سياسة

باحث: “تغول” الديمقراطية التشاركية قد يؤدي إلى إقصاء الديمقراطية التمثيلية

حذر أستاذ القانون العام والعلوم السياسية بجامعة شعيب الدكالي، عبد الغني السرار، مما أسماه “تغوّل” الديمقراطية التشاركية رغم إيجابياتها، على حساب الديمقراطية التمثيلية، على المستوى الوطني، موضحاً أن التفسير المفرط لهذا المفهوم قد يؤدي إلى تحويله من دعامة للتمثيلية إلى وسيلة لإقصائها.

وأشار أستاذ القانون العام والعلوم السياسية، في مقال رأي توصلت به جريدة “العمق”، إلى ما وصفه بـ”مغالاة” في تفسير الديمقراطية التشاركية على حساب التمثيلية، مؤكداً أن الأخيرة تشكل الركيزة الأساسية للنظام الديمقراطي.

وذكر السرار أمثلة على ذلك في بعض مشاريع القوانين، مثل مشروع القانون التنظيمي للإضراب، ومشاريع قوانين المنظمات النقابية، والنظام الأساسي الخاص بموظفي وزارة التربية الوطنية، التي شهدت تدخلاً قوياً من التنظيمات المهنية للضغط على السلطة التنفيذية قبل عرضها على البرلمان.

وأشار ، إلى أن “المغالاة” في الديمقراطية التشاركية قد تتسبب في نقل النقاش القانوني خارج البرلمان وإضعاف دوره كمؤسسة تشريعية تمثل إرادة الشعب، مضيفاً أن نقل سلطة مناقشة القوانين إلى الهيئات المهنية قبل عرضها داخل قبة البرلمان من شأنه تهديد شرعية البرلمان وتشويه صورته أمام الرأي العام.

ولفت المتحدث إلى أن الديمقراطية التشاركية ظهرت كرد فعل على عجز النظام التمثيلي عن تلبية طموحات المواطنين، موضحاً أن “الديمقراطية التشاركية ليست مجرد أسلوب تقني للحكم، بل تعد نمطاً جديداً له أصوله الدستورية والنظرية، حيث تسعى لإعطاء المواطنين دوراً أكبر في صناعة القرار العام بجانب السلطات الرسمية.”

وفيما يلي نص المقال كاملا:

بداية وجب التأكيد بأن السياق الذي تولدت فيه الأحزاب السياسية في الغرب جاء كمحصلة لفكرة (مونتيسكيو) القائلة: “بأن الشعب إن كان غير قادر على حكم نفسه بطريقة مباشرة فهو قادر على اختيار ممثليه الذين ينوبون عنه في صناعة القرار العمومي”. وفي هذا الشأن لعبت الأحزاب السياسية دورا هاما في تأطير المواطنين وتمثيلهم باعتبارها التنظيم السياسي والقانوني الذي من خلاله يعبر الأفراد عن مواقفهم وآرائهم السياسية. وتعني وظيفة التمثيل السياسي قدرة الحزب على نقل مطالب المواطنين وإعطائها طابعا مُؤَسَّسِيا، لكن مع مرور الوقت أصبحت الأحزاب السياسية عاجزة عن الدفاع عن مطالب الناخبين، بل عاجزة أحيانا حتى عن إقناعهم بالمشاركة السياسية والإقبال على صناديق الاقتراع، ليس من أجل التصويت عليها فحسب، بل من أجل ممارسة هذا الحق الذي تخوله لهم الدساتير والمواثيق الدولية. وهكذا، غذت الأحزاب السياسية عاجزة وغير قادرة على القيام بدور التمثيل السياسي المنوط بها، الذي يتوقف على ركيزتين أساسيتين هما وظيفة التأطير ووظيفة التمثيل داخل المؤسسات الدستورية المنتخبة، كما أن أصحاب “المصالح” نجحوا في إحكام قبضتهم على الأحزاب السياسية تحت غطاء “لا ديمقراطية بدون أحزاب سياسية”، ومعه تحولت الديمقراطية التمثيلية من آلية لإشراك المواطنين في الحكم إلى ديمقراطية “صورية – شكلانية” بمبرر أنه ليس هناك نظام حكم ديمقراطي دون هيئات الوساطة الحزبية.

وفي هذا السياق، ونتيجة لقصور النظام التمثيلي عن إدماج المواطنين في صناعة القرار العمومي، ظهرت الديمقراطية التشاركية ليست كأسلوب إجرائي- تقني للحكم السياسي، وإنما باعتبارها نمطا جديدا له أسسه النظرية ومرجعياته الدستورية، وذلك قصد إعطائها طابعا قانونيا ومُؤَسَّسِيا. والديمقراطية التشاركية في أبسط معانيها هي مجموع الآليات القانونية التي تمكن المواطنين من المشاركة في صناعة القرار السياسي بجانب الفاعل الرسمي لملء المساحات الفارغة نتيجة لأزمة الديمقراطية التمثيلية وقصورها. ويتفق أغلب الباحثون والمتخصصون في حقل علم السياسة أن الديمقراطية التشاركية جاءت لتعزيز وتقوية الديمقراطية التمثيلية وليس لإقصائها أو إلغائها. وبالتالي، غايتها إدماج المواطن في تدبير الشأن العام وصناعة السياسات العمومية.

بيد أنه بقدر ما كان ظهور أزمة الديمقراطية التمثيلية نتيجة لسوء الممارسة على أرض الواقع وكمحصلة لسيطرة أصحاب المصالح على الأحزاب السياسية تحت غطاء الديمقراطية. فإنه بالقدر نفسه والتبرير ذاته قد نسقط في عطب آخر وهو “تَغَوُّل” الديمقراطية التشاركية سيما في حالة ما شابتها وطالتها “عيوب” إجرائية على مستوى التطبيق أو في حالة ما بالغت التجمعات المهنية وأصحاب المصالح في تفسير مدلولها الدستوري بالشكل الذي يجعلها تتحول من دعامة سياسية ودستورية للديمقراطية التمثيلية إلى وسيلة لإقصائها، ذلك أنه من خلال تتبع بعض التأويلات والتفسيرات التي أعطيت لهذا المفهوم (خاصة حينما يتعلق الأمر بصناعة القانون)؛ يبدو واضحا أن هناك “مغالاة” في تفسير مدلول الديمقراطية التشاركية ببعديها المحلي والوطني، غير أن هذه “المغالاة” تزداد حدتها بشكل أكبر على المستوى الوطني بل تأخذ منحى يوحي ويعطي الانطباع بأن هناك جنوح نحو إقصاء الديمقراطية التمثيلية التي هي الأصل والأساس السياسي والدستوري الذي تأسست عليه الديمقراطية التشاركية.

لقد بدا هذا الأمر، واضحا وجليا في أكثر من مناسبة نذكر منها على سبيل المثال بمناسبة إعداد (مشروع القانون التنظيمي للإضراب؛ مشروع القانون المتعلق بالمنظمات النقابية؛ مشروع القانون المحدث بموجبه اللجنة المؤقتة لتسيير شؤون الصحافة والنشر؛ مشروع المرسوم في شأن النظام الأساسي الخاص بموظفي الوزارة المكلفة بالتربية الوطنية ثم مشروعي قانوني المسطرة المدنية والمسطرة الجنائية). إذ يمكن القول، بأن القاسم المشترك بين كل مشاريع القوانين الآنف ذكرها هو أنها صاحبتها معارضة مهنية تنظيمية (نسبة للتنظيمات المهنية) تهدف أساسا إلى الضغط على السلطة التنفيذية.

وبالتالي، التأثير على المسطرة التشريعية قبل مباشرتها داخل القنوات والمسارات المحددة لها داخل دفتي الدستور أي قبل عرضها وإحالتها على اللجان البرلمانية الدائمة المختصة، بموجب الفصل 80 من الدستور، وقبل ابداء الفرق النيابية لملاحظاتها عليها، باعتبار أن البرلمان هو قناة للتمثيلية السياسية – رغم مساوئها وعيوبها المومأ إليها سابقا-، وهذا الأمر يعطي صورة “سلبية” عن حكامة الوظيفة التشريعية وقد يكون سببا في هدر الزمن التشريعي “الذي يشمل مرحلة الإعداد والتحضير”، كما يوحي بأن هناك ميل لـ “تهريب ونقل” النقاش القانوني من داخل قبة البرلمان وسحب البساط من تحت أقدام نواب الأمة بخصوص مشاركتهم في صناعة ومناقشة القوانين التي تنقل مباشرة على أمواج الإذاعة وتنشر محاضرها بالجريدة الرسمية للبرلمان وبموقعه الإلكتروني، عملا بقاعدة عمومية جلسات البرلمان طبقا للفصل 68 من الدستور بالشكل الذي يخلق نوعا من الألفة السياسية بين الناخبين وممثلي الأمة وأعضاء الحكومة، كما أن بثها وإذاعتها من داخل مؤسسة البرلمان يسهم أيضا في عملية التنشئة والتثقيف السياسيين، وأكثر من ذلك يساهم في إظهار الوظيفة الدستورية للأحزاب السياسية التي تعمل، طبقا لمقتضيات الفصل 7 من الدستور، على تأطير المواطنات والمواطنين وعلى تكوينهم السياسي، وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية وفي تدبير الشأن العام، وتساهم في التعبير عن إرادة الناخبين، والمشاركة في ممارسة السلطة. كما يعطي –البث– جاذبية ومصداقية للعمل السياسي ويمنح الشرعية والمشروعية لمهمة ووظيفة ممثلي الأمة والمؤسسة التشريعية بشكل عام.

بناء على الاعتبارات السابقة، يمكن القول – وقد أكون على خطأ وقد أكون على صواب إن جاز لنا استعارة هذا التعبير من الفيلسوف كارل بوبر ومؤلفه أسطورة الإطار في دفاع عن العلم والعقلانية – بأن تحويل النقاش العمومي بخصوص العملية التشريعية وإعطاء قنوات موازية سلطة أكبر للتدخل فيها، نتيجة لوسائل التأثير والضغط التي بحوزة هذه التجمعات المهنية والتنظيمات الاقتصادية، في إطار المقاربة التشاركية وبنوع من “الغلو” أو محاولة الارتقاء بها لمصاف الممارسات السياسية الفضلى أو العرف الدستوري المفسر ينطوي على تدخل في وظيفة يختصها بها البرلمان الذي يجسد مفهوم سيادة الأمة التي تمارسها بصفة غير مباشرة بواسطة ممثليها تبعا للفصل 2 من الدستور، وباعتباره – البرلمان– مؤسسة دستورية منتخبة مباشرة من الناخبين- مجلس النواب – انطلاقا من اختصاصه التشريعي والتصويت على القوانين ومراقبة عمل الحكومة وتقييم السياسات العمومية، طبقا للفصل 70 من الدستور، وإدخال التعديلات على القوانين سواء كانت ذات مصدر حكومي أو برلماني.

وفي علاقة بهذا الموضوع، هناك تساءل جوهري يفرض نفسه بقوة وإلحاحية وهو المتعلق أساسا بحدود سلطة البرلمان في إدخال تعديلات أو حذف وتغيير مقترحات تشريعية تم الاتفاق عليها مسبقا باسم المقاربة التشاركية؟، مع العلم بأنه دستوريا يمكن له ذلك عملا بحق التعديل الممنوح لأعضاء مجلسي البرلمان والحكومة بموجب الفصل 83 من الدستور، لكن في حالة الاتفاق على عدم جواز تعديل وحذف مقتضيات تشريعية تم التوافق عليها في إطار الديمقراطية التشاركية بين الحكومة والتجمعات الموازية، فإن هذا التوافق يحول مؤسسة البرلمان إلى مؤسسة صورية ويجعل سلطتها التشريعية في مهب الريح، ويزداد احتمال حدوث إضعاف وظيفة البرلمان التشريعية إذا أخذنا بعين الاعتبار بأن البرلمان في التجربة المغربية ولد مكبلا بتقنيات العقلنة البرلمانية التي الغرض منها تحجيم وتقليص دوره في مجالي التشريع والمراقبة مما يضفي عليه مزيدا من إجراءات العقلنة “المستحدثة” تجعله شبيها لــ”جسد” بدون روح.

نفس التساؤل يطرح أيضا بخصوص سلطة الحكومة في الدفع بعدم قبول كل مقترح أو تعديل مقتضى قانوني في إطار المقاربة التشاركية؟، علما بأن حقها هذا ثابت دستوريا ولها سلطة الدفع بعدم قبول التعديلات في مواجهة البرلمان نفسه، بموجب الفصلين 79 و83 من الدستور. لكن في حالة عدم قدرتها على تفعيل هذا الحق في إطار الديمقراطية التشاركية أي عدم قدرتها على رفض مقترحات وتعديلات تشريعية تم اقتراحها عليها في إطار الديمقراطية التشاركية من قبل الهيئات الموازية، فإن هذا الأمر يجعل القانون يتحول إلى نسق أيديولوجي – سياسي لخدمة تَوجُّهَات التنظيمات التي تؤثر فيه قصد تحصين امتيازاتها أو التوسيع من هامشها، وهذا الأمر يتناقض مع جوهر وروح القانون باعتباره أسمى تعبير عن إرادة الأمة طبقا للفصل 6 من الدستور وباعتباره حارسا لقيم المساواة والعدالة. وبالتالي، فوظيفة القانون تقتضي أن لا يخضع للمقايضات السياسية أو للحسابات التفاضلية للنخب السياسية والاقتصادية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *