وجهة نظر

الهوية المغربية بين المستجد الدستوري والحاجة إلى حكامة جديدة للهوية الوطنية

شكّل دستور 2011 لحظةً مفصلية في تاريخ المغرب، من حيث الاعتراف الرسمي بتعدد مكوّنات وروافد الهوية الوطنية. ولأوّل مرة، نصّ الدستور بصراحة على أن الهوية المغربية ليست موحّدة بمعنى الانغلاق، بل موحّدة بانصهار مكوّناتها المتعدّدة. ويفتح هذا المستجد الدستوري آفاقًا جديدة، لكنه في الآن نفسه يطرح تحديات كبرى، إذ تتطلّب هذه التحولات تحديد ملامح حكامة جديدة للهوية الوطنية، تتجاوز المنطق الرمزي نحو تدبير فعلي للانتماءات والروافد في السياسات العمومية.

في هذا الإطار، تؤكد ديباجة دستور 2011 أن الهوية الوطنية المغربية تنبني على انصهار مكوّناتها الأساسية، وهي: العربية، والإسلامية، والأمازيغية، والثقافة الصحراوية الحسانية، بالإضافة إلى ثراء روافد متعددة تشمل الإفريقية، والأندلسية، والعبرية، والمتوسطية. ويشكّل هذا التنصيص الدستوري تعبيرًا صريحًا عن إرادة سياسية واضحة للاعتراف بتعدّد الأصول والمكوّنات الثقافية التي تشكّل الشخصية المغربية .

و تبرز الثقافة الأمازيغية كمكوّن أساسي من روافد الهوية الوطنية، وقد حظيت باعتراف دستوري صريح سنة 2011 جعل منها لغة رسمية إلى جانب اللغة العربية. هذا الاعتراف لم يكن غاية في حد ذاته، بل مدخلًا إلى نقاشات أعمق حول آليات الإدماج الفعلي للأمازيغية في الفضاء العام، سواء في التعليم أو الإعلام أو المؤسسات و السياسات الثقافية، بشكل يعزز التعدد داخل الوحدة.

ولا يمكن الحديث عن الهوية المغربية في بعدها الدستوري دون التوقف عند المكوّن الصحراوي الحساني، الذي يشكّل جزءًا أصيلاً من النسيج الوطني، كما ورد صراحة في الديباجة، إلى حانب الروافد المتعددة الأخرى. ويُمثّل هذا المكوّن أكثر من مجرد تنوع لغوي أو ثقافي، فهو يحمل حمولة تاريخية ونضالية متجددة في ارتباط مجال وسكان الصحراء المغربية بالدولة والعرش منذ قرون. ومع ذلك، فإن الإدماج الثقافي الكامل لهذا الرافد لا يزال دون المستوى المطلوب، إذ يقتصر حضوره في الغالب على المناسبات الرسمية أو الأشكال الفولكلورية، دون أن يحظى بمكانة وازنة في السياسات العمومية الثقافية أو التعليمية.

كما تمثل الجالية المغربية بالخارج، التي تُقدّر بأكثر من ستة ملايين مغربي، رافدًا حيويًا في إعادة تشكيل الهوية الوطنية، حيث طورت هويات فرديات تجمع بين المكوّن الأمازيغي والعربي، مع الانفتاح على ثقافات المجتمعات التي تقيم فيها. ومن هنا تنشأ أسئلة مهمة حول كيفية دمج هذه التجارب المتعددة والمتنوعة في البناء الثقافي الوطني، فضلاً عن كيفية استثمار الوسائط الرقمية لتعزيز الروابط الثقافية والروحية مع الوطن الأم، ما يشكل تحديًا وفرصة في ذات الان

في السياق ذاته، تحتل الأجيال الجديدة من الشباب مكانة مركزية في هذه العملية الديناميكية لبناء الهوية المغربية المعاصرة.
فالشباب، الذي ولد في زمن الرقمنة والتقنيات الحديثة، لم يعد فقط مستهلكًا للمادة الثقافية، بل أصبح فاعلًا في إعادة تشكيلها وتطويرها. هذا الجيل يحمل رؤية جديدة للعالم وينخرط في تفاعل مستمر مع هويته الوطنية من خلال فضاءات رقمية واسعة تتيح التعبير، والتبادل الثقافي، وصياغة هوية متجددة تتفاعل مع متطلبات العصر الحديث. لذلك، من الضروري أن تحظى ثقافة هذه الأجيال بمكانة مشروعة ضمن الاستراتيجية الوطنية للحكامة الجديدة للهوية، باعتبارها جزءًا أساسيًا من النسيج الثقافي الوطني المتحرك والمتطور.

وفي ظل هذه المتغيرات، لا يمكن إغفال الدور المتنامي للتكنولوجيا الرقمية التي تشكل أداة أساسية في إعادة تشكيل الوعي بالهوية، خصوصًا لدى فئة الشباب. فالفضاءات الرقمية لم تعد مجرد وسيلة تواصل، بل أصبحت فضاءات حيوية للتعبير عن الذات، والتفاعل مع الرموز الثقافية، واكتشاف الروابط المشتركة بين مختلف مكونات المجتمع المغربي. ولهذا، يبرز دور السياسات الثقافية الرقمية في إنتاج محتوى متنوع يعكس غنى وتعدد الهوية الوطنية، ويعزز الشعور بالانتماء في بيئة متعددة الأصوات.

إن التنوع الثقافي واللغوي الذي يزخر به المغرب يُعدّ ثروة وطنية ينبغي أن تُدار بحكامة رشيدة ومبدعة، تضمن المشاركة الفعلية لكل المكونات في القرار الثقافي، وتعكس التوازن بين الخصوصيات المحلية والرؤية الجامعة.

وفي هذا السياق، تبرز ضرورة إعادة كتابة تاريخنا الثقافي بمنظور جديد، يُنصف المكونات المؤسسة للهوية المغربية، وفي مقدمتها العربية والأمازيغية، و الصحراوية الحسانية ويُدمج في روايته الروافد ا الإفريقية، الأندلسية، العبرية والمتوسطية، باعتبارها عناصر فاعلة في بناء الشخصية المغربية. إن كتابة جديدة للتاريخ ليست تمرينًا أكاديميًا فحسب، بل ضرورة وطنية لنقل وعي جماعي مشترك للأجيال الجديدة، يقدّر التعدد، ويكرّس قيم العيش المشترك، ويُسهم في بناء مواطنة ثقافية جامعة تتأسس على المعرفة والانتماء.

من جهة أخرى، لا يمكن لإعادة كتابة التاريخ الثقافي الوطني أن تكتمل دون الاعتراف بالدور الحيوي الذي لعبته المرأة المغربية عبر مختلف العصور. فمساهمة النساء في بناء الحضارة المغربية وإثراء الهوية الوطنية لم تكن هامشية أو ثانوية، بل كانت عنصرًا فاعلًا ومحوريًا في تشكيل الذاكرة الجماعية والقيم الثقافية والاجتماعية. ومن هنا، تقتضي عملية إعادة الكتابة التاريخية أن تُسلّط الضوء على الأدوار النسائية، وأن تُدمج إنجازاتهن ومساهماتهن في الرواية الوطنية، باعتبارهن شركاء متساوين في صناعة الهوية المغربية الجامعة والمتعددة.

ان الانخراط في حكامة جديدة للهوية الوطنية لم يعد خيارًا، بل ضرورة لبناء مغرب منفتح، ديمقراطي، وموحّد بتعدده. حكامة تُعيد الاعتبار لكل مكوّن، وتُوجّه السياسات الثقافية والتربوية والإعلامية نحو بناء مشترك وطني جامع، يُنصت لكل الأصوات، ويكتب سرديته الجماعية بكل مسؤولية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *