مناظرة بين تمركز قومي ومخيال ديني أو حين تصاغ الهويات من فوق

1. الهوية في مفترق الترابية الرمزية
في مناظرة أثارت تفاعلاً واسعاً في المشهد الثقافي المغربي، اجتمع طرفان يبدوان متناقضين في المرجعية والانتماء، لكنهما – بشكل أو بآخر – يعكسان وجهي مأزق واحد: مأزق الدولة في تدبير الرمزية الهوياتية خارج منطق المقاربة الترابية.
الطرف الأول، بصفته أحد ممثلي الطرح الأمازيغي المؤسساتي، تبنى خطاباً “حداثياً” “عقلانياً” يدافع عن الهوية الأمازيغية بوصفها ركيزة ثقافية للديمقراطية والتعددية. غير أن هذا الخطاب، المرتكز على شرعية الدولة كما تتجسد عبر المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية (IRCAM)، ينزع نحو مركزية قومية ثقافية، تسعى إلى إنتاج هوية موحَّدة مُقننة، لا تختلف كثيراً في بنيتها الرمزية عن الهوية العروبية الرسمية التي سادت لعقود. لقد أُفرغت الأمازيغية من محليتها الترابية، ومن تعدديتها الجهوية واللسانية، لتُعاد صياغتها كـ”مشروع دولة”، يُفرض من الأعلى، في غيابٍ واضح لتمثل حساسيات التراب، واختلافات الأنسجة السوسيوثقافية المحلية.
بالمقابل، الطرف الثاني، وإن انطلق من مرجعية دينية تقليدية تتجاوزها معظم الحقول المعرفية المعاصرة، نجح – دون أن يمتلك أدوات تحليلية رصينة – في استثارة تعاطف جماهيري لا بأس به. هذا الانطباع الإيجابي الذي حظي به لا يعود إلى جودة خطابه أو دقة مرجعياته، بل إلى كونه مثّل، من حيث لا يدري، صوتاً احتجاجياً على رمزية ثقافية مركزية جديدة، بات يُنظر إليها بوصفها امتداداً لسلطوية الدولة في إدارة الشأن الثقافي.
في خلفية هذا التفاعل، نلمس غياباً صارخاً لما يمكن تسميته بـ”المقاربة الترابية في بناء الرمزية الهوياتية”. فالتراب الجهوي، باعتباره وحدة سوسيو-لغوية وتاريخية متمايزة، لم يجد مكاناً في خطاب الطرف الأول، الذي يختزل التنوع الأمازيغي في وحدة معيارية مُمأسسة، وتجاهل ديناميات الحقل الترابي التي تشكل القاعدة الاجتماعية لأي هوية قابلة للانخراط العمومي. في هذا السياق، يصبح كل خطاب ديني أو شعبي – حتى وإن كان متقادماً – أقرب إلى نبض الناس من خطاب حداثي يبدو مفروضاً من الأعلى، محكوماً باعتبارات الدولة المركزية، لا بحاجات التراب territoire لتطلعاته الخاصة.
الطرف الثاني، ولو ظل حبيس أفق ماضوي، استطاع أن يشغل موقعاً رمزياً يفضحه من حيث لا يدري: موقع الرفض غير الواعي لسلطوية الثقافة الرسمية، أو ما يمكن تسميته بـ”العلمانية البيروقراطية” التي تتعامل مع الهوية كمجال تدبير تقني، لا كنتاج عضوي للتفاعل الترابي والذاكرة الجماعية.
ما نعيشه إذن ليس صراعاً بين مرجعيتين فقط، بل تعبيراً حيّاً عن قطيعة بين الفعل الثقافي الرسمي والترابات الحيّةterritoires vivants. وبينما يستمر الطرف الأول في تمثل دوره كناطق باسم حداثة متعالية، تفقد مشروعيتها يوماً بعد يوم بفعل افتقارها للامتداد الترابي والاجتماعي، يظهر الطرف الثاني – رغم محدوديته – كجسم غريب مُقلق، لكنه صدى عميق لتحولات جمهور بات يرى في المركز الثقافي “الحديث” مجرد نسخة من المركز السياسي القديم، مغلّفة بخطاب تعددي لا يلامس تعدد الواقع.
2. نحو مقاربة ترابية للهويات: من التنميط الثقافي إلى الإنصات الترابي
إن المشهد الذي كشفت عنه هذه المناظرة، بما تخلله من مفارقات معرفية وتوترات رمزية، يستدعي التفكير في صياغة بدائل لا تكتفي بنقد المحتوى، بل تُعيد مساءلة البنية التي تنتجه وتعيد إنتاجه. ولعل أولى هذه البدائل تتمثل في تفكيك العلاقة العمودية بين الدولة والهويات، والانتقال من منطق الهندسة الثقافية الفوقية إلى مقاربة ترابية تعددية، تُصغي وتنصت إلى تنوع المجال وغنى التراب، وتستثمر الذكاء الترابي للجهات، بدل محاولة صهره في قوالب معيارية.
من الضروري أيضاً أن يُعاد النظر في الكيفية التي تُصاغ بها “الحداثة الثقافية” في السياق المغربي. فحين تتحول الحداثة إلى وظيفة ناطقة باسم الدولة، تفقد طابعها التحرري وتُستقبل بوصفها سلطة جديدة مقنّعة. إن بناء خطاب حداثي نقدي لا يمر عبر التماهي مع المؤسسات، بل من خلال استعادة استقلاليته الإبستيمولوجية، واستناده إلى مخيلة تربط الثقافة بالعدالة الترابية والإنصاف الرمزي.
كما أن الطرف الثاني، رغم نجاحه الظرفي في استقطاب جمهور ناقم، لا يمكن أن يمثل بديلاً معرفياً مستقبلياً ما لم يُباشر مراجعة جذرية لمرجعيته. فإعادة تدوير التراث الديني دون مساءلته من داخل شروط الحاضر، تظل محاولة رجعية، قد تُنتج تعاطفاً عابراً لكنها لا تصنع وعياً نقدياً مستداماً.
إن الخروج من مأزق السلطوية الثقافية لا يتم بالمناورة بين مركزين (قومي وديني)، بل بإعادة التفكير في الثقافة كفعل اجتماعي-ترابي، يتغذى من التعددية، لا يُختزل في المؤسسات، ويتوجه نحو الحقول الحية بدل التموقع داخل الدوائر الرسمية أو الحنين إلى النماذج الماضوية.
وختاما لا يحتاج الامر الى مناظرات تعيد انتاج الأزمة في استيعاب الهوية المغربية ، بل ، بالأحرى ، مطلوب قلب الوعي النخبوي من مركزيات متخصصة في تحديث أزمة خطاب الهوية ، نحو الانطلاق من هويات القرب ، اي من الترابات بما تحمله من ثقافات شعبية ورمزية ترفض معيارية الثقافة باسم النخبة.
أستاذ السوسيولوجيا
جامعة القاضي عياض-مراكش
اترك تعليقاً