إبانة المقال في الفصل بين رجل الدولة والشعبوية

في عصر تتسارع فيه التحولات وتتكثف فيه ضغوط اللحظة، تبرز الحاجة الملحّة إلى استحضار المعنى العميق لمفهوم رجل الدولة، ذلك النموذج النقيض للشعبوية، حيث يتغذّى بعض السياسيين من الإثارة العاطفية والوعود السهلة والبحث المستمر عن التصفيق.
الفرق بين رجل الدولة والسياسي الشعبوي لا يقتصر على الأسلوب، بل هو في جوهره فرق في الرؤية والقيم وتحمل المسؤولية. رجل الدولة لا يُقاس ببلاغته أو سرعة صعوده في استطلاعات الرأي، بل يُقاس بقدرته على تحمل عبء القرار الصعب حين تفرضه مصلحة الأمة، وباستعداده لوضع الصالح العام فوق أي حساب ضيق أو مكسب ظرفي.
قدّم التاريخ الحديث أمثلة باهرة لرجالات دولة حقيقيين تميزوا بصلابة المبادئ ورجاحة العقل. ففي فرنسا، لم يكن الجنرال شارل ديغول زعيماً عابراً، بل رجل دولة أعاد لفرنسا سيادتها وكرامتها بعد الاحتلال، رافضاً الانجراف إلى شعبوية تستثير الغرائز أو تمدد بقاءه في السلطة على حساب التماسك الوطني. وفي الولايات المتحدة، جسّد فرانكلين روزفلت روح رجل الدولة حين واجه الكساد العظيم ثم قاد بلاده إلى الانتصار في الحرب العالمية الثانية، رغم ما صاحب قراراته من معارضة شعبية في حينها.
أما في إفريقيا، فلا يمكن إغفال نموذج الزعيم الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا، الذي قدّم درساً بليغاً في الحكمة السياسية والسمو الأخلاقي. بعد عقود من السجن، اختار مانديلا نهج المصالحة الوطنية وتغليب مصلحة الدولة على نوازع الانتقام، فقاد جنوب إفريقيا إلى حقبة جديدة مؤسسة على التسامح والعدالة، وأثبت أن الزعامة الحقيقية لا تُختصر في الشعارات، بل في القدرة على البناء. وفي السياق الإفريقي نفسه، برز الزعيم التنزاني جوليوس نيريري الذي جعل من التعليم والمصالحة المجتمعية أولوية وطنية، مقدماً نموذجاً لقائد يقدّم مصالح شعبه على حساب مجده الشخصي. كذلك، أرسى الرئيس السنغالي ليوبولد سيدار سنغور سابقة ديمقراطية حين تنازل عن الحكم طواعية في لحظة لم يكن فيها التداول السلمي للسلطة شائعاً في القارة.
في المغرب، شكّل الملك الراحل الحسن الثاني نموذجاً لرجل الدولة القادر على الموازنة بين حزم السلطة وضرورات الإصلاح، كما تجلى ذلك في إدارة ملف الصحراء المغربية بكثير من الدقة والحنكة والواقعية. وقد واصل الملك محمد السادس هذا النهج من خلال تبني إصلاحات مؤسساتية وتنموية طموحة، مع الحفاظ على استقرار الدولة ومكانتها الإقليمية والدولية في سياق يزداد تعقيداً.
إن الشعبوية بطبيعتها تُلحق الضرر بخيارات الدولة الاستراتيجية، لأنها تستبدل التخطيط المتبصر بضغوط الرأي العام اللحظي، وتغري السياسيين بخيارات قصيرة المدى سرعان ما تنكشف هشاشتها أمام تحديات الواقع. وحين ينحصر التنافس السياسي في من يرفع الشعارات الأكثر جاذبية أو يعد الناس بوعود غير قابلة للتحقق، تصبح الدولة ذاتها رهينة خطاب انفعالي لا ينتج إلا الوهن وفقدان الاتجاه.
وقد أظهرت تجارب كثيرة أن انزلاق زعماء الأحزاب إلى الشعبوية في اللحظات المفصلية قد يعرّض مشروع بناء الدولة برمته للخطر، إذ يقسّم المجتمع عمودياً ويزرع الشك في شرعية المؤسسات ويقوض ثقة المواطن في النخب السياسية. ولعل ما تحتاجه الدول عند المنعطفات التاريخية ليس قائداً يلهب الحشود بالوعود، بل رجل دولة يتحمل مسؤولية القرار الصعب ويصون وحدة الأمة ولو على حساب شعبيته الخاصة.
ويتجلّى الفرق بين رجل الدولة والسياسي الشعبوي أيضاً في لحظات الأزمات. رجل الدولة يمتلك الشجاعة اللازمة لمصارحة الناس بالحقيقة مهما كانت موجعة، في حين يختار السياسي الشعبوي دغدغة العواطف وبيع الأوهام. رجل الدولة يعمل وفق منطق التاريخ الطويل، أما الشعبوي فيسعى وراء صدى اللحظة. ومهما بدت الوعود السهلة مغرية في التوقيت الآني، فإن الشعوب تعود في نهاية المطاف لتكتشف أن التقدم الحقيقي لا يتحقق إلا على يد أولئك الذين يفكرون في مصير الأمة قبل التفكير في عناوين الصحف.
إن زمن التحولات الكبرى يستدعي قادة حقيقيين، رجال دولة يمتلكون الرؤية الاستراتيجية وجرأة الإصلاح ونزاهة الوعي بأن التاريخ لا يغفر لمن فرّط في مستقبل أوطانهم طمعاً في مقعد عابر أو شعبية عابرة. بين رجل الدولة والسياسي الشعبوي مسافة شاسعة لا يملؤها سوى الصدق والحكمة والمسؤولية.
* الدكتور توفيق عطيفي باحث القانون العام والعلوم السياسية
اترك تعليقاً