منتدى العمق

من غزة إلى السماء: كيف تنتج اللامحاسبة العالمية فوضى الحياة اليومية؟

هناك خيط خفي – ومزعج – يربط بين صمت العالم عن جرائم الحرب في غزة وسلوك مجموعة من المراهقين في رحلة الطيران VY8166. في الظاهر، قد يبدو أن لا علاقة بين قصف مدينة فلسطينية وبين تمرد شبان داخل طائرة تجارية. لكن الواقع يقول غير ذلك. ما يجمع بين الحالتين هو مرض عالمي عميق: تطبيع الإفلات من العقاب.

في 25 يوليو 2025، تحولت أحد الرحلات الجوية إلى مشهد من التهور والتحدي. عبث المراهقون بسترات النجاة، وبأقنعة الأوكسجين، بل حاولوا سحب أسطوانة أوكسجين عالية الضغط. تجاهلوا تعليمات الطاقم وأعاقوا عرض تعليمات السلامة ثلاث مرات. ولم يتوقفوا رغم تحذيرات متكررة. لم ينتهِ الأمر إلا بتدخل الشرطة الإسبانية.

قد يتساءل البعض، لماذا يتصرف مراهقون بهذه اللامبالاة، وكأن القوانين لا تعنيهم، وكأن حياتهم – وحياة الآخرين – ليست على المحك؟

الجواب لا يوجد فقط داخل مقصورة الطائرة، بل يبدأ في عالم يسمح للجريمة أن تمر بلا حساب، رغم كل القوانين والأعراف الدولية. يبدأ في غزة.

في غزة، تُرتكب المجازر أمام أعين العالم: المستشفيات تُقصف، الأطفال يُقتلون، العائلات تُمحى من السجلات. والعالم؟ يدين بلغة دبلوماسية فارغة. لا عقوبات. لا محاكم. لا عدالة. فقط صمت مريب وتواطؤ.

والأطفال في كل مكان يرون.

يتعلمون أن القانون لا يُطبق على الجميع. وأن من يملك القوة، يملك الحق. وأن القتل مقبول إن كانت الضحية من الطرف “الخطأ”.

وحين يرى هؤلاء الشباب ذلك، لا عجب أن يشعروا بأنهم أيضًا فوق القانون. أن لا أحد سيحاسبهم. أن التمرد لعبة، وأن السلطة بلا معنى.

لنكن واضحين: ما حدث في الرحلة لم يكن موقفًا سياسيًا. لم يكن احتجاجًا. بل كان تهورًا. لكنه تهور له جذور. جذور في عالم فقد بوصلته الأخلاقية.

نحن نربي جيلاً منزوع الحس بالعدالة، ومتخمًا بثقافة الإفلات من العقاب.

عندما ترى هذه الأجيال أن إسرائيل تُفلت من المحاسبة بعد تدمير حياة شعب بأكمله، كيف ستصدق أن هناك قانونًا يُطبَّق؟ كيف ستؤمن أن العدالة ليست مجرد شعار؟

الطاقم الجوي تصرّف بمهنية. القائد إيفان شيريفيّا، الذي راكم أكثر من 12,500 ساعة طيران، اتخذ القرار الصحيح. لكن الحدث يجب أن يوقظ فينا قلقًا أعمق. فلو كان هولاء الصبيان من جنسية أو من ديانة أخرى لما قام الإعلام العالمي لإدانة تصرفهم، لكن نفس الإعلام يدين شركة الطيران في سابقة كسابقة حرب غزة.

نحن لا نحارب فقط من أجل السلام في الأجواء، بل من أجل أخلاق هذا العالم.

لأن الإفلات من العقاب لا يبقى محصورًا في ميادين الحرب. بل ينزل إلى الشوارع، والمدارس، والمطارات.

العالم تجاهل غزة.

وفي هذا الصمت، يولد جيلٌ لا يعرف الضمير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *