وجهة نظر

بنيعقوب يكتب.. العماري ومأزق الإختيار: حرية المعتقد أم إمارة المؤمنين؟

تناول السيد إلياس العماري الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة بحر الأسبوع الجاري في أحد لقاءاته التواصلية، تناول عدة موضوعات مجتمعية ذات حساسية مفرطة، قضايا نعتقد أن بعضها حسم أمره منذ زمن بعيد، و كرستها الممارسة الإنتاجية للقواعد والأعراف، و ثبتتها السلوكات و التموقعات السياسية داخل النسق السوسيو ثقافي المغربي، فتعودها الناس في البلاد، حتى غدت أليفة مستنأسة غير مزعجة، و لا تهدد سلامة الأشخاص أو الجماعات لا من قريب و لا من بعيد.

حرية المعتقد قضية أثارها “سائق الجرار و حامل مفاتيحه”، بشكل سطحي في نظرنا، و بعيد كل البعد عن دلالاتها العميقة، التي قد تخطئها العين المجردة من نظرة أولى، مما يتعين معه تحديد النظر من جديد في هذا العنوان الكبير، و تمحيص ما يرى و ما لا يرى منه، بحيث أنه ربطها بالإيمان و أن الملك هو أمير لكل المؤمنين و ليس لعقيدة واحدة حسب تصريحه الموثق، و الحقيقة أنها أخطر و أبعد من ذلك بكثير.

ليس المقام هنا لتقديم إجابات عن ذلك السؤال الذي حاول الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة أن يعطي موقفا منه، وإنما هي محاولة لتداول الموضوع بمساءلته عن عمقه، عن خلفيات طرحه، و عن جدوى طرحه أصلا في ظرفية لا تحتاج إلى نقاشات من هذا النوع، بقدر ما تحتاج إلى نقاش حول الأفعال المنشئة لكميات جديدة من الواقع، تكون غاياتها إيصال أو مرافقة الناس الى الحياة الحية، و إلى إدراك فضاء تروج فيه قيم الحق و العدل و الإنصاف، بدل تكريس ثقافة الجينيريك و العناوين التي تفتقد إلى عمق حقيقي.

لا ندري عندما يتحدث مسؤول سياسي حزبي في هكذا مواضيع هل يكون قد أعدها إعدادا فكريا و فلسفيا عميقا و دقيقا داخل خلايا للتفكير و البحث قبل تصريفها للخارج، من حيث تحديد نطاق و حمولة المفاهيم المستعملة، و كذلك من حيث عمقها و تشعبها و ارتباطاتها بمفاهيم أخرى ذات طابع مؤسساتي سياسي حيوي لاستمرار بنية الدولة و الأمة ككل، ليستعملها داخل رؤية متكاملة لمشروع أو تصور لمستقبل الكيان المشترك بين جميع المغاربة، أم يستعملها فقط من أجل الإستهلاك الإعلامي أو من باب مخالفة و محاصرة الغير ليس إلا، خصوصا إذا كان الحزب يتبنى مفهوم الأصالة المغربية على صدر وجوده القانوني و السياسي.

الجميع يعلم أن الملكية، بحمولتها التاريخية، تختزن وظيفة إمارة المؤمنين تمارسها فعليا في تدبير الشأن الروحي و التعبدي، و ليست فقط مجرد جسد متواجد رمزيا أو شكليا.

والجميع يعي أيضا، أن إختصاصات الإمارة الإيمانية بالمغرب منظمة بحكم وثيقة الدستور المكتوب إلى جانب كتلة الأعراف و التقاليد التي استقرت في وجدان الدولة و الأمة، و لم تعد هناك حاجة نفسية أو عملية واقعية عاجلة للطعن في خطط عملها، اللهم إلا إذا كان ذلك من باب الرغبة في تفكيكها و زوالها، و بالتالي الإنفتاح على المجهول، و خلق نوع من التقسيم الداخلي باعتبار أن هذه المؤسسة الإجتماعية التاريخية هي الوحيدة التي إستطاعت جمع شمل المغاربة و توحيدهم، في غياب أي مشروع قطري وطني حداثي مجمع عليه يوفق بين الماضي و الحاضر.

و حيث أن إمارة المؤمنين تمارس إختصاصاتها من خلال عقد البيعة ذي المنبت الإسلامي، إن في شقها التأسيسي عند إنتقال الحكم من ملك إلى آخر، أو من خلال البيعة التدبيرية السنوية للدولة في شخص الملك باعتباره رئيسا لها يقوم بطرح خطة عمل للبناء و العمل و الأمن، مقابل التفاف جماعة المغاربة حوله، مع الحفاظ على حقوق غير المسلمين الذين يحملون إيمانا سماويا آخر.

في مقابل ذلك و عندما تتم المطالبة بتحرير الإعتقاد من الظوابط الشرعية التي إعتمدتها الأمة على مستوى خلق العرف و الممارسة المعيارية الواضحة، ظنا من المطالب أنها عملية إنتقال عقدي عادي من إيمان سماوي إلى آخر، فإننا سندخل في عهد قد تستعمل فيه هذه الحرية في الإيمان أو الارتداد عنه، بشكل سياسوي يهدف إلى إعلان العصيان على الإيمان بشكل جذري و على الديانات السماوية، و ربما تبني أديان بشرية أخرى، أو تبني الإلحاد بشكل مطلق، و من تم رفض الخضوع لإمارة المؤمنين من منطلق حرية المعتقد التي قد تضع الأفراد بفعل إرادتهم خارج العقائد الدينية، و بالتالي التحرر من جميع المؤسسات الدينية بما في ذلك عقد البيعة و التنصل من جميع الإلتزامات المترتبة عنه لكونه لا يلزمهم و لا يتفقون مع أسسه الدينية الإسلامية أو الإيمانية و أنهم لا يعترفون به أصلا، لأنه لا يمكن أن يجبر عليه مواطن فضل أو إختار الخروج عن الدين بعدما أقرت له الدولة و مؤسساتها و نصوصها بحريته الإعتقادية.

و بذلك يمكن القول أن المطالبة بحرية المعتقد، إن كان فعلا يعي بعض روادها ماذا تعني فعلا، فهي رغبة في ضرب إمارة المؤمنين بشكل غير مباشر، و بالتالي التحرر من عقد البيعة ثم خلق تقسيم داخلي خطير بين المتدنيين و بين غير المؤمنين، الشيء الذي نحن في غنى عنه في هذه المرحلة، لكونه قد يدمر الإجماع المغربي و يعيده إلى منطق الطوائف الدينية و منطق صناعة أقليات و هويات دخيلة جديدة، و قد لا نستغرب يوما ما إن وجدنا الآلهة في شكل أصنام أو الأبقار أو الكهان يتجولون وسط الرباط يتبعهم متعبدوهم مطالبين باحترام طقوسهم و عباداتهم و ربما عقود “البيعة” بينهم.

الحرية لاتمارس بطريقة فوضوية أو بناء على تقليد خارجي أو إنصياع لقواعد أجنبية وضعت لأهداف معينة، بحجة الحداثة و التقدم، فالحداثة ليست نموذجا حصريا كونيا واحدا، بل لها وجوه متعددة و متنوعة، و هي ليست مرتبطة بمحاربة التقليدانية أو القيم الدينية بشكل كلي و جذري، و إنما هي إمتداد للحياة داخل نمط إنتاجي تفاعلي مع السياقات الجديدة يلبي ضرورات الحاضر من دون هدم البناء كله، بل على العكس، صيانة كل ما من شأنه أن يقوي الإرتباط داخل حدود الدولة العصرية بناء على هوية وطنية جامعة و صارمة مع إحترام تام للهويات الفرعية: القبلية؛ الثقافية أو الجهوية المتجذرة، و التخلي و لو مرحليا عن أي عنصر بإمكانه تفكيك هذا الإرتباط. فحداثة اليابان المحافظة على القيم الإمبراطورية و التقليدية بما فيها الإرتباط الأسري و الديني ليست هي حداثة أمريكا المغامرة و المتحررة من كل شيء سوى مصلحة الأسواق، و حداثة ألمانيا المبنية على قيم العمل التضامني و التآزر الجماعي و العرقي ليست هي حداثة الهند الشعبية البسيطة و هكذا..

ــــــــ

باحث في العلوم السياسية.