وجهة نظر

شبكة مهندسي القناطر.. خدام الدولة ڭيت

أعاد حدث خدام الدولة موضوع مهندسي القناطر إلى الواجهة، وأعاد معه إشكالية تدبير المرفق العمومي وما يطرح ذلك من إشكاليات فرعية تتعلق بالفئوية وبالكفاءة المهنية وبالتخصصات؛ في انتظار الإفراج عن الإطار المرجعي للكفاءات؛ الذي يعرف ارتباك وتلكأ أصحاب القرار، خاصة في بعض القطاعات الحكومية.

تدبير المرفق العام؛ خاصة الشق المالي والإداري والمتعلق بالموارد البشرية، شأن من اختصاص خريجي المعاهد والمدارس والجامعات، وكل المؤسسات العليا التي تمنح شواهد في الإدارة والقانون والاقتصاد والمحاسبة، وكل ما يعادل ذلك إلا ما يتعلق بالأشغال الكبرى؛ من تشييد السدود وبناء القناطر وصيانة التجهيزات… وهذا هو اختصاص مهندسي القناطر، خريجي المعاهد العليا للقناطر والطرق الفرنسية؛ اختصاص يحمل طابعا تقنيا صرفا ليس إلا.

إن بدعة تعيين مهندسي القناطر على رأس الأقسام والمكاتب في الإدارات العمومية أزاح المتصرف والمحاسب والمحرر والمفتش المالي، وحتى خريجي المعاهد التابعة للإدارات؛ هو انحياز غير موضوعي لصالح هذا الإطار الدخيل على الإدارة، وتعسف على أهل الاختصاص، وإهانة للمؤسسات الوطنية في التكوين والتأطير، ولكل من يعمل فيها من مكونين ومؤطرين. وقبل هذا وذاك هو هيمنة للعقلية الفرنكوفونية ولحاميها ومحاميها.

إن هيمنة مهندسي القناطر على الوظائف السامية، وعلى الحقائب الوزارية التكنوقراطية، وعلى الإدارات المركزية، وعلى الإدارات الترابية، وعلى رأس الجامعات الرياضية… هي سنة أريد بها اختراق لكل دواليب مؤسسات الدولة؛ هي العين الفرنكوفونية التي لا تنام والساهرة على الشؤون والمصالح الفرنسية بالبلد، أو لنقل بعبارة “شرح ملح” هي وفئات أخرى؛ مثقفة وفنية واقتصادية ورياضية… من تجليات الغزو الفكري والثقافي والاقتصادي والسياسي، بعد رحيل الاستعمار العسكري… فكل هؤلاء يملكون جواز سفر أحمر، ويحملون معه جنسية مانح الجواز الأحمر.

طبقة مهندسي القناطر أعادت موضوعا قديما جديدا إلى النقاش العلني في المنابر الإعلامية، وعبر المواقع الاجتماعية، وفي المقاهي وفي كل مكان، بعدما كان يتهامس به المغاربة، في آذان بعضهم البعض، وهم يلتفتون، خلسة، يمينا ويسارا في حركات تنم عن الخوف والذعر من شبح افتراضي يحرم الحديث في السياسة ويمنع كل تعليق يحوم حولها. هو موضوع يروق للبعض أن يسميه بحكومة الظل أو بالدولة العميقة، ويوثر البعض الآخر أن يرمز له بالكيان الموازي أو بالشبيحة… ولعل خريجي معاهد القناطر ومن والاهم ليسوا إلا من يهندسون لسياسات هذه الحكومة الهلامية التي يحلو أن تسمي أعضاءها بخدام الدولة أو خدام السلطة.

أي دولة؟ هل هي دولة الأسياد في مقابل طبقة الرعاع والعبيد؟ أو دولة الذين يسجلون أبناءهم في البعثات، ويلجون وظائف سامية أُعدت على مقاساتهم سلفا، مقابل من يلجون ما تبقى من فتات الوظائف لسد رمق العيش؟ أم دولة طبقة المنتفعين والعارفين للكتف من أين تؤكل، في مقابل الكادحين الذين لا يعرفون أن هناك كتفا فبالأحرى أن يعرفوا من أين تؤكل؟ أهي دولة فرض القانون بالقوة وتحصين الفساد وتزيينه بقبعة المراسيم والمساطر، في مقابل الخضوع لهذه السلطة ولبنود هذه المساطر بداعي الحفاظ على هبة الدولة وسيادة القانون؟ أم هي دولة داخل الدولة؟

ما الجدوى، إذن، من إجراء الانتخابات؟ من المؤسسات التشريعية؟ من الجهوية؟ من شعار الديمقراطية؟ فالتكنوقراطي يمتلك سلطات تتجاوز رئيس الحكومة، بل أوسع من اختصاصاته. فالتكنوقراطي تكريس لمنطق السلطة التقليدية الذي يتنافى ومنطق التحول الديمقراطي، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وأن يحكم الشعب نفسه بنفسه. التكنوقراطي إذن منصب وامتياز وتمييز وفرض الأمر الواقع.

جرت العادة، وهو أمر يبدو محمودا ضمن أعراف الامتيازات، أن تكافئ الدولة كل مواطن رفع راية الوطن في الملتقيات الرياضية بإحرازه على ميدالية، أو في المنتديات العلمية بإنجاز اكتشاف علمي، أو في المحافل الدولية بتحقيق انتصار دبلوماسي لصالح القضية الوطنية. فأي انتصار أو إنجاز أو رقم قياسي حققه هؤلاء التكنوقراط غير تقسيم الشعب إلى طبقة خدام الدولة وأسيادها وإلى طبقة حثالة المجتمع وعبيدها.

منطق التقسيم هذا، هو نفسه تقسيم القرون الوسطى؛ حيث التمييز بين طبقة النبلاء وطبقة الفلاحين.. منطق بيع صكوك الغفران والدخول إلى الجنة.. منطق الرضى والتزكية. وفي زماننا نحن، استُبدل بعقلية النخبة والعامة. والنخبة مسوغ للتحكم والنفوذ والاحتقار وتبديد المال العام وتسلق المناصب والاستحواذ على العقارات. والعامة مبرر للخضوع وللتجارب، مثلها مثل فئران المختبر، في مخططات التنمية ومحاربة الأمية والبرامج الاستعجالية ومخططات المغرب الأخضر … مخططات خصصت لها صناديق تنضح نقودا؛ وضعت تحت إمرة مهندسي القناطر.

وفي الوقت الذي التزم فيه البعض الصمت، وهو صمت مريب وذكي ومؤقت، في هذا الوقت قدم آخرون من أولئك، والجميع يعرفهم، تبريرات تحمل نبرة التخوين لبعض المنابر الإعلامية، وتهمة التسييس لثلة من الأحزاب السياسية، وتحت مسمى هيبة الدولة أو لنقل هيبة خدام الدولة؛ في بيان فريد من نوعه وصف في الحين بالتائه والفارغ والبليد، ووصف أصحابه بالسعار، وشبه ارتباكهم برقصة الديك المذبوح؛ فأضحى العذر أقبح من الزلة، وانقلب السحر على الساحر وعلى من علمه السحر، وتلك المنابر المتهمة جعلت من الحدث مادة دسمة لجلب القراء، والمواقع فرصة لتحصيل الزيارات.. والبقية ستأتي بعد حين ممن آثروا الصمت المريب؛ وموعد سابع أكتوبر 2016 ليس ببعيد.

تصريحات مرتعشة وبيانات مرتبكة؛ كانت كافية ليحس المواطن المغربي بالغبن والإهانة، كافية لإعادة تأمل الشعارات الرنانة عن الديمقراطية والشفافية والنزاهة وحقوق الانسان والمساواة … بل وإعادة صياغة مفهوم المواطنة في خضم عدم خضوع خدام الدولة للمحاسبة، وفي ظل تطبيق القانون على سارق البيضة أو الدجاجة أو الذي يتلقى “قهيوة” من فئة عشرين درهما، أو أنه مر خطأ من إحدى أحياء خدام الدولة.

هذا غيض من فيض أسباب خلق العداوات بين أطياف المجتمع، وزرع الأحقاد بين مختلف الفئات الاجتماعية. هذا ليس إلا واحدا من دواعي اللامبالاة والعزوف الانتخابي، وكره الساسة والسياسيين؛ بل مدعاة للخروج للشارع ورفع شعارات السخط والغضب. إن الأحداث التي توالت على البلد، لتنذر بكارثة لا قدر الله. فحذار من المغاربة ومن غضبهم، فالرياح التي هبت بالأمس لم تهدأ بعد، والبحر الذي تلاطمت أمواجه العاتية البارحة لم تنكسر بعد، والنار الموقدة لم تبتعد عن الوقود بعد. فلا ينفع قلم المثقف الذي يمسكه للتعبير عن غضبه، أو الإعلامي الذي يملك المنبر لتبليغ رسالته، أو السياسي الذي يمتطي منصته لتمرير خطابه. فالآخر لا يملك قلما ولا منبرا ولا منصة، يملك فقط الفوضى والسخط والانتقام…

فاحذروا أسباب الفوضى، وأحذروا دعوة المظلوم، فإن دعوته لا ترد.