وجهة نظر

صمود المجموعات الجهادية واستغلالها الذكي للظروف المحلية

عبد الفتاح الحيداوي

رغم الحملة العالمية التي قادتها قوى دولية وإقليمية كبرى للقضاء على الحركات الجهادية منذ مطلع الألفية الثالثة، فإن هذه الجماعات أظهرت قدرة لافتة على الصمود بل وفي أحيان عديدة على التمدد وتحقيق مكاسب سياسية. وفي حالات معينة، كما في بعض مناطق سوريا، استطاعت فصائل ذات خلفيات جهادية أن تتحول إلى سلطات سياسية قائمة. هذه الظاهرة تطرح تساؤلات عميقة حول سرّ قوة هذه الجماعات واستراتيجياتها الذكية في استغلال السياقات المحلية.

كيف تصمد المجموعات الجهادية رغم الإجماع الدولي على محاربتها؟ وما هي الآليات التي تستخدمها لاستثمار الظروف المحلية لتحقيق النجاحات العسكرية والسياسية؟

أولاً: أسباب صمود الحركات الجهادية

  1. التكيّف التنظيمي والمرونة البنيوية

تُعد قدرة الجماعات الجهادية على التكيف التنظيمي وإظهار مرونة بنيوية من أهم عوامل صمودها واستمراريتها، خصوصًا في البيئات العدائية التي تستهدف تصفيتها عسكريًا وأمنيًا. فعندما تتعرض هذه الجماعات لضربات قوية تفقد من خلالها ملاذاتها الآمنة أو مراكز سيطرتها التقليدية، فإنها لا تنهار بنيويًا كما تفعل كثير من الحركات التقليدية، بل تعيد تنظيم صفوفها ضمن هياكل أكثر لامركزية، مما يزيد من صعوبة تعقبها أو القضاء عليها بالكامل.

تنتقل هذه الجماعات عادةً من نموذج التنظيم الهرمي الصارم إلى نماذج خلايا صغيرة مستقلة إلى حد كبير لكنها مرتبطة عبر شبكات اتصال خفيفة ومرنة. هذا التحول البنيوي يمكنها من الحفاظ على حدٍّ أدنى من التنسيق العملياتي مع تقليل نقاط الضعف التي قد يستغلها العدو. كما أن هذا النمط يُعزز قدرتها على المبادرة المحلية، حيث تمنح الخلايا الميدانية حرية نسبية في اتخاذ القرار وفق المعطيات المحيطة بها دون انتظار أوامر مركزية.

علاوة على ذلك، تظهر هذه الجماعات قدرة على تغيير خطابها السياسي والإعلامي بما يتناسب مع متغيرات الواقع، مما يسهم في احتفاظها بجاذبيتها لدى قواعدها الشعبية أو قواعد التجنيد. ومن الأمثلة على ذلك تحوّل بعض الجماعات من الطرح “الأممي” إلى خطاب محلي يركّز على قضايا الظلم الاجتماعي أو الطائفي، بما ينسجم مع هموم السكان المحليين.

وقد أكدت عدة دراسات حديثة أن هذه المرونة التنظيمية ليست عفوية، بل غالبًا ما تكون جزءًا من استراتيجيات مدروسة يتم تطويرها بناءً على تجارب ميدانية تراكمية. فكلما تعرضت الجماعات الجهادية لضغط عسكري، تبنّت أنماطًا أكثر خفة وتخفيًا، مثل العمل عبر “الذئاب المنفردة”، أو تفعيل “الخلايا النائمة”، أو استغلال الفضاءات الإلكترونية كملاذ بديل عن الفضاءات الجغرافية.

تجدر الإشارة إلى أن هذا المستوى من التكيف لا ينحصر فقط في الجانب العسكري، بل يشمل أيضًا الأنشطة الاقتصادية، والإغاثية، والدعوية، حيث تبتكر الجماعات أساليب جديدة لتأمين التمويل وبناء شرعية اجتماعية في ظل تراجع السيطرة المادية المباشرة على الأرض.

وعليه، فإن فهم هذه الخاصية الجوهرية – أي التكيف التنظيمي والمرونة البنيوية – يعد مدخلًا أساسيًا لتحليل ديناميكية الجماعات الجهادية، ولتفسير قدرتها على الاستمرار رغم التحديات الأمنية والعسكرية الهائلة التي تواجهها.

  1. روافع أيديولوجية ودينية

تلعب الروافع الأيديولوجية والدينية دورا محوريا في ضمان استمرارية الجماعات الجهادية وتعزيز قدرتها على الصمود في مواجهة التحديات العسكرية والسياسية. إذ لا تقتصر هذه الجماعات على النشاط العسكري فحسب، بل تبني مشروعها على خطاب تعبوي مكثف ذي طبيعة عقدية، يستند إلى مفاهيم دينية مثل “الجهاد”، و”الطائفة المنصورة”، و”الولاء والبراء”، مما يضفي على أفعالها مشروعية دينية.

هذا الخطاب التعبوي لا يستهدف فقط شرعنة القتال ضد الأنظمة السياسية أو القوى الأجنبية، بل يمتد ليخلق حالة من الهوية الجمعية البديلة، التي تقدم للأفراد معنى وجوديًا ورسالة حياة تتجاوز الانتماءات القومية أو المصلحية الضيقة. وبهذا المنظور، تصبح المشاركة في المشروع الجهادي صورة من صور الامتثال لأوامر دينية، ومصداقًا لتحقق الغاية الكبرى المتمثلة في “نصرة الدين” وإقامة “حكم الشريعة”، مما يضفي طابع القداسة على العمليات العسكرية ويجعلها بمنزلة عبادة.

تعتمد الجماعات الجهادية على توظيف النصوص الدينية، سواء من القرآن أو الحديث، بشكل يخدم أهدافها التعبوية. وغالبًا ما تعمد إلى اجتزاء النصوص من سياقاتها، أو تأويلها بما ينسجم مع رؤيتها الجهادية، مما يمكنها من تحفيز المشاعر الدينية لدى المتعاطفين واستقطاب مقاتلين جدد حتى في أشد فترات الحصار أو الهزيمة.

ومن الناحية العملية، تُستخدم الروافع الأيديولوجية أيضًا كآلية للتماسك الداخلي، حيث تغدو العقيدة المشتركة عاملًا جوهريًا في تعزيز الانضباط والولاء داخل صفوف المقاتلين، كما توفر مبررًا للتضحية بالنفس وتحمل الصعوبات. وفي حالات فقدان القيادة أو خسارة الأراضي، تصبح المرجعيات الدينية والإيديولوجية بمنزلة الرابط الوحيد الذي يحفظ وحدة الجماعة ويمنع تفسخها.

وقد لاحظت الدراسات الميدانية أن الجماعات الأكثر قدرة على التأقلم مع الواقع المتغير هي تلك التي نجحت في تحديث خطابها الأيديولوجي بما يتلاءم مع احتياجات المراحل المختلفة، من خلال المزج بين الثوابت العقدية والشعارات السياسية والاجتماعية، كخطاب “مظلومية المسلمين”، و”تحرير المقدسات”، و”مقاومة الطغيان”.

بناءً عليه، فإن الروافع الأيديولوجية والدينية ليست مجرد أدوات تبريرية لنشاط الجماعات الجهادية، بل تمثل إحدى ركائز بقائها الأساسية، من خلال قدرتها على الاستقطاب والتعبئة، وعلى تشكيل منظومة قيمية خاصة تُغني المقاتلين عن الاحتياج إلى مشروعية سياسية أو دولية.

  1. استثمار المظلوميات المحلية

تُعد الحركات الجهادية المعاصرة من أبرز الفاعلين غير الدوليين الذين أجادوا توظيف الواقع الاجتماعي والسياسي لصالحهم، عبر استثمار ما يُعرف بـ”المظلوميات المحلية”. فهذه الحركات تنطلق من قراءة دقيقة لمواطن الخلل البنيوي في المجتمعات التي تنشط فيها، مستفيدة من تراكم الأزمات الطائفية، والقومية، والعرقية، والسياسية، والاجتماعية. إذ تظهر عادةً في بيئات تعاني من ضعف الدولة المركزية، وارتفاع معدلات الفساد السياسي، وشيوع مظاهر التمييز أو التهميش لفئات معينة من السكان، سواء لأسباب دينية، أو مذهبية، أو إثنية.

من خلال هذه القراءة، تعمد الحركات الجهادية إلى بناء سردية تقوم على الدفاع عن “المستضعفين” و”المظلومين”، مقدمة نفسها كبديل شرعي للنظام القائم، ومُعبرة عن آمال الفئات المهمشة التي فقدت الثقة بالمؤسسات الرسمية. ويتم هذا عبر خطابات تعبئة مكثفة تتبنى لغة الضحية والمظلومية، وتوظف الرموز الدينية والتاريخية لتعزيز شرعيتها، مثل استدعاء قصص الاضطهاد التي تعرض لها المسلمون الأوائل، أو سرد المآسي التاريخية الكبرى التي تعرض لها المسلمون في عصور مختلفة.

ويُلاحظ أن هذا الاستثمار لا يتم بصورة عشوائية، بل يخضع لاستراتيجية اتصالية مدروسة تستهدف الفئات القابلة للتجنيد، مركزة على توسيع الهوة بين هذه الفئات والنظام السياسي القائم. كما تسعى الحركات إلى إضفاء الطابع الكوني على هذه المظلوميات، بحيث تُصوَّر الأزمة المحلية على أنها جزء من صراع عالمي بين “الإيمان” و”الطغيان”، مما يسهم في جذب الدعم الخارجي وتجنيد العناصر العابرة للحدود.

في هذا السياق، يصبح الظلم المحلي مادةً خامًا تعيد الحركات الجهادية صياغتها في خطابها الأيديولوجي، فتجعل من معاناة الأفراد مبررًا للقتال، ومن تهميش الجماعات دافعًا لإقامة نظام بديل بالقوة. وقد أثبتت تجارب عديدة – كالحالة العراقية بعد الغزو الأمريكي سنة 2003، أو الأزمة السورية منذ 2011 – ويمكن القول إن نجاح هذه الحركات في استثمار المظلوميات المحلية يتوقف على عدة عوامل رئيسية:

  • درجة الاضطهاد والتهميش: فكلما زادت معاناة المجتمع أو إحدى فئاته، زادت فرص الحركات في بناء خطاب تعبوي فاعل.
  • ضعف الاستجابة الحكومية: حيث يؤدي غياب المعالجات الفعالة للأزمات إلى تعزيز خطاب الحركات بوصفها البديل المخلص.
  • الخطاب الإعلامي: إذ تعتمد الحركات على وسائل الإعلام التقليدية والجديدة لنشر مظلومياتها بشكل مؤثر وعاطفي.
  • الارتباط بالسياق الديني: مما يمنح خطابها طابعًا مقدسا يصعب الطعن فيه.

لقد جسدت تجارب العديد من الحركات الجهادية المعاصرة هذا النمط من استثمار المظلوميات، حيث تمكنت من بناء حواضن اجتماعية انطلقت منها في توسيع نفوذها العسكري والسياسي. ويمكن إبراز بعض النماذج المهمة على النحو الآتي:

  1. تنظيم القاعدة في العراق (2004-2011):
    بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، تفاقمت حالة التهميش التي عانى منها السنة، نتيجة تفكيك مؤسسات الدولة واعتماد سياسة “اجتثاث البعث” التي استهدفت معظم الكفاءات السنية. اشتغل تنظيم “القاعدة في بلاد الرافدين”، بقيادة أبي مصعب الزرقاوي، على هذه المظالم لبناء قاعدة دعم اجتماعي في المحافظات السنية مثل الأنبار وصلاح الدين والموصل. وقد صاغ خطابًا دينيًا-طائفيًا يقدم نفسه كمدافع عن السنة ضد “الاحتلال الأمريكي” و”التمدد الشيعي”، مما أكسبه قبولًا شعبيًا في بداية ظهوره.
  2. تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) (2014-2017):
    استفاد داعش من حالة الفوضى والتمييز الطائفي في العراق وسوريا لتوسيع سيطرته. ففي العراق، أعاد التنظيم تفعيل خطاب المظلومية السنية، مركّزًا على السياسات الإقصائية لحكومة نوري المالكي، والتي كرّست شعور السنة بالاضطهاد. وفي سوريا، استغل التنظيم القمع الذي مارسه النظام ضد المناطق الثائرة ذات الأغلبية السنية، مقدمًا نفسه كمُخلص وحيد قادر على إقامة “الخلافة” التي تضمن العدالة والانتصار للمظلومين.
  3. حركة الشباب المجاهدين في الصومال:
    في ظل حالة الانهيار التام لمؤسسات الدولة الصومالية منذ أوائل التسعينات، برزت حركة الشباب بوصفها تنظيمًا قادرًا على فرض الأمن في المناطق التي تعاني من غياب كامل للدولة. استثمرت الحركة مشاعر الظلم القبلي والفقر المدقع، معتمدة على خطاب ديني يصور الحركة كحامية للهوية الإسلامية، ضد ما تسميه بـ”الغزو الأجنبي” المتمثل في قوات الاتحاد الإفريقي والحكومة المدعومة دوليًا.
  4. جماعة بوكو حرام في نيجيريا:
    نشأت هذه الجماعة في بيئة شمالية تتسم بالحرمان الاقتصادي والتهميش السياسي مقارنة بالجنوب النيجيري الأكثر تطورًا. نجحت بوكو حرام في تجنيد الشباب العاطلين عن العمل والمهمشين اجتماعيًا عبر خطاب ديني يُحمّل الحكومة مسؤولية الفقر والفساد، ويعد بإقامة “دولة إسلامية” تحقق العدالة.

يتضح من خلال هذه الأمثلة أن الحركات الجهادية لا تعمل بمعزل عن السياقات الاجتماعية والسياسية التي تنشأ فيها، بل تتغذى على المظلوميات الحقيقية أو المتخيلة، وتعيد توجيهها ضمن مشروعها الأيديولوجي الخاص. ومن هنا تأتي أهمية إدراك البعد الاجتماعي والسياسي في مقاربات مكافحة التطرف، بحيث تتضمن معالجة جذور الإقصاء والتهميش، لا الاكتفاء بالمعالجة العسكرية والأمنية.

  1. التمويل غير التقليدي

لا تقتصر الجماعات المسلحة أو الفاعلون غير الدولتيين على الاعتماد على مصادر التمويل الخارجي، سواء كان ذلك من خلال دعم دول داعمة أو شبكات دعم لوجستي ومالي عابرة للحدود، بل عملت هذه الجماعات، بفعل الحاجة إلى الاستدامة المالية وتعزيز استقلاليتها، على تطوير قدرات اقتصادية داخلية متنامية. وقد تنوعت هذه القدرات لتشمل أنشطة تجارية منظمة في المناطق التي تخضع لسيطرتها، حيث تُدار الأسواق المحلية وتفرض رسوم على الحركة التجارية والبضائع العابرة. كما اتجهت إلى فرض ضرائب مباشرة وغير مباشرة على السكان المحليين والمؤسسات الاقتصادية القائمة، تحت مسميات مختلفة مثل “الزكاة” أو “الضرائب الشرعية”، ما أتاح لها موارد مالية مستدامة نسبياً.

بالإضافة إلى ذلك، انخرطت بعض هذه الجماعات في عمليات تهريب للموارد الطبيعية كالمعادن الثمينة، والنفط، والأخشاب، بل وحتى الآثار الثقافية، مستغلة ضعف الدولة في المناطق الهشة أو النزاعات المسلحة لفرض سيطرتها على سلاسل الإنتاج والتهريب. كما أن بعض الجماعات طورت أنماطًا معقدة من الاستثمار، تشمل الدخول في شبكات تجارية إقليمية، مما مكنها من تنويع مصادر دخلها وتقليل تبعيتها للدعم الخارجي. هذه الأنشطة الاقتصادية المحلية والإقليمية لا تساهم فقط في تمويل العمليات العسكرية، بل تُمكن الجماعات كذلك من توسيع نفوذها السياسي والاجتماعي، وترسيخ وجودها في المجتمعات التي تنشط فيها.

ثانياً: استغلال الظروف المحلية بذكاء

  1. فهم التركيبة القبلية والعشائرية وأثرها في تحالفات الحركات الجهادية

في كثير من السياقات التي شهدت نزاعات مسلحة واضطرابات سياسية، لعبت البُنى القبلية والعشائرية دورًا محوريًا في تشكيل المشهد الاجتماعي والعسكري. وقد أدركت الحركات الجهادية أهمية هذه التكوينات التقليدية، فسعت إلى بناء تحالفات استراتيجية مع القبائل المحلية أو التوصل إلى تفاهمات معها، بما مكّنها من تعزيز وجودها، وتأمين حاضنات اجتماعية، وتوسيع نفوذها الميداني. وتبرز هذه الظاهرة بوضوح في عدة حالات معاصرة، من أبرزها:

  • سوريا: خلال الصراع السوري، سعت جبهة النصرة (لاحقًا هيئة تحرير الشام) إلى كسب دعم القبائل العربية في المناطق الريفية، خاصة في محافظة دير الزور، حيث عقدت اتفاقات غير رسمية مع زعماء قبليين لتأمين المرور والدعم اللوجستي مقابل تقديم خدمات أمنية أو تقاسم عائدات النفط المحلي. كما أن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) استفاد بشكل أكبر من هذه الديناميات، فقام بإبرام تحالفات مع بعض قبائل الشعيطات والعكيدات، قبل أن ينقلب لاحقًا على بعضهم عندما تمردوا على سلطته.
  • العراق: مثّل العراق بيئة نموذجية لفهم تعقيدات العلاقة بين الحركات الجهادية والقبائل. فبعد الغزو الأمريكي عام 2003، أقامت القاعدة في بلاد الرافدين (تحت قيادة أبي مصعب الزرقاوي) علاقات مع بعض القبائل السنية في محافظة الأنبار، مستفيدة من حالة الغضب القبلي تجاه الحكومة المركزية الشيعية الناشئة. ومع ذلك، فإن تجاوزات التنظيم أدت إلى انقلاب كثير من القبائل عليه، مما أفضى إلى نشوء “صحوات العشائر” بدعم أمريكي لطرد الجهاديين من مناطق نفوذهم في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
  • مالي: في السياق الإفريقي، وبخاصة في شمال مالي، عملت جماعات مثل أنصار الدين وحركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا على استثمار الانقسامات القبلية في منطقة أزواد. فقد أقامت تحالفات مع قبائل الطوارق وبعض العرب المحليين، مما سمح لها بالسيطرة على مدن رئيسية مثل تمبكتو وغاو عام 2012. هذه التحالفات استندت إلى وعود بتقاسم السلطة والموارد، فضلاً عن استغلال المشاعر الانفصالية والغبن الاجتماعي الذي كانت تعاني منه بعض القبائل.

إن هذه الأمثلة تكشف أن الحركات الجهادية تتعامل ببراغماتية شديدة مع البُنى القبلية، فهي تدرك أن كسب الولاءات المحلية -ولو مؤقتًا- يعد مفتاحًا للاستمرارية والتمدد. ومع ذلك، فإن هذه التحالفات تبقى في الغالب هشة وقابلة للانفجار، خصوصًا إذا ما فشلت التنظيمات في احترام الأعراف القبلية أو إذا بالغت في فرض رؤيتها الأيديولوجية بطريقة تصادمية مع التقاليد المحلية..

  1. تقديم الخدمات المدنية

عند بسط سيطرتها على مناطق معينة، تدرك الجماعات الجهادية أهمية ملء الفراغ الناتج عن انهيار أو ضعف مؤسسات الدولة، لا سيما في الجوانب الخدمية الأساسية. ومن ثم، تتبنى هذه الجماعات استراتيجية منظمة لتقديم الخدمات المدنية، مدفوعة برغبتها في كسب الشرعية المحلية وتعزيز حضورها المجتمعي.

تبدأ هذه الجماعات عادة بتوفير الأمن، بوصفه المتطلب الأول لأي استقرار اجتماعي، فتقوم بإنشاء دوريات مسلحة، ونقاط تفتيش، وتضع نظمًا للضبط الاجتماعي تسعى من خلالها إلى فرض النظام والحد من الجرائم والانفلات الأمني. ومن خلال القضاء السريع، تُؤسس محاكم ميدانية تعتمد على تفسيراتها الخاصة للشريعة الإسلامية، فتبت في المنازعات المدنية والجنائية بطريقة توصف بالبساطة والسرعة مقارنة بالبيروقراطية التي كانت سائدة في مؤسسات الدولة المنهارة.

أما على الصعيد الإنساني، فتلجأ هذه الجماعات إلى تنظيم عمليات توزيع المساعدات الغذائية والطبية، إما عبر استغلال موارد محلية أو من خلال تحويل المساعدات الدولية لصالحها، مستهدفة الفئات الأشد ضعفًا في المجتمع. يُعدّ هذا النشاط الإنساني وسيلة فعالة لتعزيز صورتها بوصفها “راعية” لمصالح السكان، مما يساهم في ترسيخ حالة من الاعتماد عليها أو على الأقل القبول الضمني بها.

وفي المجال التعليمي، تركز الجماعات الجهادية بشكل خاص على التعليم الديني، فتنشئ المدارس والمعاهد التي تدرّس مناهج دينية مكثفة تُعزز رؤيتها العقائدية. غالبًا ما يتم إلغاء المناهج الحكومية السابقة، واستبدالها بمقررات تعتمد على تفسير متشدد للنصوص الإسلامية، مما يؤدي إلى خلق جيل متأثر بقيم الجماعة، ويضمن استدامة نفوذها العقائدي والسياسي على المدى الطويل.

تُظهر هذه السياسات الخدمية أن الجماعات الجهادية لا تعتمد فقط على القوة المسلحة لفرض وجودها، بل تستخدم أيضًا أدوات ناعمة لبناء شرعية بديلة عن شرعية الدولة الغائبة. ومع ذلك، تظل هذه الشرعية مرتبطة بقدرتها على الاستمرار في تقديم هذه الخدمات بشكل فعّال، وهو ما يتأثر بدوره بعوامل مثل الموارد المالية، الضغط العسكري من قبل أطراف معادية، ومستوى الرفض أو القبول الشعبي لها.

  1. استغلال الانقسامات بين القوى الدولية

. شهدت الساحة الدولية، لا سيما في مناطق النزاع مثل سوريا، ظاهرة بارزة تمثلت في استغلال الجماعات الجهادية للانقسامات بين القوى الكبرى لتحقيق مكاسب ميدانية وسياسية. تعكس هذه الظاهرة طبيعة العلاقات الدولية القائمة على الصراع على النفوذ، حيث يضعف التوافق الدولي بشأن إدارة الأزمات، مما يفتح المجال أمام الفواعل من غير الدول لاستغلال هذه التناقضات.

1. آلية الاستغلال

تعتمد الجماعات الجهادية على استراتيجيتين رئيسيتين:

  • التحالف مع قوى دولية أو إقليمية بصورة ظرفية: تدخل بعض الجماعات في تحالفات مؤقتة أو غير مباشرة مع بعض القوى المتدخلة في النزاع، مستفيدة من دعم لوجستي أو تسهيلات ميدانية، دون التورط رسميًا في اتفاقات سياسية قد تقيد حركتها لاحقًا.
  • استغلال الفراغ الأمني الناجم عن الانسحاب أو الانشغال الدولي: عندما تنسحب قوة كبرى من منطقة ما أو تنشغل بأولويات أخرى، تستغل الجماعات هذا الفراغ لتعزيز وجودها، سواء من خلال السيطرة على الأراضي أو عبر تعبئة السكان المحليين.

2. أمثلة من الواقع السوري

  • التنافس الأمريكي-الروسي: أدى تضارب المصالح بين الولايات المتحدة وروسيا في سوريا إلى خلق مناطق رمادية خارج السيطرة الفعلية لكلا الطرفين. ففي شمال سوريا، استفادت بعض الجماعات الجهادية من تركيز واشنطن على محاربة “داعش”، مع تجاهل مؤقت للنفوذ المتزايد لهيئات متطرفة أخرى مثل “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقًا) في إدلب.
  • تركيا والجماعات الجهادية: مع تدخل تركيا في شمال سوريا عبر عملية “درع الفرات” (2016) ثم “غصن الزيتون” (2018)، سعت أنقرة إلى توظيف بعض الفصائل المسلحة كقوى برية لتحقيق أهدافها في محاربة “قسد” (قوات سوريا الديمقراطية). استغلت جماعات جهادية هذه العمليات لإعادة التمركز والتغلغل داخل بنى الفصائل المحلية بحجة قتال عدو مشترك.
  • إيران والمليشيات الشيعية مقابل الجماعات السنية الجهادية: التدخل الإيراني عبر دعم ميليشيات شيعية، خاصة في المناطق ذات الأغلبية السنية، عزز من الخطاب الطائفي الذي تغذيه الجماعات الجهادية السنية، مما سمح لها بتجنيد عناصر جديدة بذريعة مقاومة “الاحتلال الإيراني”.

3. تداعيات هذا الاستغلال

  • استدامة الصراع: أدت هذه الانقسامات إلى استمرار حالة اللااستقرار، حيث نجحت الجماعات في تجديد قدراتها عبر استغلال التحالفات المؤقتة والمواقف السياسية المتناقضة.
  • تعقيد المشهد الميداني: أصبح التمييز بين الفصائل الوطنية والجهادية أكثر صعوبة، مما أعاق الجهود الدولية والإقليمية لإيجاد تسوية سياسية شاملة.
  • تدويل النزاعات المحلية: بفعل تدخلات قوى متعددة كل منها يسعى لأجندته، تحولت النزاعات المحلية إلى ساحات صراع دولي، زاد فيها وزن الجماعات المتطرفة كأدوات وأطراف فاعلة.

4. دروس مستخلصة

  • إن غياب التوافق الدولي على استراتيجيات واضحة لإدارة النزاعات يفتح المجال أمام الفواعل المسلحة من غير الدول لتكريس حضورها.
  • لابد أن يكون لدى القوى الكبرى مقاربة موحدة وشاملة تتجاوز مجرد محاربة الإرهاب عسكريًا، إلى معالجة السياقات السياسية والاجتماعية التي تسمح بازدهار الجماعات الجهادية.

إن صمود الحركات الجهادية لا يعود فقط إلى قدراتها العسكرية أو الإيديولوجية، بل هو نتاج قدرتها العالية على قراءة المشهد المحلي والدولي، والتكيّف مع المتغيرات بسرعة. كما أن ضعف الدول الوطنية، والتدخلات الخارجية المتضاربة، تخلق بيئة مثالية لنمو مثل هذه الجماعات.

وعليه، فإن التعامل مع هذه الظاهرة يتطلب فهمًا عميقًا لجذورها الاجتماعية والسياسية، وليس مجرد مقاربات أمنية أو عسكرية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *