منتدى العمق

جيل التيه الوجودي: ماذا فعلنا بحياة هذا الشاب؟

في زمن تتسارع فيه وتيرة الحياة، وتتشابك خيوط التحديات الاقتصادية والاجتماعية في نسيج معقد، يجد الشاب المغربي نفسه عالقاً في متاهة وجودية لا مخرج واضح منها. ليس التيه الوجودي مجرد حالة نفسية عابرة، بل هو تعبير عن أزمة عميقة، أزمة جيل بأكمله يحمل على كتفيه أحلاماً ثقيلة وتطلعات تتصادم مع جدران واقع لا يرحم. إنها ظاهرة صامتة، تنمو في الخفاء، تتسلل إلى أحاديث المقاهي، إلى لحظات الصمت أمام شاشات الهواتف، إلى الليالي الطويلة التي يقضيها الشاب في التفكير: “ماذا أفعل بحياتي؟” هذا السؤال ليس مجرد استفسار عابر، بل هو صرخة داخلية، صدى لصراع يومي بين الذات والمجتمع، بين الأمل واليأس، بين الممكن والمستحيل.

تخيل شاباً يستيقظ في الصباح، لا لأن منبهاً قد رن، بل لأن النوم نفسه قد تخلى عنه. يفتح عينيه ليجد نفسه أمام مرآة الواقع: غرفة صغيرة يكاد إيجارها يبتلع ما تبقى من دخله، هاتف ذكي يحمل تطبيقات تذكره بضرورة “الاعتناء بالذات”، وشاشة تعرض أخباراً عن أزمات اقتصادية عالمية ومحلية لا يملك تجاهها سوى الشعور بالعجز. ينظر إلى شهادته الجامعية المعلقة على الحائط، تلك الشهادة التي كان يظنها يوماً جواز سفر إلى حياة أفضل، لكنه يكتشف أنها ليست سوى ورقة أخرى في سجل طويل من الخيبات. يتساءل: “هل كان كل هذا الجهد عبثاً؟” لكنه لا يملك رفاهية التوقف عند هذا السؤال، لأن الحياة تطالبه بإجابات فورية: فواتير يجب دفعها، توقعات عائلية يجب الوفاء بها، ومجتمع يحكم عليه بناءً على ما يملك، لا على ما هو عليه.

هذا الشاب ليس حالة استثنائية. إنه رمز لجيل بأكمله، جيل يعيش في ظل تحولات اجتماعية واقتصادية هائلة، لكنه محروم من أدوات فهم هذه التحولات أو التعامل معها. التيه الوجودي الذي يعيشه هذا الجيل ليس مجرد شعور بالضياع، بل هو حالة اجتماعية شاملة تتجلى في كل زاوية من زوايا الحياة اليومية. يكفي أن تجلس في مقهى شعبي في الدار البيضاء أو الرباط أو مراكش، لترى الوجوه الغارقة في شاشات الهواتف، لتسمع أحاديث متقطعة عن فرص العمل في الخارج، عن مشاريع لم تكتمل، عن أحلام مؤجلة إلى أجل غير مسمى. هذه ليست مجرد لحظات عابرة، بل هي مشاهد من حياة يومية تكرر نفسها كطقس جماعي، كأن الشباب المغربي قد وقّع عقداً غير مكتوب مع الواقع: أن يعيش في انتظار معجزة قد لا تأتي أبداً.

مظاهر هذا التيه متعددة ومتنوعة، لكنها جميعاً تشترك في جذر واحد: الشعور بالعجز أمام نظام اجتماعي واقتصادي لا يوفر سوى الفتات للغالبية. هناك الشاب الذي يحمل شهادة في الهندسة أو الطب أو الأدب، لكنه يجد نفسه مضطراً لقبول عمل لا يتناسب مع طموحاته أو مؤهلاته. يحمل شهادته كما يحمل جندي سلاحاً صدئاً في معركة خاسرة، يعلم أنها لن تنجح في تغيير مصيره، لكنه يتشبث بها لأنها الدليل الوحيد على أنه “حاول”. وهناك آخرون، أقل حظاً، لم يحصلوا على فرصة التعليم العالي، فتحولوا إلى رواد أعمال اضطراريين في اقتصاد البؤس: يبيعون منتجات يدوية على الإنستغرام، يقدمون دروساً خصوصية بأسعار زهيدة، أو يروجون لاقتباسات تحفيزية مستعارة من صفحات أجنبية، على أمل أن تجذب متابعين يمنحونهم شعوراً زائفاً بالإنجاز.

في هذا السياق، تتحول الأحلام إلى سلع رخيصة تباع وتشترى على أرصفة الإنترنت. “كن رائد أعمال!”، “ابنِ مشروعك الخاص!”، “غيّر حياتك في 30 يوماً!”، شعارات رنانة تتردد في كل مكان، لكنها لا تخفي الحقيقة المرة: أن معظم هذه المشاريع ليست سوى محاولات يائسة للبقاء على قيد الحياة في ظل غياب فرص عمل حقيقية. إنه اقتصاد البقاء، حيث تتحول الحاجة إلى مصدر دخل إلى “مشروع ذاتي”، وتتحول الكرامة إلى رفاهية لا يملكها إلا من يمتلكون شبكة علاقات قوية أو رأس مال كافٍ.

وحين يحاول الشاب أن يرفع صوته، أن يعبر عن إحباطه أو يطالب بحقوقه، يجد نفسه محاصراً بخطاب اجتماعي جاهز للرد: “اصبر، الأمور ستتحسن”، “تفاءل، فالفرج قريب”، “كان الله في عون الجميع”. هذه العبارات ليست مجرد كلمات، بل هي أدوات لإسكات المعاناة، لتفريغها من معناها وتحويلها إلى شيء يمكن تجاهله. إنها مثل الأدوية الرخيصة التي تخفف الألم مؤقتاً دون أن تعالج السبب. حتى المؤسسات الرسمية، التي يفترض أنها الحاضنة لهذا الجيل، تكتفي بتقديم حلول سطحية: ورش عمل عن “التنمية الذاتية”، محاضرات عن “ريادة الأعمال”، وبرامج تدريبية تنتهي بتوزيع شهادات مشاركة لا قيمة فعلية لها. وكأن المشكلة تكمن في الشاب نفسه، في افتقاره إلى “الإرادة” أو “التفاؤل”، وليس في السياسات العمومية التي جعلت من الهجرة حلماً أكثر واقعية من الحصول على وظيفة مستقرة.

في ظل هذا الواقع، تنتشر ظواهر اجتماعية أخرى تعكس عمق الأزمة. هناك انسحاب جماعي من العمل السياسي، ليس لأن الشباب لا يهتمون بالشأن العام، بل لأنهم فقدوا الثقة في قدرتهم على التغيير. هناك أيضاً لامبالاة متزايدة تجاه القضايا الكبرى، لأن الشاب الذي يكافح لدفع فاتورة الكهرباء لا يملك الطاقة للتفكير في إصلاح النظام. وهناك، بشكل أكثر وضوحاً، هروب جماعي نحو العوالم الافتراضية: ألعاب إلكترونية، منصات تواصل اجتماعي، ومسلسلات متدفقة تقدم واقعاً بديلاً، عالماً موازياً حيث يمكن للشاب أن يكون بطلاً، أو على الأقل، أن ينسى للحظات أنه عالق في حياة لا يفهم قواعدها.

لكن هذا الهروب ليس حلاً، بل هو مجرد تأجيل للمواجهة. الشاب المغربي يعيش مأزقاً وجودياً حقيقياً: هو يريد أن يكون فاعلاً، أن يترك بصمة، أن يعيش حياة ذات معنى، لكنه محاصر بهشاشة اقتصادية تجعله يفكر في البقاء قبل أن يفكر في الطموح، وبضغوط اجتماعية تجبره على إثبات نفسه بمقاييس لا علاقة لها بقيمته الحقيقية. في هذا السياق، يصبح النجاح مفهوماً استهلاكياً بحتاً: سيارة جديدة، هاتف ذكي، ملابس تحمل علامات تجارية معروفة. بينما الروح، تلك الجوهرة الداخلية التي تجعل الإنسان إنساناً، تُستهلك بصمت، دون أن يلاحظ أحد، دون أن يهتم أحد.

ومع ذلك، فإن الشاب لا يستسلم تماماً. هو يحاول، بطريقته الخاصة، أن يجد مخرجاً من هذه المتاهة. يبتكر أجوبة مؤقتة لإسكات قلقه الداخلي: “غداً سيكون أفضل”، “فرصتي قادمة”، “ربما لم يحن وقتي بعد”. هذه الأجوبة ليست تعبيراً عن قناعة حقيقية، بل هي محاولات يائسة للحفاظ على شرارة الأمل، حتى وإن كان هذا الأمل نفسه قد تحول إلى سلعة أخرى، سلعة هشة يمكن أن تنفد في أي لحظة. لأن الحقيقة، في النهاية، هي أن هذا التيه لن يُحل بالشعارات التحفيزية، ولا بالكتب التي تعد بتغيير الحياة في سبع خطوات، ولا حتى بالشاي الأخضر الذي يُروج له كعلاج لكل شيء.

ما يحتاجه هذا الجيل ليس مجرد حلول فردية، بل تغييراً جذرياً في الطريقة التي ينظر بها المجتمع إلى شبابه. نحتاج إلى دولة ترى في الشباب شركاء في بناء المستقبل، لا عبئاً يجب التعامل معه بحذر. نحتاج إلى مجتمع يتوقف عن ربط قيمة الإنسان بما يملك من ممتلكات، أو بما إذا كان قد تزوج أو اشترى سيارة. نحتاج إلى نظام تعليمي يعلم الشباب كيف يعيشون، كيف يواجهون أسئلتهم الوجودية، بنفس الجدية التي يعلم بها الرياضيات أو الفيزياء. وأكثر من ذلك، نحتاج إلى خطاب جديد، خطاب لا يعد بالخلاص المطلق، بل يعترف بالجرح، يمنح الشباب الحق في التعبير عن آلامهم دون خوف من الحكم أو الإدانة.

في انتظار هذا التغيير، سيستمر التيه كطقس يومي. سيواصل الشاب المغربي ارتداء قناعه الاجتماعي كل صباح، متظاهراً بأن كل شيء على ما يرام، بينما يعلم في قرارة نفسه أن لا شيء كذلك. وسيظل السؤال يطارده: “إن لم يكن هذا هو الطريق، فأين الطريق؟” سؤال لا يملك إجابة سهلة، لكنه، في جوهره، دليل على أن هذا الجيل، رغم كل شيء، لا يزال يبحث عن معنى، عن أمل، عن حياة تستحق أن تُعاش.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • محمد جاد
    منذ 4 أشهر

    جميل جدا