منتدى العمق

صندوق النقد الدولي والتنمية في دول العالم الثالث: المغرب كنموذج

في العقود الأخيرة، برز صندوق النقد الدولي كفاعل مركزي في منظومة الحكامة الاقتصادية العالمية، خصوصًا في الدول النامية التي تواجه أزمات مالية مزمنة أو اختلالات في ميزان الأداءات، فمع كل أزمة اقتصادية، يتقدم الصندوق بوصفاته المعيارية، والتي تتضمن في العادة برامج تقشف، تحرير الاقتصاد، خوصصة الخدمات العمومية، وتحرير سعر الصرف. لكن السؤال الذي يُطرح بإلحاح اليوم هو: هل تُحقق هذه الوصفات فعلاً التنمية المرجوة في دول العالم الثالث؟ وهل المغرب، كبلد متعاون تاريخيًا مع الصندوق، استفاد أم تضرر من هذه العلاقة؟

عرف المغرب، منذ ثمانينيات القرن الماضي، محطات متعددة من التعاون مع صندوق النقد الدولي، خاصة بعد برنامج التقويم الهيكلي الشهير سنة 1983، الذي خلّف آثارًا اجتماعية عميقة لا تزال بعض تداعياتها حاضرة إلى اليوم. ومع ذلك، استمرت العلاقة بين الطرفين بوتيرة منتظمة، لكنها تحولت في السنوات الأخيرة من علاقة “إنقاذ” إلى شراكة تقنية تتعلق بالمشورة والمساعدة في الإصلاحات الاقتصادية. فقد حصل المغرب سنة 2012 على “خط الوقاية والسيولة” من الصندوق، وهو أداة تروم تعزيز الثقة في الاقتصاد دون الحاجة لصرف القروض، وهو ما اعتُبر نجاحًا نسبيًا في الحفاظ على الاستقرار المالي. غير أن هذا التحول في شكل العلاقة لم يُنهِ الجدل حول مضامين “النصائح” التي يقدمها الصندوق، والتي لا تزال تحمل بصمات المدرسة النيوليبرالية التي تُفضل الأسواق المفتوحة وتقليص أدوار الدولة.

تجارب بعض الدول العربية مع وصفات صندوق النقد الدولي أظهرت تناقضًا صارخًا بين الأرقام والمؤشرات من جهة، والواقع الاجتماعي من جهة أخرى. فكل من تونس ومصر قبل اندلاع ثورات الربيع العربي سنة 2011، كانتا تحققان معدلات نمو اقتصادي محترمة من حيث المؤشرات الماكرو-اقتصادية، وكانتا تُقدمان كنماذج “نجاح” في التقارير الدولية. ومع ذلك، لم تنعكس تلك الأرقام على حياة المواطنين، بل استمر تفشي البطالة، وتدهور الخدمات العمومية، واحتكار الثروات من قبل فئات محدودة، مما خلق إحساسًا عامًا بانعدام العدالة الاجتماعية وأدى إلى انفجار شعبي واسع.

إن ما حدث في مصر وتونس يطرح إشكالًا جوهريًا: ما فائدة النمو إذا لم يصاحبه توزيع عادل للثروة وتحسين ملموس في مستوى عيش المواطنين؟ لقد كانت الثورات نتيجة طبيعية لفشل السياسات الاقتصادية المملاة من الخارج في تحقيق العدالة والكرامة. وهو تحذير مستمر للدول الأخرى، ومن ضمنها المغرب، بأن التنمية الحقيقية لا تُقاس فقط بالأرقام، بل بمستوى الرضا الاجتماعي والتماسك المجتمعي.

ما يميز صندوق النقد الدولي هو تركيزه على مؤشرات ماكرو-اقتصادية (عجز الميزانية، نسبة المديونية، التوازن الخارجي…) دون اعتبار كافٍ للأبعاد الاجتماعية والإنسانية. ففي الحالة المغربية، ساهمت بعض التوصيات، خصوصًا في ما يخص تقليص كتلة الأجور، تجميد التوظيف في القطاع العام، ورفع الدعم عن بعض المواد، في تعميق الفوارق الاجتماعية وتراجع جودة الخدمات العمومية، خصوصًا في مجالات حيوية كالصحة والتعليم. فقد أدى التقليص المستمر في المناصب المالية المخصصة للتوظيف العمومي إلى هشاشة المنظومة الصحية، ونقص مهول في الأطر التربوية والإدارية، وازدحام غير مسبوق في المؤسسات التعليمية والمستشفيات. كما أن سحب الدولة التدريجي من دعم المواد الأساسية ترك فئات واسعة من المواطنين في مواجهة مباشرة مع الغلاء وارتفاع تكاليف المعيشة، دون حماية اجتماعية فعالة.

يُعد النقاش الدائر حاليًا حول استقلالية القرار الاقتصادي المغربي أمام المؤسسات الدولية نقاشًا محوريًا. فالمغرب، الذي يسعى إلى بناء نموذج تنموي مستقل ومندمج، يواجه تحديًا مزدوجًا: من جهة، ضرورة الحفاظ على ثقة المؤسسات المالية الدولية لجلب الاستثمارات؛ ومن جهة ثانية، الحاجة الماسة لتوسيع دور الدولة في إعادة توزيع الثروة، ومحاربة الفقر، ودعم الاقتصاد التضامني والاجتماعي. ويبدو أن هذا التوازن لا يمكن تحقيقه إلا برؤية استراتيجية تتجاوز “الإملاءات التقنية” وتضع الإنسان في قلب التنمية. وهنا تبرز أهمية استثمار الكفاءات الوطنية، وتعزيز الرقابة البرلمانية والشعبية على الالتزامات الدولية، وخلق فضاءات حوار بين الحكومة والمجتمع المدني حول خيارات التنمية.

إن علاقة المغرب بصندوق النقد الدولي ليست قدرًا محتومًا، بل خيارًا سياسيًا واقتصاديًا يمكن مراجعته وإعادة توجيهه بما يخدم المصالح الوطنية. فالتنمية لا يمكن أن تكون مجرد توازنات مالية، بل يجب أن تعني العدالة الاجتماعية، السيادة الاقتصادية، وتكافؤ الفرص. ولذلك، فإن الحاجة ماسة اليوم إلى إعادة التفكير في نماذج التعاون الدولي، وجعلها أكثر إنصافًا واحترامًا لخصوصيات الدول النامية، وعلى رأسها المغرب.
في زمن الأزمات العالمية المتتالية، لم يعد مقبولًا أن تُملى السياسات من الخارج، بل صار من الضروري أن تُبنى من داخل المجتمعات، وفقًا لأولوياتها، وقيمها، وحاجاتها الفعلية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *