منتدى العمق

علم المستقبليات وعلم الإستراتيجية …أية علاقة؟

مفهوم علم المستقبل:

لم يتفق العلماء حول تاريخ محدد يمكن اعتباره البداية الحقيقية لعلم المستقبليات؛ فمنهم من ارجعه إلى نهاية القرن الخامس عشر مع ظهور “توماس مور” صاحب التصور المستقبلي للمجتمع المثالي الخالي من كل الأشكال الاستبدادية. ومنهم من جعله مع نهاية القرن السادس عشر حين أصدر “فرانسيس بيكون” كتابا وسمه ب”أطلنطا الجديدة”، طرح من خلاله تصورا مستقبليا للعالم العلماني الجديد المتميز بالرفاه. وهناك من يرجع نشأة هذا العلم إلى “توماس مالتوس” من خلال دراسة له أصدرها سنة 1843م، جعل موضوعها النمو السكاني. ومع بزوغ القرن العشرين بدأت ملامح هذا العلم تتشكل، وتكتسب معناها العلمي والاصطلاحي، حيث اقترح “س. كولم جيلفان “سنة 1907م إطلاق اسم (ميلونتولوجيا)؛ وبحلول سنة 1930م أطلق الألماني “أوسيب فلنخها يم” مصطلح (Futurology) للدلالة على علم المستقبل. وبالجملة، فإن فترة الستينات من القرن الماضي عرفت تزايدا نوعيا وكميا في مؤلفات علم الدراسات المستقبلية.

ماهية الدراسات المستقبلية:

يرتبط علم المستقبل بالاستكشاف من خلال الربط بين الماضي والحاضر والمستقبل، أي التحليل بغرض تشكيل المستقبل. على أساس أن هذا الأخير(المستقبل) غير معد سلفًا. وهو امتداد للدراسة التاريخية، و محاولة علمية تتكامل فيها الدراسات العلمية لمعرفة جوانب صورة الحاضر وتحليلها والتعرف على مجرى الحركة. و يبقى هدفه هو تحليل وتقييم التطورات المستقبلية للإنسانية بطريقة عقلانية وموضوعية. وهو – حسب “فلختايم” بحث عما يمكن أن يكمل حياة الناس ويجعلها أفضل. ولهذا العلم أربعة مناهج، هي: المنهج الاستكشافي، والاستهدافي، والحدسي، والتحليل المستقبلي.
وفي تتبّعهم لبداية المنهجية العلمية للدراسات المستقبلية، رصد مؤرخو المستقبليات أعمالا تنذر بظهورها؛ فبعضهم ردّها إلى القرن التاسع عشر، مع صدور مقال للقس الإنكليزي الشهير “توماس مالتوس” الذي عرض فيه رؤية مستقبلية تشاؤمية للنمو السكاني. في حين ربطها آخرون بإصدار المفكر الفرنسي “كوندرسيه” لكتاب له يتمحور حول وضع مخطط لصورة تاريخية لتقدم العقل البشري سنة 1793م. حيث لازال الأسلوب المنهجي (التنبؤ الاستقرائي والتنبؤ الشرطي) الذي وظفه معتمدا من قبل المستقبليين المعاصرين.

وتجدر الإشارة إلى أن هناك إجماع بين مؤرخي المستقبليات على أن “هربرت جورج ويلز” هو أول من وضع مصطلح “علم المستقبل”. وفى كتابه “فن التكهّن” الصادر سنة 1967م، يلح “برتراند دي جوفنال ” أن الدراسة العلمية للمستقبل علم مستقل، ويرى أن المستقبل ليس محددًا يقينًا، بل عالم احتمالات.

  • وتعتبر الجمعية الدولية للدراسات المستقبلية أن الدراسة العلمية للمستقبل هي مجال معرفي أوسع، يستند إلى أربعة عناصر رئيسية هي:
    أنها تركّز على استخدام الطرق العلمية في دراسة الظواهر الخفية.
  • أنها أوسع، فهي تتضمن المساهمات الفلسفية والفنية جنبًا إلى جنب مع الجهود العلمية.
  • أنها تتعامل مع مروحة واسعة من البدائل والخيارات الممكنة، وليس مع إسقاط مفردة محددة على المستقبل.
    أنها تتناول المستقبل في آجال زمنية تتراوح بين 5سنوات و 50سنة.
  • أهمية الدراسات المستقبلية:

تتبلور أهمية الدراسات المستقبلية في مجالات الحياة المختلفة فيما يلي:

  • تساعد في اختيار نوع المستقبل المنشود.
  • تساعد في كشف غموض وأسرار المستقبل.
  • ترسم خريطة كلية للمستقبل من خلال استقراء الاتجاهات الممتدة عبر الأجيال والاتجاهات المحتمل ظهورها في المستقبل، والأحداث المفاجئة والقوى والفواعل الدينامية المحركة للأحداث.
    تبلور الخيارات الممكنة والمتاحة، وتعمل على ترشيد عمليات المفاضلة بينها.
  • تساعد على توفير قاعدة معرفية يمكن من خلالها تحديد الاختيارات المناسبة.
  • تعدّ مدخلًا مهمًا ولا غنى عنه في تطوير التخطيط الإستراتيجي القائم على الصور المستقبلية، حيث تؤمن سيناريوهات ابتكارية تزيد من كفاءة وفاعلية التخطيط الإستراتيجي.

مقارنة بين العلمين:

إن المدى الزمني للتخطيط الإستراتيجي طويل وهو ما دعا بعض الخبراء لأن يطلقوا على الإستراتيجية خطة الدولة وليس الحكومة، وكذلك علم المستقبل يتعامل مع مدى زمني طويل.
التخطيط الإستراتيجي يفتح مجالات أرحب من خيارات المستقبل بحكم المدى الزمني الطويل، إلا أن اختيار التوجه الإستراتيجي وهو من أهم عمليات التخطيط الإستراتيجي، والذي يعد من أكثر العمليات تعقيدًا، ويحتاج لاستدعاء كافٍ من المعرفة في العلوم المختلفة، ويربط بينها عبر جلسات العصف الذهني وإعمال منهج التفكير الإستراتيجي بما يمكن أن يقود لخيارات إستراتيجية تحقق الجدوى الإستراتيجية.
البعض يرى عدم وجود مساحة في الدراسات المستقبلية والإستراتيجية للأخلاقيات وهذا صحيح ، إلا أن المفهوم الحديث للإستراتيجية يهتم بمنظومة القيم والمرتكزات الإستراتيجية الداعمة للتخطيط الإستراتيجي.
الدراسة المستقبلية حساسة معرفيًا، وكذلك التخطيط الإستراتيجي، ولا يمكن تحويل الإستراتيجيات إلى واقع دون إسناد معرفي رفيع.

الإستراتيجية هي فن قيادة المعارك، وبمعنى أدق هي فن وعلم إدارة الصراع الإستراتيجي الشامل.
يقوم التخطيط الإستراتيجي على تشكيل واقع جديد يؤسس لتشكيل المستقبل المنشود ولا ينتهي بالتنبؤ، وهذا لا ينفي أن منهج التنبؤ غير موجود، فهو موجود في علم المستقبل وعلم الإستراتيجية، حيث يهتم علم المستقبل بقراءة المستقبل والتنبؤ بالأزمات قبل وقوعها، ومن ثم احتواؤها أو بالتنبؤ بأوضاع مستقبلية سلبية أو إيجابية؛ ولا ينتهي فقط بالاستسلام لذلك، كذلك نجد علم الإستراتيجية يتعامل مع نتيجة التنبؤ وما يتصل بها من أوضاع ولا يستسلم لها فحسب.

وبالجملة، يمكن القول إن هناك ارتباط بين العلمين، وسيزداد هذا الارتباط أكثر في إطار عمليات تطوير المفاهيم لكلا العلمين، والذي يمكن حصره فيما يلي:

الرؤية الإستراتيجية تعني أنها رؤية عميقة تتعلق بالمستقبل وتأتي في إطار خطة شاملة تؤسس لتحقيقها، ويجوز أن توصف بأنها رؤية مستقبلية، أما الرؤية المستقبلية قد تكون إنتاج معرفي منظم يتعلق بترتيب مستقبلي في موضوع معين، فالرؤية المستقبلية ليست بالضرورة خطة مستقبلية.

العلمان يتعلقان بتشكيل المستقبل المنشود واحتواء الأزمات والكوارث قبل وقوعها.

علم المستقبل يهتم بالتنبؤ ودراسة المستقبل بغرض التأسيس لمستقبل أفضل، أو للتنبؤ بالمهددات قبل وقوعها أو تخفيفها، لكنه ينتهي في هذا الحد أي حد الإنتاج المعرفي، وبالتالي فإن علم المستقبل بهذا الفهم والتأطير يحشد كل العلوم الإنسانية تجاه قضايا المستقبل وهو ما لا يتيسر لعلماء الإستراتيجية.

ينتهي علم المستقبل في إنتاج معرفي يتعلق بالمستقبل، إلا أن تحويله إلى واقع يصبح هو المجال المخصص لعلم التخطيط الإستراتيجي وعلم الإدارة الإستراتيجية بقواعدهما ومرتكزاتهما، وبهذا الفهم تعدّ الدراسات المستقبلية مدخلًا مهمًا ولا غنى عنه في تطوير التخطيط الإستراتيجي القائم على الصور المستقبلية، حيث يمكن أن تؤمن الدراسات المستقبلية سيناريوهات مبتكرة تزيد من كفاءة وفاعلية التخطيط الإستراتيجي، بما في ذلك التنبؤ بالأزمات حيث يتم احتواؤها مسبقًا عبر التخطيط الإستراتيجي.

يهتم التخطيط الإستراتيجي القومي بإنتاج المعرفة الإستراتيجية من خلال عملية التحليل الإستراتيجي، وذلك من خلال الربط بنتائج المعرفة في مجالات قوى الدولة الشاملة (السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية، العلمية، التقنية، العسكرية الأمنية بجانب المعلومات والإعلام). وتظل الحقيقة المهمة هو أن نتائج علوم المستقبل تؤسس وتعزز من فاعلية وكفاءة التحليل الإستراتيجي الذي يعد أهم خطوات التخطيط الإستراتيجي.

إن استشراف المستقبل يتم تحقيقه عمليًا من خلال عملية التخطيط الإستراتيجي المعد بناء على الإنتاج المعرفي الذي يعبر عن علم المستقبل والذي تشترك فيه كل العلوم.
إن تطور علم الدراسات المستقبلية يدعم عمليات التخطيط الإستراتيجي، وهو ما يحتم الربط بينهما وليس العكس.

خلاصة القول، فعلى الرغم من توفر الكثير من الخصوصيات لكلا العلمين (الدراسات المستقبلية والدراسات الاستراتيجية)، فإن لهما العديد من نقاط التقاطع، والتي هي بمثابة مفاصل للتكامل وفضاءت للتفاعل، تجعل كل علم منها يستند إليها من أجل تحقيق أهدافه، الشيء الذي يجعل المختص في أحدهما مضطرا إلى الاستعانة بالعلم الآخر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *