منتدى العمق

تحرير الملك العمومي: قراءة سوسيو-اقتصادية في ضوء أهداف التنمية البشرية

شهدت السنوات الأخيرة في المغرب سلسلة من التدخلات الميدانية التي باشرتها السلطات العمومية لتحرير الملك العمومي من مظاهر الاستغلال غير القانوني، خاصة من طرف الباعة المتجولين. وتأتي هذه العمليات في سياق الجهود الرامية إلى تأهيل الفضاءات العمومية، وتحسين النظام الحضري، والحد من الفوضى والعشوائية. غير أن هذا التوجه، وإن كان منسجماً مع متطلبات التنظيم العمراني، فقد أثار تساؤلات حقيقية حول مآلات الفئات التي تعتمد على الاقتصاد غير المهيكل كمورد رئيسي للعيش.

تتزامن هذه التحولات مع مرور أزيد من عقدين على إطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، التي جعلها جلالة الملك محمد السادس أحد مرتكزات النموذج التنموي الجديد، بغرض تقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية، وتحقيق العدالة الاقتصادية. فهل نجحت هذه المبادرة في إدماج الفئات النشيطة في الاقتصاد غير المهيكل؟ وهل وفّرت الظروف الملائمة لتأهيلها وتمكينها من العيش الكريم؟

يُعالج هذا المقال الإشكالية المطروحة من خلال محورين: أولهما يتناول حصيلة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في علاقتها بالاقتصاد غير المهيكل، وثانيهما يُقارب آثار وتحديات تحرير الملك العمومي في ضوء رهانات الإدماج الاجتماعي والمجالي.

 المبادرة الوطنية للتنمية البشرية وإشكالية إدماج الاقتصاد غير المهيكل

أُطلقت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية سنة 2005 كأداة استراتيجية ملكية تهدف إلى محاربة الفقر والهشاشة والإقصاء، من خلال تمويل مشاريع مدرة للدخل، وتوسيع الولوج إلى الخدمات الأساسية، وتعزيز الاقتصاد الاجتماعي والتضامني. وقد شكلت هذه المبادرة ركيزة ضمن النموذج التنموي الجديد، خصوصًا فيما يتعلق بإدماج الاقتصاد غير المهيكل في الدورة الاقتصادية الرسمية.

رغم الزخم الذي رافق انطلاقتها، ظلت نتائج المبادرة محدودة فيما يخص إدماج الفئات النشيطة في القطاع غير المهيكل، كالباعة الجائلين والحرفيين ومقدمي خدمات غير مقننة. ويرجع ذلك إلى عدة عوامل، منها غياب استراتيجية ميدانية دقيقة تستحضر طبيعة هذه الأنشطة، وضعف التنسيق بين الفاعلين المحليين والمؤسساتيين، إضافة إلى غياب قاعدة بيانات دقيقة لرصد هذه الفئات وتتبع وضعياتها.

يلعب القطاع غير المهيكل دوراً حيوياً في امتصاص البطالة وتوفير فرص دخل مؤقتة لفئات واسعة، إلا أن مرونته وتشتته يجعلان من إدماجه تحدياً بنيوياً. وتشمل أنشطته باعة الأرصفة، الحرف التقليدية غير المنظمة، النقل غير المهيكل، الخدمات اليومية في الفضاء العام، إلى جانب العمال الموسميين والعاملين بالمنازل دون حماية قانونية. هذا التعدد يفرض مقاربة متكاملة تأخذ بعين الاعتبار هذه الخصوصيات.

من بين أبرز المشاكل التي تعترض إدماج هذه الفئات، نجد غياب فضاءات ملائمة لمزاولة الأنشطة، وعدم توفير أسواق قرب مجهزة وفي مواقع استراتيجية قريبة من التجمعات السكنية. كما أن ضعف التكوين، وانعدام التأطير المهني، وغياب تغطية اجتماعية أو آليات تمويل مرنة، كلها عوامل تُفاقم الهشاشة وتُقيد فرص الإدماج في الدورة الاقتصادية.

 تحرير الملك العمومي ورهانات العدالة المجالية والإدماج

يمثل تحرير الملك العمومي خطوة إدارية وتنظيمية تهدف إلى إعادة الاعتبار للنظام الحضري، من خلال محاربة الاستغلال غير القانوني للأرصفة والساحات العمومية. هذا القرار، رغم وجاهته من الناحية القانونية، يُثير تساؤلات حول مآلات الفئات المتضررة، خاصة وأنه لا يترافق غالبًا مع بدائل واقعية وعملية تراعي البعد الاجتماعي.

في عدد من المدن، أدى تنفيذ هذه التدخلات إلى آثار اجتماعية ملموسة، أبرزها فقدان عدد كبير من الباعة الجائلين لمصدر رزقهم الوحيد، وانتقال بعضهم إلى فضاءات هامشية وغير آمنة، مما أدى إلى تفكك شبكاتهم الاقتصادية البسيطة وتزايد مؤشرات الاحتقان الاجتماعي، لاسيما في الأحياء التي تعتمد على هذه الأنشطة لتأمين حاجياتها اليومية.

من جهة أخرى، فإن المشاريع التي حاولت تعويض هؤلاء عبر إحداث أسواق نموذجية أو فضاءات تجارية جديدة، لم تنجح في تحقيق أهدافها لأسباب عدة، منها بعدها عن النسيج السكني، وغياب الجاذبية التجارية، ورداءة التجهيزات، فضلاً عن عدم إشراك الفئات المستهدفة في بلورة التصور والتصميم. فغالبًا ما يتم اتخاذ القرارات بشكل عمودي، دون استحضار واقع الباعة وتحدياتهم اليومية.

أمام هذه الوضعية، تبرز الحاجة إلى سياسة حضرية دامجة، تنطلق من مقاربة تشاركية، وتدمج بعدها الاجتماعي في كل قرار تنظيمي. لا يتعلق الأمر فقط بتنظيم الفضاء العام، بل بضمان حق العيش الكريم لفئات تساهم بشكل فعلي في الاقتصاد اليومي المحلي. ويتطلب ذلك تطوير آليات تمويل وتكوين، تعزيز الاقتصاد التضامني، وتوسيع الحماية الاجتماعية لتشمل هذه الفئات التي تعيش على هامش المنظومة الرسمية.

لا يمكن التعامل مع ظاهرة احتلال الملك العمومي كإشكال تقني أو ظرفي، بل هي مرآة لاختلالات بنيوية ترتبط بسوق الشغل، والعدالة المجالية، وتوزيع الفرص. وإذا كان من المشروع استرجاع النظام الحضري، فإن هذا الهدف لا ينبغي أن يتحقق على حساب فئات اجتماعية هشة، تُشكّل في عمقها انعكاسًا لفشل السياسات العمومية السابقة في الإدماج والتأهيل.

إن الرؤية الملكية التي بُنيت عليها المبادرة الوطنية للتنمية البشرية تدعو إلى جعل المواطن في صلب العملية التنموية. ومن هذا المنطلق، تظل المقاربة المندمجة، المبنية على التشارك، والنجاعة، والعدالة الاجتماعية، السبيل الأمثل لتحقيق التوازن بين متطلبات التنظيم الحضري وحقوق العيش الكريم للمواطنين.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *