وجهة نظر

حين يصبح التضليل “فنا”: بين المروءة السياسية والانحراف الخطابي

بعد متابعتي للجلسة الشهرية الأخيرة لرئيس الحكومة بمجلس النواب، والاستماع إلى أسئلة الفرق والمجموعة النيابية، ثم إلى جواب السيد الرئيس، شد انتباهي مستوى بعض تعقيبات فرق المعارضة، والتي – رغم كل ما تحقق من منجزات واضحة وملموسة – لم تعترف ولو بالقليل، ولم تبد أي استعداد لتثمين ما تحقق.

وهو أمر محير، خاصة إذا ما قارنا حجم العمل المنجز في هذه الولاية بما تم في ولايات سابقة، حيث يتضح أن الحصيلة نسبيا تفوق بكثير ما تم في مراحل مشابهة، سواء من حيث السرعة أو من حيث حجم الإصلاحات. هذا ما دفعني إلى التفكير بعمق في طبيعة الخطاب السياسي الذي أصبح سائدا، وفي مدى التزام بعض الفرق البرلمانية بالحد الأدنى من الإنصاف والمروءة السياسية.

في خضم التوترات السياسية والمنافسات الانتخابية، بات من المألوف أن تستعمل كل الوسائل لنيل مكسب سياسي أو تسجيل نقطة في سجال عمومي. لكن ما لم يعد مألوفا، ولا مقبولا، هو هذا الإفراط في استخدام المغالطات المنطقية، وتحويلها إلى أداة ممنهجة في الخطاب السياسي، تحت غطاء المعارضة، وادعاء الغيرة على الوطن.

لنتأمل في قول الله تعالى في كتابه الكريم : “يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين” (سورة الحجرات) توجهنا إلى فضيلة التثبت، خصوصا عند نقل الأخبار والمواقف. لكن ما بالنا إذا لم يكن ناقل الخبر فاسقا بين الفجور، بل سياسيا يظهر بمظهر النزيه، ويتزين بزي الصدق، فيما هو يغذي الوعي الجماعي بمعلومات ناقصة أو مغلوطة؟ هنا ينتقل الخطر من مستوى الكذب إلى مستوى التضليل المشروع ظاهرا، والكارثي باطنا.

لقد نبه الفيلسوف الألماني شوبنهاور في كتيبه الشهير “فن أن تكون دائما على حق” إلى حيل الجدل السفسطائي التي قد يستخدمها بعض المتكلمين للفوز بالنقاش، لا للوصول إلى الحقيقة. للأسف، نجد اليوم هذه التقنيات وقد تحولت إلى أدوات يومية في الخطاب السياسي لبعض الفرقاء، ممن لا يهمهم جودة السياسات العمومية بقدر ما يهمهم إسقاط من في موقع القرار، حتى وإن كان ذلك على حساب وعي المواطن واستقرار المشهد السياسي.

فكم من مغالطة تلقى كل يوم على مسامع الجمهور:
-مغالطة إذ تشوه سياسات الحكومة لتبدو أكثر عبثية مما هي عليه.
-مغالطة تهاجم الشخصيات لا الأفكار.
-مغالطة يخاطب بها الغضب الشعبي بدل العقل العمومي.

وهذا السلوك لا يمكن إلا أن يصنف ضمن ما يعرف بـالانحراف السياسي، أي ذلك الانزياح الخطير عن جوهر العمل السياسي كخدمة عمومية نبيلة، إلى ممارسة نفعية هدفها كسب مقاعد أو تحريك شارع.

في مقابل هذا المشهد المقلق، نحن أحوج ما نكون إلى ما يمكن تسميته بـالمروءة السياسية. وهي مفهوم لا نجده في الكتب المدرسية، لكنه حاضر في ضمير كل سياسي صادق. المروءة هي القدرة على الاعتراف بإنجاز الخصم حين ينجز، وعلى انتقاده حين يخطئ، لا بمنطق الجحود ونكران العمل، بل بروح الإصلاح.

المروءة هي أن تكون ناقدا بقوة الاقتراح، ومعارضا ببدائل ممكنة، لا مجرد ناقم يقتات من عثرات الآخرين. وهي التي تصنع الفرق بين رجل الدولة و”رجل الانتخابات”، بين من يشتغل لمصلحة الوطن، ومن يشتغل لمصلحة المقاعد.

إن الحاجة إلى تنقية الخطاب السياسي، وإعادة الاعتبار للحقيقة، والصدق، والمروءة، لم تعد ترفا أخلاقيا، بل شرطا أساسيا لاستقرار الديمقراطية وحسن تدبير الشأن العام. فحين يضلل المواطن باسم المعارضة، وتشوه الحقائق باسم النقد، نكون قد دخلنا مرحلة الانحراف السياسي، حيث تتساوى كل المواقف، ويضيع الأفق المشترك.

فلنعد إلى الأصل: صدق الكلمة، صدق النية، وصدق الممارسة.

* برلماني عن حزب التجمع الوطني للأحرار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *