سياسة

في ذكرى وفاته.. الخطيب جراح قاوم الاستعمار وفتح باب السياسة للإسلاميين

في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة 1429 للهجرة الموافق لـ 27 سبتمبر 2008، غادر إلى دار البقاء الدكتور عبد الكريم الخطيب المسؤول الأعلى للمقاومة المسلحة المغربية ضد الاستعمار الفرنسي، مؤسس الكشفية الحسنية، والأمين العام لحزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية الذي تحول فيما بعد إلى حزب العدالة والتنمية الذي يقود الحكومة الحالية للمغرب.

ولد عبد الكريم الخطيب بمدينة الجديدة سنة 1921، في حقبة الاستعمار الفرنسي للأراضي المغربية، وتتلمذ وتمدرس في المغرب إلى أن اختار دراسة الطب، حيث رحل إلى الجزائر وأمضى بها أربع سنوات، كان يدرس ليلا ويقاوم ويقود المظاهرات نهارا، حيث التحم الدم المغربي بالدم الجزائري في مسيرة التحرير، ثم هاجر إلى الديار الفرنسية لاستكمال الدراسة بجامعة السوربون التي أتم بها دراسة الطب.

والده هو الحاج عمر الخطيب، الذي اشتغل ترجمانا إداريا، وكان مؤمنا تقيا زاهدا في الدنيا، أما أمه فهي السيدة مريم الكباص والتي كانت حافظة لكتاب الله كما عرفت بشخصيتها القوية وثقافتها الواسعة.

الخطيب طبيب المقاومة

قام الخطيب بعمليات جراحية للمقاومين لتغيير شكلهم حتى لا يقعوا في يد المستعمر، يحكي عن الفترة فيقول كان الأخ الدحوس من أشهر المقاومين حينها، فلما انفضح أمره، وكان له في وجهه جرح معروف به، أتى به الإخوان ليلا إلى عيادتي، وطوقوا العيادة بحراسة خارجية، وهو بغرفة العمليات، كان يقول لي لا أمان ممكن يدخلوا علينا، كان يحمل مسدسين في جيبه، أجريت له عملية جراحية، تغيرت على إثرها ملامح وجهه، ثم عاد إلى المقاومة من جديد.

لم يكتف الخطيب بالجراحة في عيادته، بل إنه لم يتردد في استخدام المساجد كغرفة للجراحة، فيما كان المستعمر يبحث عن المقاومين في المدن وفي أعالي الجبال.

من الكشفية  للمقاومة المسلحة

في بداية الأربعينيات، وفي سن لا يتجاوز 19 سنة، أسس الدكتور الخطيب رفقة بعض إخوانه الكشفية الحسنية، وانضم إلى الكشفية مولاي ادريس المحمدي والمهدي بن عبود والعربي حصار…وغيرهم. وتفرع نشاط الكشفية في جل مناطق المغرب مما دفع سلطات الحماية إلى منع الزي الكشفي لما كان يرمز له من قيم وطنية.

وأثناء تواجده بفرنسا لمتابعة دراسته، تقلد الخطيب منصب النائب الأول لجمعية الطلبة المسلمين من شمال إفريقيا، وقاد إلى جانب رئيس الجمعية ذو الأصول الجزائرية نواة فريق يعمل على توحيد شمال إفريقيا بعد تحريرها من الاستعمار، غير أن الحلم سريعا ما تم إجهاضه على أيدي الزعماء الذين استولوا على الحكم بهذه البلدان، ويقول الخطيب عن سبب فشل حلم الوحدة لأن الذين استولوا على الحكم في دول شمال إفريقيا ناس لم يشاركوا في التحرير الحقيقي، وجاء أناس آخرون عندهم أفكار أخرى.

وانتخب الخطيب في سنة 1956 مسؤولا أعلى للمقاومة المسلحة، ومن موقعه ذاك، ساند كل حركات التحرير في العالم، يحكي نيلسون مانديلا رئيس جنوب إفريقيا والمناضل التاريخي المعروف، أنه في شهر أبريل من العام 1962 زرت الخطيب في بلده، وقلت له أريد أن ألتقي بجلالة الملك فأجابني لماذا؟ فقلت له لقد أنشأنا جيشا ونريد تدريبه كما أننا في حاجة إلى السلاح والمال، فأجابني بأنه يفهم الظروف التي تمر بها بلادنا لأنه هو نفسه مر في نفس المرحلة التي نحن بصدد خوض غمارها، وأضاف أحضر جنودك إلى دار السلام وسأبعث بطائرة لتحضرهم إلى بلادي وسنقوم بتدريبهم.

رجل سياسة ودولة

عبد الكريم الخطيب لم يكن رجل مقاومة وسلاح فقط، بل رجل سياسة ودولة أيضا، ففي 1960 عين وزيرا للشؤون الاجتماعية، كما عين سنة بعد ذلك وزيرا مكلفا بالشؤون الإفريقية، كما انتخب أول رئيس للبرلمان المغربي في سنة 1963 حتى 1965 سنة الإعلان عن حالة الاستثناء من قبل الملك الحسن الثاني، الذي شكل حكومة ترأسها بنفسه، واعتذر الخطيب عن المشاركة فيها بحجة المرض.

يشهد للخطيب عندما كان عضوا في اللجنة التي عينت لوضع أول دستور سنة 1962 أنه أول من حرص على تضمين إمارة المؤمنين في بنود الدستور المغربي، والتنصيص على إسلامية الدولة، لما قدموا لنا أول دستور، وأنا عضو في اللجنة، كان دستورا علمانيا لا إشارة فيه إلى الإسلام ولا الإمارة، فطلبت من الملك آنذاك الحسن الثاني أن ينتبه، فالمغرب بلد مسلم، والعلاقة التي تربط بين العرش والشعب ملخصة في عقد البيعة، والبيعة هي لأمير المؤمنين، وذلك منذ العصر الموحدي يقول الخطيب.

بوابة الإسلامين للسياسة

بعدما أغلقت كل الأبواب في وجه حركة التجديد والإصلاح وحالت بينها وبين تأسيس حزب سياسي، التجأ إخوان رئيس الحكومة الحالي عبد الإله ابن كيران إلى الدكتور عبد الكريم الخطيب الذي فتح لهم أبواب حزبه الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية، وانخرطوا فيه بعد توحدهم مع رابطة المستقبل الإسلامي التي كان يقودها آنذاك أحمد الريسوني القيادي الحالي بحركة التوحيد والإصلاح.

ظل الخطيب أمينا عاما للحزب، وشارك في قيادة حملة الحزب في انتخابات نونبر 1997 ورعى مسار الحزب في الموقف من حكومة الاستاذ عبد الرحمن اليوسفي، ثم دعم مشروع تغيير اسم الحزب في سنة 1998 إلى اسم العدالة والتنمية، وذلك انسجاما مع مقتضيات المرحلة السياسية بالبلاد، وانتخب في 1999 أمينا عاما للحزب بدعم كافة المؤتمرين، وحقق مع الحزب انتصار انتخابات شتنبر 2002 عندما احتل الحزب الموقع الثالث وضاعف وجوده البرلماني ثلاث مرات، وبقي إلى غاية 2004 قائدا للحزب في ظرفية صعبة بعد تفجيرات 16 من ماي وما تلاها من حملة استئصالية شرسة الذي تحمل مسؤولية أمانته العامة حتى 2004، حيث أصبح الرئيس المؤسس للحزب في مؤتمر أبريل من نفس السنة، ورغم ذلك بقي متابعا لمسيرة الحزب وداعما له منشغلا بقضاياه حتى وفاته ليلة السبت 27 شتنبر 2008 عن عمر يناهز 87 سنة، فعاش مناضلا ومقاوما ومجاهدا حتى الرمق الأخير من حياته.

مدافع عن قضايا المسلمين

لم يقف إشعاع الدكتور عبد الكريم الخطيب فقط عند حدود وطنه إنما تعداه إلى الاهتمام بقضايا الإسلام والمسلمين في العالم، ففي منزله تم تأسيس الجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني وتمثلت فيها كل الأحزاب المغربية، ومن خلالها تم تقديم أشكال كثيرة من الدعم المالي والمعنوي للجهاد في فلسطين.

كما ساهم الخطيب في تشكيل منظمة مساندة للجهاد الأفغاني بعد الغزو السوفياتي لهذا البلد المسلم، وزار مخيمات اللاجئين الأفغان في بيشاوروباكستان.

وعندما تحركت آلة الإرهاب الصربية ضد مسلمي البوسنة والهرسك كان الدكتور الخطيب في طليعة المبادرين إلى إقامة مهرجان للتضامن مع هذا الشعب المسلم في مايو 1992، حيث تقرر إثر ذلك تأسيس الجمعية المغربية لمساندة البوسنة والهرسك والتي أصبحت لها فروع كثيرة في المغرب وقدمت الدعم الكثير لهذا البلد لمساعدته على الخروج من تلك المحنة.

وفضلا عن ذلك فقد كون الخطيب علاقات متينة مع العديد من الشخصيات عبر العالم العربي والإسلامي، مثل نلسون مانديلا وياسر عرفات وحسن الترابي، وعدد من القيادات الجزائرية.

شهادات في الخطيب

بعيد وفاة المرحوم أدلى عدد من رجالات الوطن بشهاداتهم اتجاه الرجل، نقلتها يومها يومية “التجديد” لسان حركة التوحيد والإصلاح.

وهكذا اعتبر عبد الإله ابن كيران الأمين العام لحزب العدالة والتنمية أن الخطيب “كان وطنيا بدون حدود عرفته بطلا من الأبطال، بل جبلا من الجبال، يتميز بقوة الإيمان وحق اليقين، ولا يعرف له فكر ولا إيديولوجية إلا الإسلام.. رجل كريم، وشهم وشجاع، ملكي حتى النخاع في غير ذلة، ومناضل لا يبالي بالسنين ولا بوهن الجسد، ورجل يهب لغوث إخوانه المسلمين أينما كانوا، وكل قضايا المسلمين عرفت بداية مناصرته في بيته، بداية بالقضية الفلسطينة إلى القضية الأفغانية إلى القضية الشيشانية إلى قضية البوسنة والهرسك إلى آخره..”

وقال ابن كيران إن الخطيب كان وطنيا بدون حدود، وشدد أن “أثر خبر وفاته لا يمكن أن يكون إلا كما يكون أثر خبر وفاة أعز الأعزاء.. ومع ذلك لا نقول إلا ما يرضي ربنا إنا لله وإنا إليه راجعون”.

سعد الدين العثماني بدوره اعتبر أن المرحوم الخطيب عاش الصمود أيام المحن. وقال إن الدكتور الخطيب سجل وطني وسياسي حافل لا تكفي الحديث عنه مجلدات، فهو رجل شهم، عاش الصمود أيام المحن، وقاوم في سبيل استقلال المغرب، وما توانى في مقاومة مختلف أشكال الاستبداد بعد الاستقلال، ودافع عن الحريات العامة بقوة، وعن مؤسسات البلاد.

وقال سعد الدين إن الخطيب قال كلمة لا حيث يجب أن يقولها، حيث قال لا ضد الحزب الواحد، وقال لا ضد خنق الحريات، وقال لا ضد حالة الاستثناء، وقاوم الإفساد الانتخابي ووقف ضد صانعيه. وفي بيته تأسست الجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني، كما أسس بعدها الجمعيات المغربة المساندة لمقاومة المسلمين في أرجاء كثيرة من العالم ضد الاحتلال والاستبداد، مثل الجمعية المغربية لمساندة الجهاد الأفغاني، والجمعية المغربية لمساندة البوسنة والهرسك وغيرها.

واعتبر العثماني أنه في بداية التسعينات كان له الفضل في فتح حزب الحركة الشعبية الدستورية الديموقراطية لأبناء الحركة الإسلامية، أبناء حركة الإصلاح والتجديد آنذاك، وقال لهم ادخلوا الحزب فإنه حزبكم، ذلك في وقت كان هناك انغلاق في الحياة السياسية، وكان مجمل التيار المسيطر في الدولة وفي النخب السياسية ضد مشاركة الحركة الإسلامية في الحياة السياسية. في كل اللحظات التي عشناها مع الدكتور، كان وفيا لمبادئه، قويا في مواقفه، متجردا عن الأهواء، كان وطنيا غيورا، ومؤمنا قويا، نسأل الله تعالى أن يرحمه ويغفر له ويسكنه فسيح جناته، وإنا لله، وإنا إليه راجعون.

بدوره اعتبر إدريس الكتاني أن الخطيب ظل مدافعا عن قضايا الإسلام بإيمان وإخلاص، وقال إن الدكتور عبد الكريم الخطيب الذي فقده المغرب هو أحد الرجال المخلصين الدعاة الذين عرفهم جيل الكفاح والنضال في سبيل الاستقلال.

وأكد الكتاني أنه بعد الاستقلال عرف الدكتور الخطيب بالدفاع عن قضايا الإسلام بإيمان وإخلاص، وهو أحد رجالات المغرب منذ بداية الاستقلال وما قبل الاستقلال، وقال إن “الحديث عن الخطيب يطول جدا، وكل ما يمكن أن أقوله الآن في هذه الكلمة عزاؤنا واحد في هذا الرجل الذي فقده المغرب، وهو من قلة من الرجال الذين عاصروا فترة الحماية وعهد الاستقلال، وتاريخه طويل في النضال الوطني. رحمه الله تعالى رحمة واسعة”.

بينما شدد إسماعيل العلوي القيادي في حزب التقدم والاشتراكية على أن الخطيب كان علما من أعلام المغرب وشخصية معلومة في التاريخ، وكان يضع مصلحة البلاد والوطن والإسلام فوق كل اعتبار.