ظاهرة هجرة الأدمغة: سؤال المصير الفردي واختلال نسق المنظومة المؤسسية في البلد الأم

نحن مغاربة العالم نرصد، بوعي وقلق، ظاهرة غريبة تُثير الكثير من الأسئلة: كفاءات مغربية عالية في مجالات متنوّعة لم تُتح لها الفرصة في وطنها، أو تمّ تهميشها، أو إقصاؤها بشكل مباشر أو ضمني، وأحيانًا انسحبت بصمت برضاها. هذه الكفاءات، التي كانت تُصارع الهامشية، ما إن تُدمج في بيئة مهنية خارج الوطن حتى تُبدع وتتألّق، وتتحوّل إلى نماذج نجاح دولي. لماذا يُطفأ النور في الداخل ويُترك المجال للرداءة، بينما يسطع في الخارج من يحمل بذور النبوغ؟ سؤال يفرض مساءلة مؤلمة للمنظومة المحلية التي طردت أفضل ما فيها.
1. هل الفشل سمة فردية أم بنيوية؟
حينما ينجح الكفؤ في الخارج ويفشل في الداخل، هل ينبغي أن نعيد النظر في الكفاءة ذاتها، أم في المنظومة التي كانت تحيط بها؟
هذا السؤال ليس ترفًا ذهنيًا، بل مدخلًا حاسمًا لفهم ما تُفرزه ظاهرة “هجرة الأدمغة” من مفارقات موجعة: كيف لإنسان ظلّ على هامش الحياة في بلده، أن يتحوّل إلى فاعل لامع بمجرد أن يُدمج في سياق مؤسسي آخر؟ ألا يدل ذلك على أن الإشكال لا يكمن في “الفرد”، بل في “النسق” الذي يحيط به ويحتويه أو بالأحرى، يعجز عن احتوائه؟
فالكفاءة لا تزدهر في الفراغ، بل تحتاج إلى منظومة حاضنة، تتوافر فيها شروط التمكين لا شروط التهميش.
2. كيف تُعطّل المنظومات الفاشلة الطاقات الكامنة؟
في العديد من السياقات الوطنية، يتكوّن ما يمكن تسميته بـ”البيئة الطاردة للكفاءة”: حيث تهيمن الزبونية، وتُحاصر الجديّة، وتُخنق المبادرات الفردية في مهدها.
إنّ من يعمل داخل إدارة تفتقد إلى الرؤية، أو إلى العدالة التنظيمية، أو إلى النزاهة المؤسساتية، سيجد نفسه محاصرًا بمنطق “الترويض لا التحفيز”، “الطاعة لا الإبداع”، و”الانتظار لا المبادرة”.
فما الذي يمكن أن يقدّمه باحثٌ أو طبيبٌ أو مهندسٌ حين يجد نفسه داخل منظومة بيروقراطية مغلقة لا تسمح له بالتنفس؟
هنا يظهر الفارق الجوهري: ليس في درجة الكفاءة، بل في درجة قابلية البيئة لاستثمارها.
3. لماذا تتحول “الضحية” إلى “منقذ” حين يُغير موقعه؟
تُظهر العديد من الحالات الموثقة أن الكفاءات التي كانت غير مرئية داخل أوطانها، سرعان ما تتحوّل إلى محركات فاعلة في الخارج.
هذه المفارقة تُحيلنا إلى إشكال عميق: هل السياق الوطني يرفض الاعتراف بقيمة ما يملكه، أم أنه عاجز عن رؤيته؟
لقد بات من الشائع أن ترى طبيبًا لامعًا، أو باحثًا متفوّقًا، أو مهندسًا رائدًا في أوروبا أو أمريكا، بينما كان يُحاصر في بلده بالشكّ والتقزيم والتهميش.
وهذا يعيدنا إلى مبدأ جوهري: ليست القيمة هي التي تغيّرت، بل فقط العدسة التي تُقيّم بها. العدسة هنا هي “النسق”، بما فيه من مؤسسات، وفاعلين، وأطر للتقدير، وآليات للتحفيز أو التدمير.
4. كيف يتحول الصمت إلى نزيف؟
الكثير من الكفاءات تُعاني في صمت، دون أن تبوح، أو تطلب، أو تشكو.
وهذا الصمت ليس دليلًا على القبول، بل على الانكسار الداخلي.
تتحوّل الجديّة إلى عبء، والإبداع إلى خطر، والطموح إلى شبه جريمة.
وفي هذا السياق، يصبح السفر – ولو إلى المجهول – أكثر عقلانية من البقاء في انتظار المجهول.
فحين يصبح الداخل طاردًا، يتحول الخارج إلى أفق مفتوح، ليس لأن الخارج أفضل دائمًا، ولكن لأن الداخل لم يعد يحتمل الكفاءات التي تكشف فشله.
5. ما الثمن الذي تدفعه الأوطان؟
هجرة الأدمغة ليست فقط مأساة فردية، بل كارثة جماعية.
حين يُغادر الكفاء، لا يترك فراغًا في منصب، بل يحدث تمزقًا في النسيج الاجتماعي والإنتاجي للبلد.
إنّ خسارة باحث متفرغ أو طبيب مبدع أو مهندس عبقري، لا تُعوّض بسهولة.
وهنا يظهر السؤال المؤلم: ما الذي يجعل الوطن بيئة طاردة لأفضل ما فيه؟
وهل يمكن الحديث عن “تنمية وطنية” في ظل بيئة لا تضمن لأبنائها أفقًا مهنيًا، ولا تعترف بقدراتهم، ولا تحميهم من ابتلاع الرداءة لهم؟
6. هل الحل في الاستيراد أم في الإصلاح الداخلي؟
غالبًا ما تستجيب الدول لهذه المعضلة من خلال محاولات استرجاع الكفاءات المهاجرة، عبر برامج تحفيزية أو مبادرات رمزية.
لكن الإشكال لا يكمن في “عودة الأشخاص”، بل في إصلاح البيئة التي هجّرتهم.
فمن غير المجدي أن تسترجع طبيبًا مميزًا ليشتغل في مستشفى منهار، أو باحثًا عالميًا ليُدرّس في جامعة بلا أدوات، أو مخترعًا متفوقًا ليُوضع تحت سلطة بيروقراطية لا تفهم مشروعه.
السؤال المحوري إذن: هل نحن بصدد استيراد الكفاءات، أم بناء البيئة التي تضمن انبثاقها؟
7. ما السبيل إلى إعادة الاعتبار للداخل؟
الحل لا يكمن فقط في تشخيص العطب، بل في تفكيك المنظومة التي أنتجته:
هل نحن بحاجة إلى إصلاح مؤسسي شامل يعيد الاعتبار للجدية والمعايير المهنية؟
هل يمكن خلق “بيئة ممكنة” حيث يتم تحفيز المبادرة لا محاصرتها؟
ما الأطر القانونية والتنظيمية الكفيلة بضمان حرية البحث، وتقدير الجهد، ومكافأة النبوغ؟
إنّ إعادة الاعتبار للداخل لا تعني فقط إغراء الكفاءات بالبقاء، بل جعل البقاء خيارًا عقلانيًا لا مغامرة خاسرة.
خاتمة مفتوحة: إلى أين يذهب الإنسان حين يخونه موطنه؟
قد يُغادر الكفاء وطنه بجسده، لكنه لا يتخلى عنه بوجدانه.
تبقى الأسئلة معلّقة بين الوطن الذي طرد، والآخر الذي احتضن.
لكن السؤال الأكبر يبقى: هل تستطيع أوطاننا أن تتحوّل من بيئات طاردة إلى فضاءات راعية للكفاءة؟
وهل نملك الشجاعة لنسائل أنفسنا، لا كأفراد فقط، بل كنسق جماعي مسؤول عن هذا النزيف المستمر؟
السؤال لا يُطلب له جواب مباشر، بل يُترك ليستفز القارئ، ويدفعه إلى مساءلة نفسه قبل أن يُسائل غيره.
ملحوظة ختامية:
هذه الورقة ليست دفاعًا عن الهجرة، بل نقدًا حادًا للمنظومات التي تفرزها.
اترك تعليقاً