منتدى العمق

ساكنة أيت بوكماز بين مطالب مواطنة مشروعة وحكومة انتظارية: مشهدية دعوة للتنمية الشاملة

 

مقدمة: الإدارة العمومية ومسؤولية التنمية
تُعد الإدارة العمومية ركيزة أساسية في بناء الدولة الحديثة ومحركًا رئيسيًا للتنمية الشاملة. فكفاءتها وفعاليتها تنعكسان بشكل مباشر على جودة حياة المواطنين، وجاذبية مناخ الأعمال، وقدرة الدولة على تحقيق أهدافها الاستراتيجية. في هذا السياق، جاء الخطاب الملكي السامي لجلالة الملك محمد السادس بمناسبة افتتاح الدورة البرلمانية بتاريخ 14 أكتوبر 2016، ليضع الأصبع على مكامن الخلل في علاقة المواطن بالإدارة، مقدمًا تشخيصًا دقيقًا وموجهًا لإصلاح جذري. لم يكن هذا الخطاب مجرد مناسبة بروتوكولية، بل كان بمثابة إطار مرجعي شامل، يهدف إلى وضع المواطن في صميم أولويات العمل الإداري، وضرورة تفعيل الإدارة لدورها المحوري كخادم للمصلحة العامة لا معرقل لها.

تُقدم هذه المقالة قراءة تحليلية معمقة لمضامين هذا الخطاب الملكي، مُبرزةً التشخيص الملكي لأعطال الإدارة وتوجيهاته السامية للإصلاح. كما ستُسلط الضوء على الوضع الراهن في منطقة أيت بوكماز بإقليم أزيلال، حيث تتجسد مطالب ساكنتها المشروعة كشاهد حي على استمرار العديد من التحديات التي شخصها الخطاب. إن تزامن نشر هذه المقالة مع المسيرة الراجلة لساكنة أيت بوكماز بتاريخ 09 يوليو 2025، يؤكد وبشكل جلي على الأهمية الحيوية لاستعادة مضامين الخطاب الملكي لعام 2016 كبوصلة للعمل المستقبلي، وكدليل ملموس على أن النجاعة الإدارية ليست ترفًا، بل هي مفتاح الثقة ودعامة أساسية لتحقيق الطموحات التنموية للمملكة.

أولاً: الخطاب الملكي لسنة 2016: تشخيص دقيق ورؤية إصلاحية للإدارة
تُشكل مضامين الخطاب الملكي لعام 2016 منارة لتشخيص واقع الإدارة العمومية بالمغرب ووضع خارطة طريق لإصلاحها. لقد تناول جلالة الملك مجموعة من الإشكاليات الجوهرية التي تعيق فعالية الإدارة وتؤثر سلبًا على علاقتها بالمواطن والاستثمار:
انحراف عن المصلحة العامة: أشار الخطاب إلى استغلال البعض للتفويض الممنوح لهم من المواطن لخدمة مصالح شخصية أو حزبية، مما يقوض الثقة في العمل السياسي والإداري النبيل.
قصور الأداء وضعف الخدمات: ركز الخطاب على الضعف في الأداء الإداري، وغياب جودة الخدمات المقدمة، وتضخم الهياكل مع قلة الكفاءة، ووجود “ثقافة المخبأ” التي تنظر للوظيفة العمومية كمصدر لراتب شهري دون مردودية حقيقية.
تعقيد المساطر وطول الآجال: وصف الخطاب الإجراءات الإدارية بأنها “مسار المحارب”، نتيجة لتعقيد المساطر، وسوء الاستقبال، وصعوبة التواصل، مما يعرقل حصول المواطنين على حقوقهم ووثائقهم في آجال معقولة.
معيقات الاستثمار: رغم المبادرات المتخذة، كإحداث المراكز الجهوية للاستثمار، أكد الخطاب على استمرار تعقيد الإجراءات أمام المستثمرين، مما يؤدي إلى ضياع فرص التنمية وخلق فرص الشغل.
مشاكل محددة: سلط الخطاب الضوء على قضايا ملموسة مثل تأخير وبخس تعويضات نزع الملكية، عدم تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة ضد الإدارة، الشطط في استعمال السلطة، وصعوبات تطبيق مدونة الأسرة.
لم يقتصر الخطاب على التشخيص، بل قدم توجيهات استراتيجية واضحة لإصلاح شامل، تضمنت:
تغيير السلوكيات والعقليات: تجاوز النظرة السلبية للوظيفة العمومية وتبني ثقافة المسؤولية والخدمة.

تأهيل وتكوين الموظفين: الاستثمار في المكوّن البشري باعتباره الحلقة الأساسية في علاقة الإدارة بالمواطن.
تعميم الإدارة الإلكترونية (الرقمنة): تبسيط الحصول على الخدمات، تقليص الاحتكاك البشري، ومحاربة الرشوة.
تفعيل الجهوية المتقدمة واللاتمركز الإداري: تقريب الخدمات وصنع القرار من المواطنين على المستوى الترابي.
التنسيق والتعاون بين المؤسسات: تضافر جهود جميع الفاعلين لتحقيق إصلاح إداري فعال.

ثانياً: أيت بوكماز: تجليات عملية للحاجة إلى إصلاح الإدارة
تُعد مطالب ساكنة أيت بوكماز بإقليم أزيلال، كما هي مُفصلة في المقالة، مثالًا حيًا وملموسًا على استمرار التحديات التي شخصها الخطاب الملكي لسنة 2016. هذه المطالب، التي تجسدت مؤخرًا في المسيرة الراجلة للساكنة بتاريخ 09 يوليو 2025، تؤكد على الحاجة الماسة لاستعادة مضامين الخطاب الملكي كبوصلة للعمل الإداري:
تبسيط رخص البناء: يُعبر هذا المطلب عن استمرار تعقيد المساطر الإدارية، والذي أشار إليه الخطاب بشكل صريح، مما يعيق التنمية العمرانية المحلية ويثقل كاهل المواطنين.
ملعب لكرة القدم ونقص البضاء الصحية: يبرز هذا النقص في المرافق الأساسية ضعف الاستجابة الإدارية لحاجيات الشباب والصحة العمومية، وهما قطاعان محوريان في أي تنمية مستدامة، ويعكسان قصورًا في جودة الخدمات التي نبه إليها الخطاب.
توفير شبكة الإنترنت وتحسين الطريق الرابطة: تُشير هذه المطالب إلى ضعف البنية التحتية الأساسية والخدمات الحيوية، والتي لا يمكن فصلها عن مسؤولية الإدارة في توفيرها وتجويدها، بما يدعم التنمية المحلية ويُحسن من ظروف عيش السكان.
احترام الاختيار الديمقراطي: يُعد هذا المطلب تأكيدًا على ضرورة ترجمة الإرادة الشعبية إلى استجابات إدارية وسياسات عمومية فعالة، وهو ما يتسق مع رؤية الخطاب الملكي الذي دعا إلى وضع المواطن في صلب أولويات العمل الإداري والسياسي.

إن لجوء ساكنة أيت بوكماز إلى الاحتجاج السلمي عبر المسيرة الراجلة، هو تجسيد لـ “الخلل في مكان ما” الذي أشار إليه الخطاب الملكي عندما يضطر المواطن للجوء إلى مستويات عليا أو أشكال احتجاجية للتعبير عن مطالبه البسيطة والمشروعة. هذا يؤكد على استمرار غياب آليات فعالة للإنصات والاستجابة لشكاوى وتساؤلات المواطنين على المستوى الإداري المحلي والجهوي.

ثالثاً: الحاجة الماسة لاستعادة مضامين الخطاب: أيت بوكماز كحافز
بعد مرور ما يقرب من تسع سنوات على إلقاء الخطاب الملكي لسنة 2016، تظل العديد من تحدياته قائمة، وتأتي تجربة أيت بوكماز لتؤكد على الأهمية الحيوية لاستعادة مضامينه التوجيهية:
تحديات مستمرة: بالرغم من الأوراش الإصلاحية، لا تزال مشاكل تعقيد المساطر وضعف التنسيق وسوء الاستقبال تتواتر في تقارير المؤسسات الوطنية وتجارب المواطنين اليومية، مما يؤكد أن الإصلاح المطلوب لم يكتمل بعد.
بناء الثقة: تُعد مطالب أيت بوكماز نموذجًا لغياب الثقة بين المواطن والإدارة. استعادة توجيهات الخطاب تعني العمل على بناء إدارة جديرة بالثقة، قادرة على حل المشاكل دون الحاجة إلى تدخلات عليا أو احتجاجات.
دعم النموذج التنموي الجديد: لا يمكن للمغرب تحقيق أهداف نموذجه التنموي الجديد، الذي يرتكز على اقتصاد تنافسي وجاذب، دون إدارة فعالة وشفافة ومحفزة. العراقيل التي تواجه الاستثمار والتنمية المحلية، كما هي الحال في أيت بوكماز، تؤثر سلبًا على جاذبية المملكة.

مواكبة التحولات: توجيهات الخطاب بشأن تعميم الإدارة الإلكترونية واللاتمركز الإداري أصبحت أكثر إلحاحًا لمواكبة الثورة الرقمية وتطلعات المواطنين نحو خدمات حديثة وسلسة. إن تفعيل الجهوية المتقدمة واللاتمركز الفعلي سيمكن الجماعات والجهات من الاستجابة بفعالية لمطالب ساكنتها مثل أيت بوكماز.

خاتمة: دعوة متجددة لإدارة في خدمة المواطن
إن الخطاب الملكي لعام 2016 يمثل وثيقة مرجعية استراتيجية لإصلاح الإدارة العمومية بالمغرب. فتشخيصه العميق وتوجيهاته الواضحة ما زالت صالحة وضرورية اليوم أكثر من أي وقت مضى. إن ما شهدته منطقة أيت بوكماز من حراك ومطالب هو تجسيد حي لغياب تفعيل شامل لمضامين هذا الخطاب.
إن تحقيق الأهداف التنموية الكبرى للمملكة، وتعزيز الثقة بين المواطن والمؤسسات، وضمان العدالة والإنصاف المجالي، مرهون بقدرة مختلف الفاعلين – حكومة، برلمان، أحزاب، إدارة، ومجتمع مدني – على الانخراط بجدية ومسؤولية في تنزيل هذه التوجيهات الملكية. فالإدارة الفعالة ليست ترفًا، بل هي عماد أي إصلاح، وجوهر تحقيق التنمية والتقدم الذي يصبو إليه الشعب المغربي الوفي. إن صرخات أيت بوكماز ليست مجرد مطالب محلية، بل هي دعوة وطنية متجددة لإدارة تكون في خدمة مواطنيها، وتُترجم الوعود إلى واقع ملموس من التنمية والكرامة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *