وجهة نظر

مدرسة النذرة ومدرسة الإشارات: نحو مقاربة معرفية واستشرافية جديدة

في عالم يزداد تعقيدًا وترابطًا أكثر من ذي قبل، حيث أصبح تحدي التعقيد وتحدي الترابط والاعتماد، من أهم التحديات المستقبلية، التي يجب العمل عليها لتفسير وتحليل الظواهر، وبالتالي لم تعد النظم التحليلية الخطية التقليدية كافية لفهم التحولات العميقة والفرص النادرة التي قد تشكل مستقبل الأفراد والمؤسسات والمجتمعات.

وفي هذا الإطار برزت الحاجة إلى مقاربات جديدة ومبتكرة تتجاوز التحليل الوصفي والكمي إلى نماذج تفسيرية واستشرافية، تنقب في طبقات الواقع بحثًا عن الإشارات الضعيفة والمتقدمة والخفية وتبحث عن الفرص النادرة. وبالتالي وفي هذا السياق، تتأسست مدرسة النذرة كاتجاه فكري واستراتيجي التي تركز على استكشاف الفرص النادرة والمصادر الفريدة للقيمة، وتذهب في اتجاه كيفية تدبير النذرة من خلال اقتصاد النذرة، بالمقابل تلتقي مع مدرسة الإشارات التي تهتم بدورها بقراءة الإشارات المبكرة والخفية في البيئات المركبة والمعقدة، وتركز على الاتجاه النسقي المتعدد المشارب وتحليل التفاعلات بين الإشارات ومكونات الإشارات فيما بينها.

إن مدرسة النذرة هي مقاربة فكرية وإجرائية تنطلق من فرضية أساسية: من خلال أن « كل ما هو نادر ليس بالضرورة بعيد المنال، لكنه يحتاج الى عدسة مغايرة لرصده وتقديره واستثماره.»

وبالتالي يمكن تلخيص مبادئ مدرسة النذرة في أربعة أسس رئيسية:

العنصر الأول، وهو رصد الموارد والفرص النادرة، من خلال البحث عن الموارد المادية واللامادية والمعرفية والعلاقاتية التي لا يلتفت إليها الآخرون.

العنصر الثاني، من خلال تحويل الندرة إلى ميزة تنافسية، وبالتالي القدرة على بناء قيمة استثنائية من عناصر قليلة أو هامشية.
العنصر الثالث وهو إعادة تعريف ما هو ثمين، ليس من خلال الكم كمعيار، بل من خلال القدرة على استخراج المعنى والقيمة من تفاصيل قليلة.
وأخيرا العنصر الرابع، من خلال العمل بعقلية الوفرة ضمن بيئة النذرة، وبالتالي خلق تدفقات جديدة للفرص حتى في الظروف التي تبدو شحيحة.

وفي هذا الإطار، ومن خلال مجال الاقتصاد فالشركات التي تتبنى مدرسة النذرة، في استراتيجياتها، تنجح بدون شك في اكتشاف أسواق صغيرة جدًا، لكنها واعدة (Micro-Niches) أو وضع يدها على موارد أولية لا يقدّرها الآخرون، فتحقق عائدات كبيرة بمجهود أقل.

أما مدرسة الإشارات (Signals School)، فهي تركز على التقاط الإشارات الضعيفة والخفية والمتقدمة التي تسبق التغيرات الكبرى. وتشمل هذه الإشارات، أنواع ثلاثة وهي :

أولا، الإشارات الضعيفة جدًا (Weakest Signals)، مثل الذبذبات المبكرة جدًا (مثل ظهور فكرة جديدة في منشورات محدودة التداول).

ثانيا، الإشارات المتقدمة (Advanced Signals)، حيث أصبحت تظهر تحولات وبدأت تتبلور لكن لم تصبح بعد تيارًا سائدًا.

وثالثا، وأخيرا الإشارات الخفية (Hidden Signals)، وهي عبارة عن معطيات يملكها صناع القرار ولا تظهر للعموم.

إن نقاط الالتقاء بين مدرسة النذرة ومدرسة الإشارات، مسألة مهمة واستراتيجية، فرغم تمايزهما في الانشغالات والمنطلقات، توجد مناطق تداخل جوهرية بين المدرستين:

فمدرسة النذرة تنظر للفرص النادرة كمصدر للابتكار، بالإضافة فهي تعيد تعريف ما هو ثمين، بالإضافة تسعى لاستخلاص القيمة من التفاصيل القليلة، وبالتالي فمدرسة النذرة فهي تعمل في بيئة ندرة الموارد.

أما مدرسة الإشارات فهي تنظر للإشارات الضعيفة كبذور للتغيير، وتكشف ما لم يدركه الآخرون بعد، بالإضافة فهي تبحث عن المؤشرات المبكرة للتحولات
وبالتالي في الأخير يمكن القول أن مدرسة الإشارات تعمل في بيئة غموض المعلومات.

وبالتالي هذا التداخل يمكن اختصاره في فكرة جوهرية:
وهي «كل نذرة تحمل في طياتها إشارة، وكل إشارة وميض لنذرة قادمة.»
إن الدمج بين المدرستين، يمنح المؤسسات والمجتمعات قدرة فائقة على :

١. رصد الفرص البعيدة عن أنظار المنافسين.
٢. بناء استراتيجيات استباقية وليس فقط تفاعلية.
٣. تحويل القليل إلى كثير بتبني نماذج وفيرة من مصادر نادرة.
٤. وأخيرا، خلق سيناريوهات مستقبلية قائمة على إشارات الندرة.
وفي هذا الإطار، يمكن أن نقترح نموذج عمل التالي، للدمج بين المدرستين :

1. الرصد، من خلال إطلاق آليات تتبع الإشارات الضعيفة والمتقدمة والخفية.
2. التصفية، من خلال غربلة الإشارات لاستخراج ما ينطوي على فرص نادرة.
3. التثمين، من خلال تقدير القيمة الاستراتيجية للإشارات النادرة.
4. الاستثمار، من خلال بناء برامج تحويل الإشارات النادرة إلى منتجات أو خدمات.

وفي هذا الإطار، هناك تطبيقات عملية لكيفية توظيف هذه المقاربة المزدوجة:

فعلى مستوى التنمية الترابية، يمكن استغلال الفرص النادرة في مناطق الهامش (نذرة الموقع)، إلى رصد الإشارات المبكرة للهجرة أو الاستثمار الخارجي.

أما على مستوى الاقتصاد الرقمي، فتحويل النذرة المعلوماتية (بيانات صغيرة وغير مستعملة) إلى خدمات ذكية عبر تحليل الإشارات الرقمية الضعيفة.

أما على مستوى المؤسسات، يمكن إطلاق برامج ابتكار داخلي تهتم بتطوير الأفكار النادرة التي لم تنل حظها من الاهتمام، ولكن بالتوازي يجب العمل على رصد الإشارات القادمة من بيئة العمل.

وقبل الختم فتحديات وفرص دمج المدرستين، عديدة ومتعددة :

فعلى مستوى التحديات، نجد صعوبة التمييز بين الإشارات الحقيقية والضجيج العشوائي، بالإضافة الى غياب الثقافة التنظيمية التي تقدّر الندرة، ناهيك أن الحاجة هنا، تحتاج إلى أدوات رصد وتحليل معقدة.

أما على الفرص، فيمكن اختزالها فيما يلي، من خلال بناء ميزة تنافسية يصعب نسخها، هذا أولا، ثانيا، التموقع الريادي في أسواق لم تتشكل بعد، وثالثا وأخيرا، إلهام ثقافة الابتكار والتجدد المستمر.

وفي الختام إن الدمج بين مدرسة النذرة ومدرسة الإشارات يمثل نموذجًا معرفيًا واستشرافيًا يتيح للأفراد والمؤسسات والدول:

✔ تحويل الشح إلى إبداع.
✔ قراءة المستقبل قبل الآخرين.
✔ إعادة تعريف وهندسة التنمية والقيمة والفرص.

وبالتالي، فهي دعوة للانتقال من عقلية الوفرة الوهمية إلى عقلية الرصد الاستراتيجي للنذرة والإشارات، لتكون الخطوات الاستباقية ركيزة التميز في عالم سريع التحول.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *