اقتصاد

هل يوفر مخزون المغرب من الإبل حلا ناجعا لكبح ارتفاع أسعار اللحوم الحمراء؟

الجمال والنوق

شهد المغرب خلال الشهور الماضية ارتفاعا غير مسبوق في أسعار اللحوم الحمراء، ووصل مستويات قياسية لم تفلح أمامها رزمة الإجراءات الحكومية للحد من مواصلة الارتفاع، ولم تعرف الأسعار استقرارا نسبيا إلا بعد الرسالة الملكية التي أهاب فيها أمير المؤمنين بالمغاربة بعدم ذبح الأضاحي خلال عيد الأضحى المقبل، حيث تململت الأسعار نسبيا في اتجاه تراجعي دون أن تعود إلى مستوياتها قبل انطلاق منحى الارتفاع.

وبالرغم من إطلاق عدة مبادرات لتخفيف آثار الارتفاع على القدرة الشرائية، مثل دعم الأكباش المستوردة الموجهة إلى الاستهلاك في عيد الأضحى العام الماضي، والتسهيلات الضريبية والجمركية على استيراد الأبقار الموجهة إلى الذبح، ثم ونهج سياسة استيراد اللحوم الحمراء، لم تتمكن الحكومة من ضبط السوق وتحقيق استقرار الأسعار.

هذه الأزمة ليست جديدة في المغرب، حيث انطلقت قبل سنوات، لكنها تفاقمت بشكل ملحوظ ومتسارع في السنتين الأخيرتين. يشهد الوضع تضاربًا في الآراء والتبريرات الرسمية والمهنية، حيث حمل وزير الصناعة والتجارة، رياض مزور، المسؤولية للمضاربين ومحتكري السوق، مشيرًا إلى أن نحو 18 مضاربًا يتحكمون في سوق اللحوم الحمراء، مما أدى إلى تضخم هوامش الربح بشكل غير مسبوق. في المقابل، يرى آخرون أن الجفاف وغلاء الأعلاف هما السبب الرئيس في الأزمة.

من جهة أخرى، أرجع رئيس الجمعية الوطنية لهيئة تقنيي تربية المواشي، عبد الحق البوتشيشي، الأزمة إلى عدم نجاعة التدابير الحكومية، حيث أكد في تصريح سابق لجريدة “العمق” أن الدولة، رغم المجهودات المبذولة، لم تتمكن من وضع دفتر تحملات للمستوردين. كما أشار إلى غياب دراسة قبلية أو بعدية للمنتجات المستوردة تحت ذريعة تحرير السوق، وهو ما كان ضروريًا لمعرفة الأسعار المناسبة لتوزيع اللحوم. وأضاف أنه كان من الممكن فتح طلب عروض دولي لتحديد الأسعار التي يجب أن تباع بها اللحوم في الأسواق المغربية، مما كان سيساهم في منع التلاعب بالأسعار.

أمام هذه التحديات المتزايدة التي لم يفتئ سوق اللحوم الحمراء يتخلص منها، ويرتفع صوت جديد يرى في قطيع الإبل حلا يمكنه المساهمة في تزويد السوق الوطنية من نسبة مهمة من حاجياتها من اللحوم، غير أن هذا التوجه لا يوفر حلا نهائيا وجذريا وتحوم حول تطبيقه مجموعة من الإكراهات والمعيقات.

ثروة مهمة وأرقام غير دقيقة

تشير المصادر المفتوحة والمعلومات المعلنة للعموم على موقع وزارة الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات، أن المغرب يتوفر على 183 ألف رأس من الإبل، غير أن هذه المعطيات تعود إلى عام 2019، ولا تقدم الوزارة على موقعها أي أرقام محينة رغم مرور 7 سنوات على هذه المعطيات.

تتمركز 90 في المائة من ثروة المغرب من رؤوس الإبل في الجهات الجنوبية الثلاثة، وتعد موردا أساسا للدخل بالنسبة لنسبة مهمة من الأسر في هذه الجهات الصحراوية، غير أن هذا النوع من تربية الأنعام يتميز بها أساسا الرحل أكثر من المقيمين.

وحسب المعطيات المذكورة، تعد أهم سلالات الإبل الموجودة بالمغرب هي المرموري (سلالة حليبية)، كرزني وخواري وجمل الجبل (سلالات خصوصا لحمية)، وترتبط تغذية قطيع الإبل أساسا بالموارد الرعوية التي تتجاوز مساحتها في الجهات الجنوبية للمملكة 21 مليون هكتار.

“ويهيمن نمط الرعي والترحال بالمراعي على ممارسة نشاط تربية الإبل في المغرب، كما يتمركز عدد قليل من وحدات تربية الإبل المكثفة بجوار المدن (الحوش)، والتي تتكون على الخصوص من النوق الحلوب”، وفق المصدر المذكور.

من جهته أورد المكتب الوطني للاستشارة الفلاحية في موقعه الرسمي أن تربية الإبل تحقق رقم معاملات سنوي يقدر بحوالي 8 ملايين درهم، ويقدر عدد الرؤوس بحوالي 2000 ألف رأس دون ذكر عام الإحصائية، وحاولت “العمق” الحصول على معطيات أكثر من مصادر مهنية لكنها تحفظت عن الحديث في الموضوع.

تحديات مثل للبقر والغنم

ولم يسلم قطيع الإبل بدوره من التحديات والإكراهات التي يعيشها قطيع المواشي والأبقار، حيث تشير المعطيات المنشورة على موقع وزارة الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات، إلى نمو غير متناسب بين عدد الرؤوس وبين كمية لحوم الإبل التي تم تزويد السوق بها.

ففي الوقت الذي عرف القطيع الوطني نموا بنسبة 14 في المائة بين عامي 2008 و2019، أي من 160 ألف إلى 180 ألف رأس، فإن تزويد السوق من اللحوم الحمراء ارتفاع نسبة 86 في المائة، أي من 1930 طن في عام 2008 إلى 3598 طن عام 2019، وهو ما يعني عدم مواكبة تطور القطيع لتطور الرؤوس الذي يتم نحرها.

بالرغم من كون هذا الأرقام ظهرت ممذ ما يزيد عن 7 سنوات، إلى أنه وإلى اليوم لم يتم اتخاذ أي إجراءات من أجل حماية الثروة الحيوانية الوطنية من رؤوس الإبل، فيما ظلت الإحصاءات الحديثة غير معلنة، مما ينذر بأن يكون القطيع الوطني من الإبل يعاني من نفس مشاكل قطيع البقر والغنم.

ولم تستثن موجة الغلاء لحوم الإبل، رغم أنها تعتمد أساسا على الرعي ولا تتأثر كثيرا بتغيرات أسعار الأعلاف، حيث انتقل سعر الكيلوغرام من حوالي 65 إلى 130 درهما بالنسبة للحوم ما يسمى محليا بـ”البعير” (صغير الجمال فتي اللحم)، ويستقر في 100 درهم بالنسبة للحوم الجمال والنوق البالغة.

وفي حديث هاتفي مع جريدة “العمق”، فسر عبد الله وهو جزار بمدينة العيون، ارتفاع الأسعار بارتفاع الإقبال على لحوم الإبل من جهة، وإلى ارتفاع أثمان البيع بالجملة، مما يقلص هامش ربح الجزار، لم يخف استغرابه من الارتفاع الذي قال “رغم ارتفاع الإقبال ليس مبررا”.

بديل اقتصادي ومميزات صحية

أضحى استهلاك لحوم الإبل ذا انتشار أوسع مقارنة بالماضي إثر تنامي الإقبال عليه خارج الأقاليم الصحراوية، نظرا لانفتاح عدد من المغاربة عليه وكذا نظرا لفوائده الصحية، حيث “يعتبر لحم الإبل بديلا صحيا للحوم الحمراء الأخرى لاحتوائه على نسبة أقل من الكوليسترول وعلى نسبة أعلى من الأحماض الدهنية الأساسية المفيدة لصحة الإنسان”.

وفق ما جاء في مقالة علمية منشورة في المكتبة الوطنية الأمريكية للطب، فإن لحم الإبل يتوفر إلى تركيبة غذائية متميزة تجعله خيارا صحيا مهما، لأنه يتميز بتركيز عال للبروتين أكثر من باقي أنواع لحوم الثديات وذلك بسبب انخفاض معدل الدهون فيه، وهو ما يجعل لحوم الإبل من المصادر الجيدة للبروتينات التي تعد عنصرا أساسيا في النظام الغذائي المتوازن للإنسان، كما أنها تقدم تركيبة متقاربة جدا للاحتياجات البشرية من الأحماض الأمينية، وتجعل بروتينات الإبل سهلة الهضم وتحتفظ بقيمتها البيولوجية والغذائية، وهو ما يجعل الجسم يستفيد منها بشكل فعال أكثر من باقي اللحوم الحمراء.

المقالة العلمية التي نشرتها المكتبة الوطنية الأمريكية للطب، أشارت إلى أن الدراسات التي إجراؤها حول الخصائص البيولوجية النشطة في لحوم الإبل، مازالت محدودة ولم تعرف دراسات معمقة، ولكنها أكدت في الوقت ذاته أن المؤشرات الأولية توحي بإمكانيات واعدة.

أوردت الدراسات أن لحم الإبل يتميز بانخفاض نسبة الدهون مقارنةً باللحوم التقليدية، وهي ميزة يقدّرها الأطباء وأخصائيو التغذية، خاصةً في ظل ارتفاع نسب الإصابة بأمراض القلب والشرايين. من حيث نوعية الأحماض الدهنية، أظهرت النتائج أن لحم الإبل يحتوي على توازن مقبول، حيث تقل فيه نسب الدهون المشبعة والدهون الصناعية الضارة، مع حضور للأحماض الدهنية النافعة. لكن هذه النسب قد تختلف حسب النظام الغذائي للإبل ومستوى شحومها.

أما من حيث المعادن، فإن لحم الإبل لا يقل شأناً عن اللحوم الحمراء الأخرى، إذ يُعد مصدراً مهماً لعناصر مثل الحديد والزنك، التي يعتبر امتصاص الجسم لهما أفضل بكثير من المصادر النباتية. وتنسحب هذه الميزة أيضًا على الفيتامينات القابلة للذوبان في الماء مثل مجموعة فيتامين B، وخاصة B12، التي تتواجد في لحم الإبل بمستويات مماثلة لتلك الموجودة في اللحوم الحمراء الأخرى، رغم محدودية البيانات المتوفرة. إلا أن نسبة الفيتامينات القابلة للذوبان في الماء قد تميل إلى الانخفاض بسبب انخفاض نسبة الدهون في لحم الإبل، مما يستدعي من المستهلك الانتباه إلى هذه النقطة، خصوصًا إذا كان لحم الإبل هو المصدر الوحيد للحوم في نظامه الغذائي.

قدرة على مقاومة الجفاف

وتتميز الإبل بقدرة كبيرة على التأقلم مع الظروف المناخية القاسية في مناطق عدة من المغرب، ما يجعلها خيارًا مربحًا في السنوات الجافة.

وأشار مقال علمي أنجزه باحثان بمدرسة علوم الزراعة والتغذية بجامعة كوينزلاند بأستراليا، إلى أن الإبل تُعد من الحيوانات متعددة الاستخدامات ذات الأهمية الاقتصادية الكبرى في المناطق القاحلة وشبه القاحلة، تكتسب أهمية متزايدة في ظل التغيرات المناخية المتسارعة التي تؤثر بشكل مباشر على الإنتاج الزراعي والحيواني حول العالم.

وخلص الباحثان إلى أن الإبل تعد “بديلا استراتيجيا أمام تراجع إنتاجية الماشية التقليدية كالأبقار والأغنام”، وأنها “برزت كخيار واعد بفضل قدرتها الفائقة على التكيف مع الظروف القاسية، مما يجعلها دعامة أساسية للأمن الغذائي والمعيشي في المناطق المتضررة”.

وأكد البحث الذي نشرت مضامينه في “مجلة علوم الإبل” الصادرة عن “الجمعية الدولية لأبحاث وتنمية الجمليات”، أن الإبل “تمتاز بقدرتها على تحمل العطش لفترات طويلة تصل إلى أسبوع، مع إمكانية التغذي على نباتات شحيحة مثل الأشجار والشجيرات، وهو ما يجعلها مناسبة للبيئات الصحراوية”، وأن “تربية الإبل تعد أقل تكلفة من تربية الأبقار والأغنام من حيث الأعلاف والرعاية البيطرية، مما يجعلها جذابة للمربين الذين يعانون من ضغوط مالية بسبب ارتفاع أسعار المدخلات الزراعية”.

وخلص البحث إلى أنه “يمكن للحكومة تشجيع الفلاحين والمربين على توسيع قطيع الإبل والجمال عبر توفير الدعم المالي والتقني لهم”.

تحديات الحركية والتنظيم

وقفت دراسة مشتركة بين عدة مؤسسات في المغرب وخارجه، بعنوان “المساهمة الاقتصادية لأنظمة تربية الماشية المعتمدة على الإبل في الأراضي الجافة بشمال إفريقيا: حالة أقاليم شرق وجنوب المغرب”، على أن واحدة من أبرز التحديات التي يعانيها قطاع الإبل في المغرب هو تحدي “الحركة والتنظيم”، حيث خلصت إلى أنه “رغم الإمكانات الكبيرة التي أظهرتها تربية الإبل في دعم الاقتصاد المحلي والخدمات البيئية والثقافية، تواجه هذه المنظومة جملة من التحديات الهيكلية والتنظيمية، من أبرزها: ة الإبل كرهان للتأقلم ومصدر إرباك للسياسات.

الدراسة منشورة باللغة الإنجليزية في المجلة العلمية لمركز “أوديسا”، أواخر عام 2024، وشارك في إنجازها طاقم ممثل لكل من معهد أبحاث وتطبيق أساليب التنمية بباريس، والمعهد الزراعي بجامعة مونبليه، والمركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة بالرباط، وجامعة محمد السادس متعددة التقنيات بن جرير.

واعتبر أن تحدي الحركة يعد من عوامل إرباك السياسيات العمومية الموجهة إلى القطاع، حيث يتركز على الحركية الرعوية والانتقال الموسمي بحثا عن الماء والكلأ، ففي الوقت الذي تعتبر هذه العملية تقليدية في التأقلم مع المناخ الصحراوي والمناطق الجافة وشبه الجافة، إلا أنها تُعتبر من طرف بعض الإدارات الرسمية “عائقاً أمام تنظيم سلاسل الإنتاج، خاصة في قطاع الحليب”، كما نقلت عن مسؤول جهوية في مديرية الفلاحة بجهة كلميم واد نون. وأبرزت أن “الحركية تعيق تطوير قطاع حليب الإبل” واصفة إياها بـ”المشكلة الحقيقية” لأنها تجعل من الصعب تتبع القطيع، وتنظيم التسويق، وإرساء سلاسل قيمة منظمة شبيهة بتلك المعمول بها في تربية الأبقار أو الأغنام، مما يخلق صعوبات في ظل غياب آليات التجميع والتبريد والتثمين الصناعي، ما يجعل التسويق يعتمد على علاقات غير رسمية (بائع مباشر، محل بقالة، تعاونية محلية…).

ووقف البحث المذكور على البنية التقليدية القبلية التي مازالت هي الحاضنة الأساسية للفلاحين في الصحراء، مما يضعف قدرة التعاونيات الحديثة على تجميع الفاعلين حول أهداف اقتصادية موحدة، ويجعل البرامج التنموية في مواجهة ضعف التنظيم الذاتي، بالرغم من أن مخطط المغرب الأخضر (2008 – 2020)، شجع الفلاحين والكسابة على تأسيس تعاونيات وجمعيات بهدف تقوية الإنتاج، غير أنه في المناطق الصحراوية بقي أثره جد ضعيف نظرا لسيادة البنية القبلية التقليدية، وظلت عدة تعاونيات أنشئت بدعم الدولة غير نشيطة أو ظلت تعتمد ماليًا على الدعم العمومي، دون الوصول إلى الاستقلالية أو الإنتاجية المنتظرة.

في السياق ذاته أبرز البحث العلمي المشترك المتضمنة خلاصاته في 16 صفحة، الحاجة إلى نموذج جديد للتنظيم يأخذ بعين الاعتبار “الطابع المتنقل للإبل”، “التعدد الوظيفي للإبل (غذائي، ثقافين بيئي…)”، ثم “الحاجة إلى إدماج الشباب بأساليب تنظيمية حديثة ومتلائمة مع الخصوصيات المحلية”، كما دعا إلى إعداد رؤية بديلة تقوم على “الاعتراف بالحركية كأصل لا كعائق” عبر “تجاوز النظرة التقليدية التي تعتبر الترحال معوقًا للتنمية، واعتباره آلية فعالة للتأقلم مع التغيرات المناخية وظروف الجفاف”، وأن يكون “دعم هذه الحركية مدخلًا لإصلاحات عميقة تهم تخطيط المراعي، نقل المعرفة التقليدية، وتطوير آليات التسويق المرنة والمتحركة”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *