وجهة نظر

من أجل حكومة وحدة وطنية لتحقيق الإنتقال الديمقراطي

إن الديمقراطيات لا تتحقق و لا ترى النور بدون توافق و اتفاق على قواعد و معايير دستورية و وجودية لتداول السلطة، و تملك القرار المنتج للسياسة و للعمل و لقيم العيش المشترك و الكرامة و الإنصاف المجالي و الإنساني.

الثورات ليست هي الطريق الوحيد لإعادة البناء، بل لقد أبدعت الإنسانية وسائل أخرى للوجود و التنظيم الجماعي، و اخترعت ثقافة الإجماع و التوافق و التنازلات المتبادلة.

المواجهات العقيمة لن تفيد بناء الدولة في شيء، بل ستجعل منها قصعة تتقاطفها الأيادي و الألسن هنا و هناك.

إن وجود الدولة لن يتحقق إلا بموجودات سياسية متملكة للوعي الجماعي العميق في تشارك الوعاء العام للحركة الإنسانية، هذه الموجودات التي إن لم تتوفر على تصور لدورها الوطني و على تفهم لضرورات العيش المشترك داخل وطن له جغرافيا محددة، ومعرض للتهديد و للأطماع، و على تصور كلي عام للأمة بعيدا عن ثقافة القبلية و العشائرية و الفئوية الإقصائية، فإنها لن تجد القنوات الصحيحة لمخاطبة و تنظيم الجماعة.

الدولة هي المؤسسة العامة المشتركة، التي بإمكانها أن تعطي لكل فرد أو جماعة حيزا ملموسا للتعبير و الإنفتاح و الفعل الحقيقي لتحقيق الذات، و بالتالي للمساهمة الفعلية في القيادة و التدبير.

الإنتقال الديمقراطي مرير، هو ليس انتقالا تقنيا بسيطا على مستوى الشكل، بل هو إنتقال من ثقافة إلى أخرى، من ذهنية إلى أخرى، و يحتاج إلى نقلة قوية على المستوى النفسي بالتشبع بخلق القبول للمختلف و المتنوع و بالتحلي بصفة المقبل على كلمة سواء بين جميع الفرقاء و بالقابلية للعمل الجماعي لتغيير البنيات الذهنية و المؤسساتية.

التنوع الثقافي و اللغوي و الذي يتجلى في تدافع إجتماعي قوي، هو ضمانة للبقاء و التلاقح، و في نفس الوقت أحد مكونات التفجير إن هو منع من الحيز العام و الإنفتاح.

الصراع حول تملك أدوات الدولة و تسخيرها أصبح إصطفافا نخبويا، جعلته الفئات المتجاذبة صراعا مشخصنا من أجل الوجود و أبعدته عن الواقع و عن إنتظارات القاطرات الخلفية، التي هي الشعب خصوصا فئاته المهمشة و المقهورة.

الدستور و تفعيله عملية مريرة، صعبة، معقدة و مركبة تزاوج بين التقني و السياسي و الثقافي، و لا ينبغي أن تكون حصرا فقط على ذوي المراتب الأولى في الإنتخابات، بل يتعين أن ينظر إليها كمرحلة تاريخية تأسيسية يتشارك فيها الجميع.

نحن في مرحلة إعادة البناء وفق تصميم جديد، و ليس فقط عملية إصلاح للبناء القديم، لذلك يجب الخروج من منطق أغلبية معارضة إلى فضاء أرحب و أوسع، حتى يتم تفادي المصادمات و الإختلافات في كيفية الولوج إلى معابر قيادة الدولة و إلى طرق تدبيرها على الأسس الحديثة لإدارة هذا العملاق الكبير الذي يسمى الدولة.

ثقافة التحكم العلماني لا يجوز محاربتها بثقافة للتسيد “الدياني” و “الفقهوت”(1)، على وزن الكهنوت، بل يجب الإعتراف أولا بأن هذه الثقافات هي نتاج للبنية الذهنية المغربية كما الثالثية ككل، و التي هي بدورها نتاج للتاريخ و لمعاركه و لتأثره بفترات من الإستبداد و الإستعباد، و لثقافة الرفض المتبادل “المتفرعن”، من منطلق إدعاءات كل طرف تملكه للحقيقة المطلقة و مشروعية تقمص شخصية “الأستاذية”، و حمل قلم أحمر لتقييم سلوكات باقي أبناء الوطن الواحد، من موقعه، و من منطلق تأويله لمرجعية معينة قد يكون مخطئا في قرائتها، و تحديد غاياتها و مآلاتها المفترضة.

لذلك يمكن القول أن المغاربة بغناهم الثقافي و الحضاري و الإجتماعي المتنوع، قادرون على تفادي لغم التشتت و التقسيم و الإقصاء، للتوافق و الإتفاق من جديد، على معبر جديد صلب و متين، يساهم الجميع في بناءه نحو مجال جديد للتنافس من أجل الإدارة و القيادة.

الديمقراطية بمؤسساتها و بثقافتها الحقوقية، هي الإجراء الوحيد الذي من شأنه أن يساعد على تحقيق الوجود، و يضمن التميز، و يصون الحرية الفردية داخل النسق الجماعي للحرية المرتبطة بما استقر عليه وجدان الجماعة من ثوابت و قيم.

فكرة تأسيس حكومة وحدة وطنية بعد السابع من أكتوبر يقودها الحزب الحاصل على الأغلبية كما ينص الدستور، و مشكلة من جميع الفاعلين السياسيين و المدنيين و الحقوقيين، بإمكانها أن تكون حلا مرحليا لبناء تعاقد عام جديد، مبني على المساواة في تقديم المطالب، متجاوز مرحليا لمنطق أغلبية معارضة بتقديم التنازلات الفئوية أو الحزبية الضرورية، و مؤسس لثقافة حقيقية للعيش المشترك و لهوية وطنية أصيلة مجمع عليها تراعي الهويات الفرعية، للقضاء على الرغبة في صناعة الطوائف أو الأقليات، و مهيئ لدولة الإحتكام للمؤسسات و محدد لنقط التماس بين المجالين العام و الخاص، في احترام تام لكل الإنتظارات.

هذه الحكومة قد تكون إمتدادا لروح التوافقات التي عاشتها البلاد سنة 2011 حول الدستور، و قد تخرج البلاد من المواجهات التصعيدية في المشهد السياسي، هذه المواجهات التي لن تحقق أي نصر لأي طرف على الآخر، بل ستقود إلى مواجهات أكثر إنحرافا و تطرفا في المواقف، و نفورا من العمل السياسي المؤسساتي، الشيء الذي قد يعجل بصدامات لا تحمد عقباها و ينذر بنزوع نحو إختيار بدائل متطرفة للتغيير.

و في هذا الصدد قد تكون الملكية في شخص الملك هي الضامن لتحقيق هذه الحكومة لأهدافها و مراميها، و على رأسها تأكيد و مأسسة ثقافة العيش المشترك، من خلال وظيفة التحكيم و خلق التوافق لاستمرار الدولة، و قد تلعب أيضا دورها الوسطي الإجماعي المفروض فيها كمؤسسة سابقة لكل المؤسسات من حيث المرجعية الثقافية، و من حيث النشأة و التطور التفاعلي التاريخي مع السياقات الجديدة، داخل منظور الملائمة مع إفرازات الفكر البشري في تدبير الدولة الحديثة.

ــــــــ

1- الدياني؛ الفقهوت؛ التسيد هي مصطلحات إستعملها الفيلسوف المغربي الكبير طه عبد الرحمان في كتابه: روح الدين.