سياسة

إمارة المؤمنين.. البوصلة التي تحفظ التوازن في ورش تعديل المدونة

منذ إطلاق ورش تعديل مدونة الأسرة سنة 2025، عاد إلى الواجهة دور إمارة المؤمنين كمرجعية دينية ودستورية عليا في المغرب، تضطلع بمسؤولية توجيه هذا الإصلاح العميق، وضمان توازنه بين ثوابت الشريعة الإسلامية ومطالب العدالة والإنصاف والمساواة داخل المجتمع، فباعتبارها الضامن الأول لاحترام الدين ومقاصده، تمثل إمارة المؤمنين الإطار المؤسسي الذي يُمكّن من تنزيل اجتهاد ديني رصين، منفتح ومتفاعل مع التحولات الاجتماعية، دون السقوط في فخ الصدام بين المرجعية الدينية والحقوق الإنسانية.

ولم يشكل حضور إمارة المؤمنين في ورش تعديل مدونة الأسرة ضمانة لحماية ثوابت الشريعة الإسلامية فقط، بل أيضًا إطارًا مرجعيًا لإعمال اجتهاد ديني عقلاني، يأخذ بعين الاعتبار مقاصد الشريعة وتطورات المجتمع المغربي، في توازن بين الهوية الإسلامية ومتطلبات العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.

وإذا كانت إمارة المؤمنين قد لعبت دورًا مفصليًا في إصلاح مدونة الأسرة سنة 2004، حينما أمّنت إجماعًا وطنياً حول تصور متوازن لوضعية المرأة والطفل داخل الأسرة، فإنها اليوم، ومع تعديل الصيغة الحالية، تعود لتؤكد دورها الحيوي في تأمين إصلاح متدرج وتوافقي وشرعي، يستند إلى قراءة حديثة للفقه الإسلامي تراعي تحولات الأسرة المغربية وتحديات الواقع المعاصر.

إمارة المؤمنين والثوابث الدينية للمغاربة

أكد خالد الصمدي، كاتب الدولة السابق المكلف بالتعليم العالي والبحث العلمي، أن “التأطير الملكي يمنح الحصانة والضمانة لصدور مدونة أسرة لا تتعارض مع ثوابت المغاربة، من خلال مدونة منفتحة على الواقع والمستقبل، وعلى التجارب الدولية والتحولات المعاصرة من جهة، لكنها في الوقت ذاته لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن تتجاوز الثوابت القطعية التي نصّت عليها الشريعة الإسلامية من جهة ثانية، وهذا هو دور إمارة المؤمنين في حماية تلك الثوابت، وفق تعبيره.

وأبرز الصمدي، في حديثه لجريدة “العمق المغربي”، أن “ما حصل من تجاذبات كبيرة حول هذا الملف، رغم ما حملته من جوانب إيجابية وسلبية وحتى من تناقضات، إلا أنها بقيت مؤطَّرة بالإطار الملكي، مشيرا إلى أنه “هنا تكمن ميزة النموذج المغربي، حيث لم تخرج هذه النقاشات عن التأطير السامي، للملك محمد السادس الذي أكد في خطاباته أنه، بصفته أميرا للمؤمنين، لا يمكن أن يُحلِّل حرامًا أو يُحرِّم حلالًا، لاسيما ما ورد فيه نص شرعي قطعي الدلالة.

وأضاف: “نحن في المغرب حتى وإن استغرقنا بعض الوقت، فإننا نصل في نهاية المطاف إلى منظور متوازن يجمع بين ثوابتنا الدينية والحضارية، وبين انفتاحنا الواعي والمسؤول على التجارب الدولية في مجال الأسرة وكل ما يرتبط بها”.

تأجيل للحكومة المقبلة وتفعيل لمؤسسة دستورية

توقع خالد الصمدي أن يتم تأجيل ملف مدونة الأسرة للحكومة المقبلة، على اعتبار أن نصًا قانونيًا بهذه الحمولة وبهذه الدرجة من الأهمية ينبغي أن يأخذ وقته الكافي داخل المسار التشريعي، ولا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يُطغى عليه بالتسرع، وفق تعبيره، مرجحا أن يُحال الملف إلى الحكومة المقبلة، حتى يتسنى مناقشته بهدوء.

وأشار إلى أن “ما تم تحقيقه من مكتسبات على مستوى المشاورات، وجمع المعطيات والمعلومات، يُعد مهمًا جدًا، غير أن الصياغة التشريعية يجب أن تكون دقيقة للغاية، ومصحوبة بمقاربة مندمجة لمعالجة مختلف القضايا المرتبطة بهذا الورش، وذلك في إطار التوجيهات الملكية”.

إلى ذلك، طالب الصمدي بتفعيل مؤسسة دستورية نصّ عليها دستور 2011، حيث تم إخراجها إلى حيز الوجود بموجب نص تنظيمي منشور في الجريدة الرسمية، وهي المجلس الاستشاري للأسرة والطفولة، دون تفعيل على أرض الواقع، وذلك بغرض استثمار كل التراكم الحاصل خلال السنتين الأخيرتين، وعرض مخرجاته على هذا المجلس بحكم تركيبته الموسع، ورؤيته ذات البعد الاستراتيجي، لإنتاج نص قانوني يتجاوز التحديات المطروحة ويرسم مستقبل الأسرة المغربية، لا بمنطق التسرع، ولا من خلال معالجة قانونية صِرفة وإنما من خلال رؤية شمولية، وفق تعبيره.

مخرجات أقل من طموحات الملك

اعتبر خالد الصمدي أن المخرجات التي نتجت عن اللجنة المكلفة بالتعديل كانت أقل من مطموحات الملك محمد السادس، خاصة على مستوى صياغة المشروع المنتظر، والدليل على ذلك، حسب المتحدث ذاته، هو سحب الملف من وزارة العدل، والإعلان عن إحداث لجنة جديدة مكلّفة بصياغة المشروع، من أجل تجاوز حالة التجاذب التي عرفها النقاش، والتي لم تكن في المستوى المطلوب، على حد قوله، مبرزا أننا “ما نزال ننتظر نتائج عمل هذه اللجنة حتى يُحال المشروع إلى المسطرة التشريعية”.

وذكر المسؤول الحكومي السابق أن “الآليات التي دعا إليها الملك كانت واضحة، وفق تعبيره، فالرسالة التي وجهها إلى رئيس الحكومة بشأن إعداد مشروع جديد لمدونة الأسرة، كانت بمثابة انطلاقة لهذا الورش الكبير، قبل أن تشتغل اللجنة على هذا الملف واستمعت لمختلف الأطراف من كافة التوجهات والتيارات الفكرية والمجتمعية.

مدونة الأسرة.. أعمق من نص قانوني

ولفت المتحدث ذاته أن الملك، بصفته أمير المؤمنين، حينما تناول موضوع مدونة الأسرة ودعا إلى تعديلها، فإنه في الواقع يتحدث عن ملف أكبر بكثير من المدونة ذاتها، ويتعلق الأمر بالتحولات التي تعرفها الأسرة بشكل عام، حيث سبق للملك أن نبّه، في خطاب المسيرة الخضراء لسنة 2023، إلى موضوع أخطر بكثير، يتمثل في ما سمّاه “الاهتزازات والتحديات التي تعرفها منظومة القيم الوطنية والدينية والاجتماعية والأسرية”.

وأشار إلى أن “ورش تعديل مدونة الأسرة لا يعدو كونه تأطيرًا قانونيًا لقضية تندرج ضمن سياق أشمل، وسياق تحديات كبرى تمسّ الأسرة المغربية على المستويين الوطني والدولي، إلى جانب ما تعرفه منظومة القيم من اهتزازات وتحديات متصاعدة”، مذكرا بدعوة الملك، في عبارة ذات دلالة عميقة، إلى “التحلي بالجدية المسؤولة”، ومشددا على هذه الجدية في التعاطي مع التحديات الكبرى التي تواجه بلادنا.

ويرى الصمدي أن “السياق العام الذي ينبغي أن يتحرك فيه الفاعلون، هو أن القضية لا تتعلق بمجرد تعديل نص قانوني، يتم فيه إضافة فيه عبارة أو حذف أخرى أو صياغة بند أو تدقيق مادة، وتحل مشاكل الأسرة، بل إن المسألة أعمق بكثير، وفق تعبيره، وتتطلب مقاربات متعددة ومتكاملة اقتصادية واجتماعية وتربوية وإعلامية وتواصلية، بالإضافة إلى المقاربة الحقوقية والقانونية.

وأكد أن “أي معالجة تختزل هذا الموضوع في البعد القانوني المحض، لن تحقق النتائج المرجوة”، ملفتا أن أن المقاربة التي رسمها الملك مقاربة بالغة الأهمية”، مضيفا أنه “لا إشكال في أن يأخذ هذا الورش كل الوقت الذي يتطلبه، لأن الهدف هو بناء مقاربة مندمجة لمواجهة التحديات التي تواجه الأسرة، وفق تعبيره.

واستعرض الصمدي مجموعة التحديات التي كشفت عنها الدراسات والإحصاءات الرسمية الصادرة عن المؤسسات المختصة، خاصة أن المغرب يعرف ارتفاعًا مهولًا في نسب الطلاق، خصوصًا بين الزيجات الحديثة  وتراجعًا حادًا في الإقبال على الزواج، كما أن الإحصاء الأخير، كما تم الإعلان عن نتائجه، كشف عن معطى خطير للغاية يتعلق بانخفاض معدل الخصوبة والولادات، حيث أصبحت المملكة تحت المعدل العالمي اللازم لتعويض السكان، وهو مؤشر بالغ الخطورة، وفق تعبيره، إلى جانب ذلك، يضيف الصمدي، هناك الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه عددًا كبيرًا من الأسر، في ظل غلاء المعيشة والتحديات الاقتصادية والمالية ومشاكل البطالة وغيرها.

وشدد الصمدي على أن “العقلاء والمخلصين لهذا الوطن مطالبون بالتعاطي مع هذا الملف بمختلف أبعاده، استنادًا إلى التوجيهات الملكية، قصد بناء مقاربة شاملة، لا يشكل فيها البعد القانوني والتشريعي سوى نتيجة ناتجة عن كافة هذه الأوراش، تسعى لوضع خطة لبناء أسرة مستقرة، على المدى المتوسط والبعيد”.

الدينامية المجتمعية والتأطير الملكي

وتمثل مراجعة مدونة الأسرة في المغرب محطة هامة تعكس الدينامية المجتمعية المتجددة، إذ تسعى إلى تحقيق التوازن بين التطور الاجتماعي والنصوص الشرعية، فقد شهدت المدونة، منذ إقرارها في عام 2004، تطبيقات أثارت نقاشا مستمرا حول مدى قدرتها على الاستجابة لتحولات الواقع المغربي، لاسيما فيما يتعلق بحقوق المرأة والطفل وضمان مبدأ المساواة داخل الأسرة.

وشكل الخطاب الملكي في عيد العرش لسنة 2022 الذي دعا فيه الملك لمراجعة مدونة الأسرة طبقا للمرجعية الإسلامية مع الاجتهاد في القضايا الخلافية، نقطة انطلاق تعديل المدونة، غير أن البداية العملية لهذا الإصلاح جاءت في رسالة وجهها الملك محمد السادس لرئيس الحكومة في 26 شتنبر 2023.

فقد كلف الملك محمد السادس، في شتنبر 2023، رئيس الحكومة بالإشراف على إعادة النظر في مدونة الأسرة، مع رفع المقترحات أمام أنظار الملك، في أجل أقصاه 6 أشهر، وذلك في رسالة وجهها الملك إلى رئيس الحكومة، تتعلق بإعادة النظر في مدونة الأسرة، كما أسند الملك الإشراف العملي على إعداد هذا الإصلاح الهام، بشكل جماعي ومشترك، لكل من وزارة العدل والمجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة، وذلك بالنظر لمركزية الأبعاد القانونية والقضائية لهذا الموضوع.

وعرف نقاش تعديل المدونة تقاطبات بين تيار حداثي يعتبر أن الإصلاح يجب أن يعكس تطور المجتمع وضمان حقوق النساء والأطفال بما يتماشى مع الدستور والالتزامات الدولية،حيث ترى عدد من الهيئات والمنظمات أن القوانين الحالية لم تعد تتماشى مع متطلبات العصر، خاصة فيما يتعلق بمسائل المساواة في الإرث، وتحديد سن الزواج، وحماية حقوق المرأة داخل الأسرة. ويؤكدون أن هذه التعديلات تمثل خطوة نحو تحقيق العدالة الاجتماعية ومناهضة كافة أشكال التمييز.

في المقابل، يتمسك التيار المحافظ بمرجعية الشريعة الإسلامية كأساس لتعديل المدونة، مشددًا على أن أي إصلاح يجب أن يحافظ على القيم الدينية والتقاليد المغربية، إذ عبر عدد من المحسوبين على الفكر الإسلامي عن خشيتهم من أن يؤدي إدخال تعديلات جذرية إلى تقويض بنية الأسرة التقليدية وزعزعة التماسك الاجتماعي.

ويجري حاليا إعداد مشروع مدونة الأسرة في صيغتها الجديدة طبقا للتعديلات المقترحة ورأي المجلس العلمي الأعلى، في أفق المصادقة على المشروع في مجلس حكومي قبل إحالته على البرلمان لتقديمه ومناقشته في لجنة العدل والتشريع بمجلس النواب وإدخال تعديلات النواب والمصادقة على المشروع في اللجنة ثم الجلسة العامة بعد ذلك، وفي غضون ذلك، سيتم إحالة المشروع على مجلس المستشارين لاتباع المسطرة التشريعية ذاتها، قبل إعادته مجددا لمجلس النواب في قراءة ثانية، في حال إدخال تعديلات عليه في الغرفة الثانية، قبل أن إصداره في الجريدة الرسمية لتدخل المدونة حيز التنفيذ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *