أزمة القيم في زمن العولمة والحاجة إلى إعادة بناء المنظومة القيمية

يشهد المجتمع المغربي المعاصر تغيرا جذريا على مستوى منظومة القيم، إذ لم تعد القيم التي كانت إلى عهد قريب تؤثث المجتمع المغربي، والتي عاش في كنفها المغاربة زمنا طويلا، هي الإطار المرجعي، والمعيار الأخلاقي الذي يستند إليه في تقويم السلوك الفردي والجماعي، والتمييز بين الصواب والخطأ، والحسن والقبيح من الأفعال والتصرفات، بل أصحبت هناك قيم أخرى مغايرة، إن لم نقل مناقضة لما كان سائدا بالأمس القريب.
اليوم لم نعد نتحدث عن الحياء والصدق والأمانة وغيرها من القيم، كقيم معيارية ثابتة ومطلقة، فهذه القيم أصبحت في نظر البعض متجاوزة تنتمي إلى الماضي الذي يجب التخلص منه، لأنها لم تعد صالحة للمجتمع المعاصر، بحيث صار ينظر إلى الحياء على أنه تخلف ورجعية، وإلى العفة على أنها تزمت وانغلاق، وإلى الصدق على أنه سذاجة وبلاهة، وإلى الأمانة على أنها غباء وقلة ذكاء، وإلى الاحترام على أنه ضعف وانهزامية، وهكذا انقلب النسق القيمي رأسا على عقب، فصرنا نشاهد هيمنة النزعة الفردانية على حساب قيم التضامن والتعاون والإيثار، والنزعة المادية الغريزية، على حساب القيم الروحية والرمزية، وأصبحت العلاقات الإنسانية توزن بميزان الربح والخسارة، وتقوم على أساس منطق السوق، بدل تغليب الجوانب الإنسانية الصرفة.
ولا شك أن هذا الانقلاب القيمي يجعل كل مهتم بالشأن الأخلاقي، يدق ناقوس الخطر، ويستشعر خطورة هذا التحول المريع في منظومة القيم، والذي ستؤذي لا محالة إذا لم تكن هناك محاولة لتدارك الأمر، إلى تآكل المنظومة القيمية، وسقوط كل المرجعيات الأخلاقية في مجتمعنا المعاصر.
هذا الوضع القيمي المعكوس الذي يعرفه مجتمعنا لم يأت من فراغ، وإنما ساهمت وتساهم في إنتاجه، والتمكين له، مجموعة من العوامل أبرزها:
⦁ رداءة الإنتاجات الفنية وصناعة القيم المضادة
إذا كان الفن بمختلف صوره وأشكاله يلعب دورا مهما في إنتاج القيم الإنسانية الجميلة والمحافظة عليها، فإن الميدان الفني اليوم أصبح عبارة عن أداة لهدم القيم والأخلاق، من خلال ما ينتجه من أعمال فنية تشجع على الانحراف والشذوذ الفكري والسلوكي، وعلى ممارسة العنف والتعاطي لكافة أنواع الممنوعات، والتمرد على المجتمع ونظامه، وعلى كل ما هو سائد من ثقافات وأعراف خيرة فاضلة، وهو ما يشكل خطرا على الأجيال القادمة ويلقي بها في اتجاه المجهول الذي لا يدرى مآله ولا تعلم عاقبته..
⦁ التوجه الإعلامي نحو تكريس التبعية للنموذج الحضاري الغربي
لا يختلف اثنان في أن الإعلام له دور كبير في نشر القيم وإشاعتها، والمحافظة عليها من الاندثار، لاسيما في ظل زحف العولمة والانفتاح الحضاري على مختلف الثقافات والمجتمعات الأخرى، غير أن وسائل الإعلام أصبحت اليوم من أهم الأسباب التي تزيد من تأزيم الوضع القيمي، من خلال البرامج والمسلسلات، والأفلام، التي تقدمها، والتي تساهم بلا شك في تمييع الذوق العام وتدمير كل ما يمت إلى الأخلاق بصلة.
⦁ غياب دور المؤسسات التعليمية في ترسيخ منظومة القيم
يعتبر التعليم من أهم الأسس التي تقوم عليها نهضة الأمم، فإلى جانب كونه يلعب دورا محوريا في تنوير العقول، وتحقيق الازدهار الحضاري والعمراني، واكتساب المهارات الأساسية في مختلف المجالات، فإن له دورا مهما في التربية على القيم من خلال البرامج التعليمية والمناهج التربوية المختلفة، غير أن المنظومة التعليمية في مجتمعنا، أصبحت اليوم تساهم في تدهور الوضع القيمي؛ بسبب الاستمرار في نهج سياسة تعليمية ترتكز على تنمية الجوانب المعرفية وتطوير المهارات الأساسية للمتعلم، دون إعطاء أهمية كبيرة للأبعاد الروحية والقيمية، التي تعد مكونا جوهريا في بناء شخصية المتعلم.
⦁ وسائل التواصل الاجتماعي والانفتاح اللامحدود
تعد وسائل التواصل الاجتماعي من أهم المستجدات في عالم التكنولوجيا والنظام الرقمي، وإذا كانت لهذه الوسائل فائدة لا تنكر في تقريب المسافات وربط جسور التواصل بين البشر، فإن لها آثارا سلبية كبيرة لا يمكن تجاهلها، ولعل من أبرزها، ما أحدثته من تغيير على مستوى منظومة القيم؛ بسبب الانفتاح اللامحدود على مختلف الثقافات والكيانات والمجتمعات، بحيث لم يعد هناك حدود فاصلة، بين مجتمع وآخر، وبين ثقافة وأخرى، وبين نمط عيش وآخر، وأصبح العالم عبارة عن قرية صغيرة، جمعت كل المتناقضات في بوتقة واحدة. ولا شك أن غياب التوجيه والتأطير، وكذا وضع قوانين صارمة تحمي من خطر التعامل المطلق مع هذه الوسائل، يساهم في استمرار هذا النزيف القيمي، وتلاشي المنظومة الأخلاقية تدريجيا وبشكل مستمر.
وبناء على ما سبق فإن إعادة بعث المنظومة القيمية وإصلاح الاختلالات الطارئة عليها يجب أن يرتكز على الأسس التالية:
أولا: إعادة الاعتبار لدور الأسرة المحوري في التربية على القيم.
قد يعد من نافلة القول التذكير بدور الأسرة في التربية على القيم، وتنشئة الأجيال تنشئة اجتماعية ودينية سليمة، وتكمن أهمية دور الأسرة التربوي في كونها أول مؤسسة تربوية يتلقى فيها الطفل المبادئ الأولى والضرورية، قبل أن يتدرج في مختلف المؤسسات والفضاءات التربوية الأخرى، ولا يخفى ما لهذه المرحلة الأولية من عمر الإنسان، من أهمية كبيرة في حياته بشكل عام، إذ هي اللبنة الأساس، والقاعدة التي تبنى عليها مختلف الجهود التربوية الأخرى، وغالبا ما تكون حاسمة في تحديد الملامح الكبرى لشخصية الإنسان، وتشكيل وعيه بذاته وبما يحيط به؛ لذلك يعتبر دور الأسرة ليس فقط مهما، بل جوهريا في غرس القيم وتثبيتها في نفوس الناشئة، ولا يمكن الاستغناء عنه بأي حال من الأحوال.
ثانيا: إعادة الاعتبار للمؤسسة التربوية ودورها في ترسيخ القيم.
إن المدرسة كانت ولا زالت من أهم المؤسسات الاجتماعية التي تضطلع بدور التنشئة والتربية على القيم؛ لذلك لا يمكن أن تكون هناك محاولة جادة لإصلاح منظومة القيم، دون أن يكون للمؤسسة التربوية دور في ذلك. غير أن ما نشاهده اليوم من ظواهر سلبية لم يخل منها حتى الوسط المدرسي، مثل انتشار العنف الذي يمارسه بعض التلاميذ حتى مع أساتذتهم، فضلا عن بعض الآفات الأخرى مثل تعاطي المخدرات وكافة أنواع الحبوب المهلوسة في فضاء المدرسة، وظواهر أخرى كثيرة، تكشف بشكل واضح عن خلل كبير في المنظومة التربوية، وعن غياب شبه تام لدور المؤسسة التعليمية فيما يتعلق بتعزيز الجانب القيمي لدى الناشئة.
ثالثا: إعادة الاعتبار للمؤسسات الدينية ودورها في بناء النسق القيمي
إن إعادة الاعتبار للمؤسسات الدينية التي تقوم بدور التنشئة على القيم، لهو من أهم الأسس التي يجب أن يقوم عليها هذا الإصلاح، وأعتقد أننا لسنا بحاجة إلى التذكير بالأدوار التربوية التي كانت تقوم بها المؤسسات الدينية عبر التاريخ، وعلى رأسها المسجد الذي يعد فضاء تربويا بامتياز، وقد كان المسجد عبر التاريخ الإسلامي مؤسسة تربوية رائدة خرجت العديد من العلماء والمفكرين، واليوم يمكن لهذه المؤسسة أن يكون لها دور مهم جدا في إصلاح المنظومة القيمية، ولعل هذا ما تسعى إليه وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية من خلال خطة تسديد التبليغ التي ترتكز في جوهرها على تفعيل قيم الدين في المجتمع.
رابعا: إعادة النظر في السياسة الإعلامية المتبعة
إن المتتبع للمشهد الإعلامي المغربي على الخصوص، يلاحظ أن الفضاء الإعلامي المحلي، يعرف الكثير من الاختلالات أبرزها ما يتعلق بالجانب القيمي، بحيث أصبح هذا الفضاء الإعلامي، مصدرا لإنتاج القيم المضادة، التي تساهم في تفكيك المجتمع وطمس هويته الثقافية والحضارية. لذلك لابد من إعادة النظر في السياسة الإعلامية المتعبة، حتى يتسنى للإعلام أن يؤدي رسالته المنوطة به، والمتمثلة في زرع القيم الأصيلة والمحافظة عليها، في ظل هذه السيولة التي يعرفها العالم في مختلف المجالات.
خامسا: إعادة النظر في الفن كمنتج للقيمة لا كوسيلة للترفيه فقط
لا ينبغي أن ينظر إلى الفن على أنه شيء زائد عن الحاجة، أو أنه مجرد وسيلة للترفيه، أو التعبير عن الذات فقط، بل يجب النظر إليه كأحد أهم الركائز الأساسية في تشكيل منظومة القيم، والمحافظة عليها، كما كان دائما عبر التاريخ الإنساني، فالفن هو الأداة التي تعبر من خلالها كل أمة عن قيمها ونمط عيشها وأسلوبها في الحياة. وبالتالي يجب استثمار كل الفنون الجميلة للتعبير عن القيم وترسيخها والمحافظة عليها، لا أن يتحول الفن إلى أداة لهدم القيم واستئصالها، وطمس معالمها.
سادسا: تعزيز الأمن الرقمي وتفعيل الرقابة المعلوماتية
في ظل الفوضى أو السيولة التي تشهدها مواقع التواصل الاجتماعي، أصبح اليوم من الواجب على الجهات المسؤولة التفكير بجدية في إيجاد حلول موضوعية للمشاكل التي يطرحها هذا العالم الافتراضي، والمخاطر التي يحملها معه، للمحافظة على منظومة القيم من الاختراق والاندثار، لاسيما فيما يتعلق بالمحتويات الإباحية المخلة بالحياء العام، أو التي تساهم في نشر بذور التطرف وكراهية الآخر، أو غيرها من المحتويات التي تفسد الذوق العام وتسعى إلى خلخلة منظومة القيم، والمعايير الأخلاقية المتوارثة والمتعارف عليها.
سابعا: تفعيل مبدأ تخليق الحياة العامة
من أهم الأسس التي يجب أن يقوم عليها هذا الإصلاح، اعتماد مبدأ تخليق الحياة العامة، والقطع مع كل أشكال الفساد التي تغلغلت في كافة مفاصل الدولة، مثل تفشي ظاهر الرشوة، ونهب المال العام، وغياب روح المسؤولية المهنية، وغيرها من الظواهر السبيلة الأخرى، مما يؤدي إلى تبديد كل الجهود التنموية التي تقوم بها الدولة دون فائدة تذكر.
ختاما أقول: إن الحديث عن موضوع القيم هو حديث عن شيء لا يتصور أن يقوم مجتمع بشري بدونه، لأن القيم هي ضرورة حضارية وواجب ديني أكدت عليه كل الديانات السماوية، فالمجتمعات البشرية إنما تتميز بما تملكه من رصيد قيمي وأخلاقي، وحين تغيب القيم تنهار المجتمعات، وتسود الفوضى ويسير أمر الناس إلى الهرج، ذلك أن القيم هي عبارة عن معايير اجتماعية تضبط العلاقات، وتحفظ الحقوق، وتساهم في نشر الأمن والتعايش بين الناس، والإنسان لا يكون إنسانا إلا بما يحمله من قيم ومبادئ وأخلاق، ولو أمعنا النظر فيما تتعرض له البشرية اليوم من حروب مدمرة ومشاكل اقتصادية وسياسية واجتماعية لا حصر لها، لوجدنا أن كثيرا منها ناتج عن ضعف القيم وغياب دورها في تأطير الأفراد والمجتمعات.
اترك تعليقاً