منتدى العمق

العدالة الاجتماعية والغضب في أغاني ناس الغيوان

لا يختلف اثنان في كون غاية الغايات هي تحقيق العدالة الاجتماعية،وكثير من التيمات الفلسفية التي تحدثت عن العدالة والحق والكرامة والحرية والفوارق الطبقية بما تحمل هذه الدلالات المفهومية من معاني غميسة، على غرار تعريف الفيلسوف الأمريكي جون راولز للعدالة “تمتع كل فرد في مجتمع ما بالمساواة في الحصول على الفرص المتاحة للفئات المميزة”، صدحت حناجر المجموعة الغنائية “ناس الغيوان”بالدلالات ذاتها واصفة بذلك عالم الحزن والغربة والكآبة واليأس في بحث مضن عن الحياة والحب والعالم والإنسان وفلسطين.

الموت..

رأى الفيلسوف الألماني هيجل أن الموت هو تصالح الروح مع ذاتها، لماذا هذا المثال إذن؟ سؤالسوف أعود إليه ولو بعد حين، عندما تطالعنا المجموعة الغنائية “ناس الغيوان” في أغنية “السيف البتار” بهذا التمايز الرهيب الذي يكشف المفاضلة بين الغني والفقير حتى في الموت، وتقول: “..هـــــا أنـــــت گـــول لــــه گول له يا خونـــا ف االله..مــات الغنــي يــا حبابـــي طلبــة وعـــوام تـابـعـــاه..هـــــا أنـــــت گـــول لــــه گول له يا خونــا ف الله..مات المسكين يا حبابــــي حتى واحد ما مشا معاه..قـرا طـالـب عـنـد راســـه بـــزز عليـــه مــا قــراه….لاغـى الهموم بالجـمـلـــة والغــنـي ساكـن حــداه..خويـا وظــلام القــــبـــــر مـــع لميســر ســــاواه..” هذا التمايز الذي أعطته المجموعة للموت و التركة يعكس رغبة وسعي المجموعة إلى تحقيق المساواة في الحياة.

قبس من العدالة ومن جذوتها..

لا غرابة أن نجد مجموعة “ناس الغيوان” تستهل أغانيها بأسلوب النداء، سواء في صيغ مباشرة أو غير مباشرة كما هو الحال في أغنيتي”يا صاح” و”حلاب”، وأن أغانيها هي تعبيرات عن آلام الشعب و آهاته وتضحياته وحاجاته الاجتماعية، كما هو الشأن في حديثها عن الفوارق الاجتماعية في أغنية “يا من هو بَازْ فْ لَقفازْ” ذات المعاني المستوحاة من هموم البسطاء والشعب، إلى أن وصلت إلى “أنا گاع بنادم نبغيه…وظانه مثله يبغيني..كيف نبغي نگول عليه . . .اللي فَ خْلاَگِي مَا يْخْلِّينِي..” في إشارة الألم والغصة كما ذهبت بعض التأويلات حين أعطت التأويل التالي لكلمة الخلاك ونطقتها خناكي على اعتبار أنها كلمة حسانية، وقد يكون ذلك صحيح على اعتبار أن مجموعة من أغاني ناس الغيوان تضمنت كلمات حسانية كثيرة ومعنى الخناك هو ما يحصر داخل الجوف والمراد بها هنا الغصة.

طرد القهر الاجتماعي..

كثيرا ما صاح العربي وكثيرا ما غنى بصوت عال حد الاختناق،ورافضا لكل أنساق الاستبداد والفساد وكل أشكال القهر الاجتماعيالتي عبر المجتمع المغربي بدوره عن رفضه لها، لكن العربي ورفاقه عبروا عنها بصيحات مؤداها التحرر والإنعتاق من كل القيود وهروب واحتماء من حرارة سياط الجلاد وبرودة الإسمنت في غياهب السجون، صيحات الدراويش قديما وناس الغيوان بعد التعديل هي تعبيرات عفوية عن معاناة حقيقية للشعب، ففي “غير خدوني” مثلا الصيحة تذكرنا كما يذكرنا التاريخ بصيحة أمي حادة لحظة اعتقال أفراد المجموعة من على ركح المسرح، وغيرها كثير من النماذج.

الحرية..

كسرت المجموعة الغنائية كل الحواجز من أجل التعبير عن آهات الناس بحثا عن تحقيق العدالة الاجتماعيةوسعيا لمعانقة هموم الوطن والشعب:”يا جمال”، “يامن هو باز”، “اليام تلاغي”، “حلاب حلاب”، “ضايعين”، “إفريقيا”، “غيرخدوني”، “الهمامي”.. والكثير من الأغاني التي عالجت فيها المجموعة الغنائية هموم الشعب والفقراء، بحثا عن بصيص أمل من المساواة والحرية والعدالة الاجتماعية..ولم يكن من الصدفة في شيء أن تكون أولى أغاني ناس الغيوان “الصينية” في مطلعها صيغة نداء “واهيا الصينية”.

الغضب..

سنهجر الفرح قليلا لكن سيكون هجرانا جميلا نحو الغضب في أغاني ناس الغيوان..يحكى أن الفيلسوف الروماني سيوران كان يبدو منافقا فوق اللزوم، وقد عبر عن ذلك بمرارة شديدة أحيانا وبروح مرحة خفيفة في أغلب الأحيان.

ينتمي إلى عائلة أولئك الذين يشعرون بالغربة في كل مكان، إلى عائلة المتغربين في الوجود، ابتعد عن المظاهر واقترب من أناه، تذوّق متعة عدم الفعل واجتناب المشاركة في حركة الجنون الجماعي، عاف من الحياة مظاهرها.. ذلك ربما كان أحسن دروسه التي ترك.

“دون أن يكون فيلسوفا محترفا أو شاعرا، كان يفكر بشاعرية”، تقول حنا آرنت عن ولتر بن يامين، وتلك حال سيوران أيضا، الدراويش الجدد أو “ناس الغيوان” المجموعة التي حركت السكين الحاد في الجروح الغائرة فملأت الدنيا وشغلت الناس، المجموعة التي ألهبت حماس الأجانب قبل العرب، المجموعة التي تتغنى بالغضب في شكل تعاهد الناس على أنه خصص للفرح، المجموعة التي حولت الغناء من فن إلى بوح صريح.

الناطق الرسمي باسم الغاضبين..

عند الغضب يفترض إيجاد لغة تعبيريّة ما : بمعنى آخر عندما يكون الشخص غاضباً ويريد أن يوصل فكرة معيّنة فيجب عليهِ أن يجد طريقة جميلة بحيث يستطيع أن يمتص غضبه ويتكلّم عن حزنه وآهاته.. “الغيوان” المستوحاة اسما من عوالم ومجتمع البادية الذي يحيل على المعجم البدوي لمجتمع البيضان أوحسان، وهو اسم أحد أفراد قبيلة دوبلال التي ينحدر منها بوجميع، عبرت عن هموم الفقراء والبسطاء والمنسيين، غضبت ناس الغيوان كثيرا لحال الوطن عموما والحي المحمدي على وجه الخصوص، بحكم القرب من الناس والانتماء للفضاء ذاته فتغنت بالفقر والبطالة وغيرها كثير.

أليس الغيوان تعامل مع وضع سياسي مخيف؟

المجموعة التي تأسست في ستينيات القرن الماضي بالحي المحمدي، أحد أفقر أحياء الدار البيضاء وأكثرها شعبية ذي الحمولة التاريخية والاجتماعية،على يدبوجميع والعربي باطما وعمر السيد وعبد العزيز الطاهري ومحمود السعدي في شكل نواة أولية لانتشار لون موسيقي جديد مهم، ساهم بشكل كبير في الدفع بالموسيقى التراثية المغربية، التي كانت تعاني من إهمال طال التراث الموسيقي المغربي طوال عدة عقود،شكل أبدع في التعامل مع التراث لحنا وكلمة.مؤسسو المجموعة الغنائية الذين أعياهم الواقع السياسي للوطن وأحزنهم مآله وأرقهم ما يتعرض له أبناؤه، نذروا أنفسهم للدفاع عن الشعب ومجابهة بعض مظاهر تابؤس التي ساهم في صنعها أيقونة الشر أوفقير.

الاحتجاج..

هناك أمور تجعل من الشخص ثائرا وغير هادئ ف ومعه يحاول أن يعالج ولا يكشف سرّهُ لأحد مهما كان حتّى لا يجد نفسهُ فريسة أمام الآخرين، مع ناس الغيوان تعددت الوضعية بكلمات متعددة و أصبحت الحاجة إذاك أكثر من أي وقت مضى كيف لا وهي صوت الفقراء و تعابير المهمومين والعمال، فانتقلت المجموعة الغنائية من أداء المقاطع ذات البعد الصوفي والإيحاءات التي تمتح منه إلى الاحتجاج المباشركما هو الشأن في أغنية السمطة.

أكبر غضبات ناس الغيوان..

سنة 1982 كتب العربي باطما نص أغنيةفيها جرعات زائدة من البوح والألم تعبيرا عما لحق “صبرا وشتيلا” من خراب ودمار وتقتيل، العربي ورفاقه أعياهم الصمت العربي وكان يؤرقهم واقع الحال فتغنوا بالألم والحسرة، من أجل استنهاض همم شعب ووطن تجاه جرح نازف إنضاف إلى جروح الذاكرة الفلسطينية الموشومة، لم تكن أول مجازر الاحتلال بحق الفلسطينيين ولا آخرها، ولبشاعة الصور وكآبة المنظر ذرف العربي باطما الدمع وصاح يبكي مخيم صبرا وشتيلا وتألم رفاقه للشكل والمظهر مستحضرين بذلك مشاهد عشرات الجثث المتناثرة في أزقة مخيم صبرا وشاتيلا للاجئين في لبنان والمنازل المدمرة وأشلاء الفتيات والأطفال والنساء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *