وجهة نظر

إشكالية الهجرة والنخبة بالواحة: مقاربة سوسيو ثقافية

سؤالان مركزيان وأساسيان ونحن بصدد الحديث عن الواحة أولهما هو لماذا تنجب الواحة المهاجرين ثم لماذا تعجز الواحة عن إنتاج النخب وهما سؤالان مركزيان تتفرع عنهما أسئلة فرعية لا تقل أهمية لكن الجواب عنها قد يساعد على تفكيك الأسباب الكامنة وراء انعدام تصورات حقيقية للتنمية بالواحة.

                سؤال الهجرة ومداخل الحد منها:

وللتوضيح أكثر حول سؤال الواحة والهجرة نطرح سؤال المسؤولية باعتباره في نظرنا الذي يمكنه أن يحيل على الدافع الأساسي الذي يجعل غالبية أبناء الواحة على تركها والهجرة سواء داخليا أو خارجيا ليس بحثا على ثراء أو بشغف الهجرة فقط وهذا ما يظهر من كون الألم من جراء الهجرة لا يفارق أبناء الواحة الذين أجبرتهم ظروفهم المادية وانعدام فرص الشغل من داخل الواحة وانعدام فرص للاستثمار في أي قطاع كان.

إن الهجرة التي تهم بالأساس النخبة المتعلمة بالأساس التي لا تجد ذاتها في الواحة والتي تكبدت عناء تكوين نفسها في مدن بعيدة جدا عن الواحة والتي تجد نفسها أمام حل وحيد وهو الهجرة قصد البحث عن مورد عيش وبالتالي تشكل ربحا للجهة المستقبلة في مقابل خسارة كبيرة للواحة التي هي في حاجة ماسة إليها لو أنه توفرت لديها فرص للعمل لتستفيد من أبنائها كما تستفيد منها المناطق المستقبلة.

إن سؤال الهجرة في السياق الذي تناولناه به أعلاه هو سؤال مؤرق جدا ويطرح بحدة سؤال المسؤولية ولن نجد حرجا كما لن نعتبر هذا الجواب حكم قيمة عندما نقول بل نؤكد أنها بالدرجة الأولى والأخيرة مسؤولية المدبرين إن كانت على مستوى الدولة أو حتى مستوى الجماعات الترابية.

العنوان العريض لهذه الإجابة تؤطره إشكالية غياب العدالة المجالية لدى الدولة التي لا تجد حرجا في الاهتمام وإيلاء العناية الكبرى لجهات من المملكة على حساب جهات أخرى تعرف تهميشا كبيرا ثم على مستوى الترابي غياب تصور حقيقي لدى المدبرين الترابيين محليين كانوا أو على مستوى العمالات والأقاليم أو حتى على المستوى الجهوي.

حقيقة تحتمل الإجابة عن هذه الإشكالية مجموعة من القراءات تطرح أولا من الزاوية السياسية ومسؤولية الأحزاب السياسية ليس في التأطير فقط بل كذلك في اختيار من سيتقدم لتدبير الشأن الترابي بحيث أنها لا تجد حرجا في منح التزكيات ليس على أساس الكفاءة بل على أسس الولاء وفرص الحصول على أكبر عدد من المقاعد في المجالس المنتخبة بغض النظر عن المستوى التعليمي لمن منحت له التزكية وتوفره على أدنى شروط ومقاومات التدبير العادي وهذه النقطة سنفصل فيها عند الجواب عن السؤال الثاني المتعلق بإشكالية النخب التي تحكم.

وفي خضم الحديث عن المسؤولية السياسية للأحزاب لابد من استحضار معطى لا يقل أهمية وهو الأدوار التي يقوم بها المجتمع المدني في تحقيق التنمية الترابية وهذا سؤال ليس اعتباطيا بل تفرضه المكانة التي أصبح المجتمع المدني يحضى بها في التدبير الترابي من خلال الآليات التي جاء بها دستور 2011 وكرسته القوانين التنظيمية للجماعات الترابية لسنة 2015 المنظمة للجماعات الترابية في مستوياتها الثلاث ولاسيما اللجنة الاستشارية التي تحدث على مستوى جميع المجالس الترابية المنتخبة والتي تتعلق بلجنة المساواة وتكافؤ الفرص وكذلك فتح أبواب دورات المجالس المنتخبة مفتوحة في وجه العموم قصد حضور أطوارها ثم كذلك آلية العرائض التي جاءت بها القوانين التنظيمية أعلاه والتي تمكن المجتمع المدني, جمعيات وأفراد من المشاركة في إعداد جداول أعمال الدورات واقتراح نقط قصد إدراجها بها وكل هذه الآليات تدخل في إطار ما يطلق عليه الديموقراطية التشاركية التي حلت محل الديموقراطية التمثيلية.

كذلك لابد من طرح أهمية الجانب الحقوقي في مراقبة المجالس المنتخبة عبر آليتي التتبع والرصد وإصدار تقارير بشأن ما تم رصده وتفعل مبدإ ربط المسؤولية بالمحاسبة عبر إحالة هذه التقارير على الجهات الإدارية والقضائية المختصة قصد ترتيب الآثار القانونية عليها.

إن عدم إعمال هذه الآليات سواء من طرف الأحزاب السياسية وعدم اضطلاع المجتمع المدني بأدوارها وغياب الفاعلين الحقوقيين الحقيقيين على مستوى الواحة قد أحدث اختلالات كبيرة على مستوى التنمية الترابية وهو ما يغيب معه فرص الشغل وفرص الاستثماروهما عاملان أساسيان يبرران ارتفاع منسوب هجرة المتعلمين من أبناء الواحة إلى مناطق مختلفة سواء داخل المغرب أو خارج بل الخطير في الأمر أن هناك ممن فرضت عليهم الهجرة أن يعرضوا أنفسهم وحياتهم للخطر لمعانقة حياة يعتبرونها أفضل مما يعيشونه في بلدهم.

                إشكالية تشكيل النخب السياسية:

لن نجازف إذا قلنا أن تشكيل النخب السياسية في الواحة يرتبط بطقوس قد تكون أقرب الطرق التقليدية في تسيير شؤون القبيلة في سياق تاريخي معين بدل أن يتأسس هذا التشكيل على معايير دقيقة يخضع لقواعد الديموقراطية وكل ما له ارتباط بالمشاركة السياسية تحترم فيه معايير التنافس الشريف في ظل انتخابات شفافة ونزيهة.

من الطبيعي أن يرتبط تشكيل النخب السياسية بما ذكرناه أعلاه وذلك في ظل سيادة منطق الولاء للأعيان وسيادة تعابير من قبيل هذا من لون بشرتنا ومفهوم “أموثل” و “توبد ن العار” والفخذة والانتماء القبلي وذلك بدل الاعتماد على معايير المستوى التعليمي والتجارب في التدبير والكفاءة.

يضاف إلى ذلك أيضا غياب التأطير السياسي لمنخرطي الأحزاب والتي تدخل ضمن مهامها الأساسية وكذلك منح الأحزاب التزكيات على أساس من يضمن لها أكبر عدد من المقاعد في المجالس المنتخبة لمختلف مستوياتها.

إن يوضح صحة هذا الطرح هو أن نفس الوجوه هي من تتولى تدبير المجالس المنتخبة كما أننا نجد بعض الجماعات يتم التحكم فيها من طرف رئيس جماعة آخر نظرا لكون هذا الأخير قد كانت له يد في تشكيل مجالس تلك الجماعات نظرا لتوفره على مد انتخابي كبير يمكنه من التحكم في العملية الانتخابية على مستوى رقعة جغرافية تمتد لجماعات عديدة وهذا أمر موجود ويعلمه الجميع.

إن تدبير الشأن الترابي بذلك يخضع لمزاج رئيس الجماعة الذي يرى في نفسه الأحقية فيما يفعله لاعتقاده الصريح أنه اشترى أصوات المصوتين عليه وبالتالي لا يرغب في الخضوع لأية قوى تدعوه إلى التزام القانون واعتماد الآليات القانونية المنظمة للتدبير وفق نظام الحكامة الجيدة.

إنه في كل مناسبة انتخابية تتجدد “الثقة” في نفس المنتخبين وفي نفس الوجوه رغم أنه تظهر أصوات خلال الانتخابات تنادي بالتغيير وباعتماد الديموقراطية في الممارسة الانتخابية وتجنب أسلوب الرشوة ومختلف الأساليب التقليدية في اختيار المرشحين القادرين على تدبير الشأن الترابي بشكل أفضل لكن لا شيء من ذلك يحدث.

إنه علينا أن نقر أن إفراز صناديق الاقتراح لنس الوجوه ولنفس النخبة التي في غالب الأحيان تكون فاسدة نظرا لتجذرها وتغولها واستعمالها لأساليب تعتمد التهديد والابتزاز خاصة أمام طبيعة الطبقة الناخبة التي تتميز بالهشاشة من ناحية إمكانيتها المادية وكذا مستواها التعليمي.

الواضح أن النخبة التي تفوز بالانتخابات لا تجد صعوبة كبيرة في إقناع الطبقة الناخبة بأحقيتها في الظفر بالمقاعد وذلك لتجربها الكبيرة في الممارسة الانتخابية واعتمادها الأساليب المطورة أعلاه مثل لون البشرة والفخذة والانتماء القبلي ويعتمدون في ذلك على إقناع العديد من ذوي المستوى التعليمي المتقدم كالموظفين في مختلف القطاعات وذلك بتمكينهم من نصيبهم من الكعكة وذلك بجعلهم رؤساء وأعضاء في جمعيات الريع أو تمكينهم من بعد الامتيازات كالبقع الأرضية أو تسهيل مساطر البناء أو تقريبهم منهم باعتبار القرب من رئيس الجماعة عند الكثير منهم في حد ذاته امتياز.

في ظل هذه المظاهر السيئة والتي تؤدي بالتأكيد إلى نتائج سيئة لابد من طرح مداخل للخروج من أزمة اللاتنمية وأو التنمية على أسس مغشوشة إلى تنمية حقيقة مندمجة ومستدامة على أسس قانونية وفي إطار قواعد الديموقراطية التشاركية كما نث عليها دستور 2011 وكرستها القوانين التنظيمية للجماعات الترابية للجماعات الترابية لسنة 2015 وكذلك اعتماد آليات التعاون اللامركزي كألية جديدة وفعالة في التنمية تعتمد الجاذبية للاستثمار وكذلك اعتماد الشراكات.

إن الحد من الهجرة – التي هي المعضلة الخطيرة التي تستزف الرأسمال البشري الذي هو أساس أية تنمية حقيقة – يقتضي بالضرورة التعامل مع المجال بجدية وذلك بخلق مشاريع استثمارية تعتمد تثمين المنتوجات المجالية وجلب مستثمرين وطنيين أو أجانب على حد سواء وكذلك تشجيع الشباب الحاملين لمشاريع على الاستثمار على الاستثمار وذلك بقيام المجالس المنتخبة على توفير الدعم اللازم وتبسيط المساطر الإدارية وتبسيط الحصول على الوعاء العقاري اللازم لذلك.

لابد كذلك من إعداد برامج للترافع من أجل خلق جامعات في جميع التخصصات وكذلك المعاهد والجامعات ذات الاستقطاب المحدود ولذلك لتوفير التعليم لأبناء الواحة وتجنيبهم تكبد عناء تلقي تكويناهم بالمدن البعيدة.

إن تشكل النخب يشكل كذلك التحدي الأكبر الذي يواجه الشأن التنموي الترابي بالواحة ويلزم لذلك أولا سهر الجهات المعنية بمرور العمليات الانتخابية في ظروف تطبعها الشفافية والنزاهة مع دعوة الأحزاب السياسية إلى اعتماد وسائل دقيقة في منح التزكيات للأشخاص ذوي المستوى التعليمي والذين يتوفرون على الكفاءة اللازمة التي تمكنهم من تدبير الشأن الترابي وفق الآليات الناجعة وقادرين على الترافع من أجل تحقيق هذه التنمية.

كما يتعين كذلك العمل على توعية الطبقة الناخبة على أهمية المشاركة السياسية وبيان أدوارها المهمة في إنتاج النخب السياسية القادرة على تنمية منشودة بعدا عن الوسائل البدائية,

إن الفاعل المدني كذلك بإمكانه بل يتوفر على الإمكانيات الضرورية قد إحداث تغيير في طرق التدبير عبر الآليات الممنوحة له سواء بمقتضى الدستور أو بمقتضى القوانين التنظيمية للجماعات الترابية كما لا يجب أن نغفل كذلك الأدوار التي يمكن أن يقوم بها الفاعل الحقوقي عبر تنزيل مبدإ ربط المسؤولية بالمحاسبة وإعداد تقارير بشأن الخروقات والإختلالات في التدبير الترابي وتقديم هذه التقارير إلى الجهات الإدارية والقضائية قصد اتخاذ المعين بشأنها وترتيب الآثار القانونية اللازمة وذلك بحق يعتبر أحد مداخل التغيير الحقيقي والتدبير الجيد.

بقلم الأستاذ رشيد أغزاف

الباحث والمهتم بالشأن التنموي الترابي

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *