهاب إلى مخاض الخروج إلى رحابة الإسلام، بما يبشر به من قيم الجمال والتسامح والرحمة …
السلسلة هي في الأصل مشروع كتاب عنونه مؤلفه بـ «من الوهابية إلى الإسلام»، حيث يُحاول من خلال عرض تجربته بأسلوب يزاوج بين السرد والاسترجاع والنقد.
جريدة “العمق” ستعرض طيلة هذا الشهر الفضيل، الكتاب منجما في حلقات، يحاول من خلالها الكاتب نثر الإشارات التي قد تكون دافعا ووازعا لكثير من الشباب للخروج من ظلمة الوهابية إلى رحابة الإسلام عملا وظنا.
الحلقة 11: من الوهابية إلى العقل
كان أول اتصالي بالعقل أيام ازدرائه في مؤلفات السلفية، فالمعلوم أن هؤلاء يزدرون العقل ويكرهون الرأي والتأويل، حتى لتجد من المتأخرين منهم من يحتج عليك بقول سفيان الثوري: “فإن استطعت ألا تحك رأسك إلا بأثر فافعل”، وهذه والله قمة السخافة منهم في ازدراء العقل حتى فيما هو معلوم بالفطرة والعادة، بل إن السلفيين في عمومهم، متقدمهم ومتأخرهم، لم يكونوا لا من أهل العقل ولا من أهل الفقه. فنزلوا بالدين إلى جعله موافقا لأفهام العامة في الفروع والأصول، يأخذون بظواهر النصوص ولا يكلفون أنفسهم إلا بالوجوب والعدم في ثنائية بغيضة جرت على الدين الآفات في الفهم والتنزيل. وهذا خلاف ما كان عليه أئمة المسلمين من أهل الفقه والكلام.
وأذكر أني عندما كنت أمرر بصري في كتبهم، لا أجد أثرا لإعمال العقل والنظر إلا مخرجات بسيطة تعود في غالبها لنصوص من القرآن أو الخبر يلوكونها من دون فهم. وكان العقل غائبا وتحس أن لهم منه ريبة، ويغلب على كلامهم التحذير، فمقولات العقل لن يسمح لك بقراءتها إلا محايثة لرد صريح من أحد أعلامهم، وقد امتدت هذه الثقافة الخائفة في التحذير إلى أشياعهم حتى تجد السلفية قد تحولت إلى مدارس يتهم بعضها بعضا ويحذر بعضهم من بعض، وهذا مرده إلى ثقافة الخوف من الرأي وتقديس الرجال.
لقد سبق لي أن أشرت إلى الشعلة التي أوقدها في نفسي حديث الفلسفة الوجودية مع الصديق عبد الله، وهي الشعلة التي ما تزال متقدة في نفسي إلى اليوم. فرغم أني في بداية خروجي من المراهقة ودخول مرحلة الشباب، وما تعرفه هذه الفترة من حماسة وعبث وانفلات، إلا أني حقيقة لم أنجذب نحو المدرسة الوجودية رغم أن بدايتي كانت معها. فلا أذكر يوما أني جادلت بها ولا دافعت عنها. لقد شاءت الأقدار أن أنطلق ديكارتيا تحت قاعدة الشك وانتهيت إلى اليوم عقلانيا نقديا.
في منتصف المرحلة الثانوية بدأت علاقتي بالدراسة تتحسن، ولأول مرة في حياتي بدأت أعي لماذا يلزمني أن أذهب للمدرسة بعدما فقدت الجدوى منذ السنوات الأولى للابتدائي، وبسبب هذا العداء فقدت الكثير، وقد كان ممكنا أن أكون غير ما أنا عليه الآن، ولكنها الأقدار، ولا حول ولا قوة إلا بالله. لقد كان من السهل أن تتحسن علاقتي بالمدرسة بهذه الروح الجديدة. أحببت الفلسفة، وأصبحت أحصل على النقطة الأولى بفضل أساتذة أكفاء جدا، ومن حسن حظي أن الأستاذين الذين درساني في الثانوية ما لبثا أن انتقلا بعدها إلى التدريس في الجامعة. أما علاقتي بالعلوم الإنسانية واللغة فهي جيدة على العموم، وقد كان هذا ساعدني على تجاوز اختبار الباكالوريا بنجاح.
عندما اجتزت المرحلة الثانوية كنت قد تخلصت بنسبة كبيرة من الضغوط، وأصبحت إنسانا آخر، تخصصت في الدراسات العربية لكن علاقتي بالفلسفة إلى اليوم كانت أقوى من علاقتي بالعربية، وخزانة كتبي يغلب عليها هذا التوجه. هذا الاهتمام المتزايد بالعقل والنظر ساعدني كثيرا في تجاوز وفهم مجموعة من الأمور، وأنا مدين في ذلك لأستاذي ديكارت وتلامذته، فهو الذي علمني أن أشك في معارفي السابقة وأخضعها لميزان التحقيق والتمحيص حتى لا أبقي منها شيئا غير مبني على استدلال ولو بسيط.
في البداية وبسبب هذه الحماسة ساءت علاقتي بالدين كثيرا، وهذا الأمر بالنسبة لي أمر طبيعي مادام أن حرارة السؤال لم يقابلها بنفس الحدة حرارة في الجواب لقلة ما كان توفر لي من رصيد في القراءة والنظر. فالتفكير الفلسفي يخلق في صاحبه نوعا من الحيرة والتذمر الناتج عن حرارة السؤال والرغبة في الحقيقة. السؤال الفلسفي الوجودي هو ورطة أو شبيه بعملية الزحف نحو العدو الذي يفرض على صاحبه الإقدام والتريث المستمر وغير المنقطع ، فإذا ما استكان صاحبه مات.
لقد كان ممكنا أن أختار طريق العبث والمجون، وكان قريبا أن يحصل هذا بسبب حماستي الزائدة، لكن شعرة ما كانت دائما تحافظ على علاقتي بالدين، خاصة وأني أبقيت علاقاتي الاجتماعية سليمة مع مجموعة من السلفيين، فأنا لم أعتزل الناس ولم أتخذ موقفا اجتماعيا سلبيا من أحد، وهو ما كان يجعلني مضطرا لأن أجيب على تساؤلاتهم بخصوص ما يعتقدون وما أصبحت أرى.
لقد اخترت طريق التوافق في البداية لكي لا أفقد صورتي الاجتماعية، لقد كنت أستعين بنصوص القرآن وعلومه والفقه وآراء المتنورين في صد المقولات السلفية، وهذا على الأقل أبقى علاقتي بالمتدينين على العموم جيدة رغم كثرة القيل والقال؛ فقد شاع طعني في شيوخهم وقواعدهم، وكان هذا ملزما لبعض مؤلهي الشيوخ إلى عدائي والتحذير مني. لكني لا أحسب أحدا منهم كانت له الشجاعة لمجاراتي لأني على ما أظن كنت أعلم بمنهجهم منهم، بل إنه في كثير من الخلافات كانوا يطلبون رأيي فأقول لهم ما لزم أن يعتقدوا من داخل مذهبهم ثم أرد عليهم برأيي.
لقد عشت فترات عصيبة عانيت فيها مخاض الخروج، لكن ما كان يعزيني هو صفاء سريرتي وهدفي، فأنا لم أخرج من الوهابية طمعا في شيء ولا دخلتها طمعا في شيء إلا ابتغاء مرضاة الله تعالى، بل على العكس من ذلك كان دخولي في المذهب مكلفا وشاقا علي. وحتى في مرحلة من المراحل حين زاد نضجي كنت أرفض الاشتغال في مجموعة من المؤسسات الدينية والاجتماعية طبقا لما أعتقده مخالفا لمبادئي، هذا رغم أني كنت حديث التخرج من الجامعة وكنت في حاجة ماسة للمال مما اضطرني للاشتغال بحرف بسيطة دون أن أشعر بأي حرج.
وأنا إلى اليوم وبفضل من الله أفضل ممارسة مهن بسيطة تضمن لي قوت يومي على أن أكتب أو أفكر انطلاقا مما تمليه مصالح لا تتماشى مع مبادئي، فأنا أحب أن أفكر لا أن أبرر. لقد آمنت دائما أنه أخطر ما يقع فيه المرء هو قدرته على إسكات نفسه ، فإذا فعل حلت عليه الكوارث من كل جانب. وقد ترى كثيرا من الذين ابتلاهم الله بالجشع يتخبط في غيه وعيه وسوء تدبيره لنفسه، فإذا كلمته كان كلامك في أذنه كالمسمار على الأرض الصفوان.
وما يزال المرء بخير ما كان باطنه حيا منبها مجادلا يتغذى بالعلم والمنطق لينا سهلا على الحق والصواب. لقد آمنت دائما أنه لا شرف لفكرة تستوجب على المرء أن يحيى ويموت عليها إلا الصدق ، فإنه الثابت الوحيد في الإنسان ذي النظر المتجدد ، وهو الثابت الوحيد الذي ما ألبس بفكرة إلا زانها وما نزع من فكرة إلا شانها. وما نذر المرء حياته لفكرة دون النظر الدائم إلى تجديدها وتحيينها وتعريضها لخطر النقد والمساءلة إلا نحا نحو التعصب والجمود، كمثل الذي ينذر أن يرتدي سروالا من مهده إلى لحده دون النظر إلى تغير حجمه ولا زمنه ولا قده.
فلا يوجد في قاموسي شيء اسمه الحق، ما يوجد عندي هو وجوب الانعتاق من سلطة الخلق، فأن تكون رجل دين ليس عيبا، وأن تكون فيلسوفا ليس ميزة. لتكن ما شئت، فقط اكتب ولا تنس أن توصي الناس بأن يجعلوا حرياتهم فوق ما تكتبه أنت وما تدعو إليه أنت وما ترجوه أنت ، نعم ، يجب أن تقول لهم أنه يكفي أن تكونوا أحرارا ليكون كل شيء، فالحق في النهاية ما هو إلا استمرار في طلب الحق. فنسأل الله الإخلاص والسداد.
اترك تعليقاً