وجهة نظر

الصهيونية واليهود في أدبيات الحركة السلفية الجهادية

تُعد العلاقة بين الحركة السلفية الجهادية والصهيونية واليهود من القضايا المعقدة والمتشابكة التي تستدعي تحليلًا معمقًا لفهم أبعادها الفكرية والسياسية. ففي حين يتبنى الخطاب العام لهذه الحركات عداءً صريحًا للكيان الصهيوني ويدعو إلى تحرير فلسطين، إلا أن أدبياتها وممارساتها تكشف عن تباينات واختلافات في تحديد أولويات الصراع وتوجيه الجهود. تهدف هذه الدراسة إلى استكشاف كيفية تناول أدبيات الحركة السلفية الجهادية لموضوع الصهيونية واليهود، مع التركيز على المفاهيم الأساسية التي تحكم هذا الموقف، والتناقضات الداخلية التي تظهر في تحديد العدو وترتيب أولويات الجهاد.

سيتناول التقرير تعريفًا موجزًا بالسلفية الجهادية، ثم ينتقل إلى تحليل موقفها من الصهيونية واليهود، مستعرضًا مفهوم العداء الوجودي والجهاد. بعد ذلك، سيبحث في أولويات الصراع كما تحددها هذه الأدبيات، مع التركيز على الجدل الدائر حول قتال “العدو القريب” مقابل “العدو البعيد”، وأهمية الصراع مع الشيعة في بعض الأحيان. أخيرًا، سيسلط الضوء على التباينات داخل الحركة السلفية الجهادية نفسها، من خلال استعراض مواقف تنظيمات رئيسية مثل القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وغيرها من الجماعات، وذلك بهدف تقديم صورة شاملة ومتوازنة لهذه القضية الحيوية.

  1. تعريف السلفية الجهادية ومبادئها الأساسية

تُعرف السلفية الجهادية كتيار ديني إسلامي سني، يقوم على الالتزام بمنهج السلف الصالح، أي الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، مع التركيز على الجهاد المسلح كوسيلة أساسية للتغيير. ينبع هذا التيار من مفهوم واسع للسلفية التي تدعو إلى الاقتداء بالجيل الأول من المسلمين، لكنه يضيف بُعدًا قتاليًا إلى هذا المنهج. تتميز السلفية الجهادية بعدة مبادئ أساسية تشكل إطارها الفكري والعملي:

أولاً، تكفير الحكام والأنظمة: تعتبر السلفية الجهادية أن الحكام في الدول الإسلامية لا يحكمون بما أنزل الله، وبالتالي فهم “طواغيت” يجب قتالهم وإسقاطهم. هذا المبدأ يبرر العنف ضد الأنظمة الحاكمة في العالم الإسلامي.

ثانياً، مبدأ الولاء والبراء: يعتمد هذا المبدأ على موالاة المؤمنين ونصرتهم، والبراءة من الكافرين والمبتدعين والمشركين. يُعد هذا المبدأ حجر الزاوية في تحديد العداوات والتحالفات، حيث لا يتم تحديد العدو بناءً على اعتبارات سياسية أو جغرافية، بل وفق الانتماء العقدي أولاً. وهذا ما يجعلهم يعتبرون الشيعة، على سبيل المثال، “العدو الداخلي الأخطر” في بعض الأحيان، بل وأشد رفضًا من إسرائيل.

ثالثاً، الجهاد العالمي: تدعو السلفية الجهادية إلى جهاد عالمي ضد “أعداء الإسلام” في كل مكان، ولا تحصره في بلد معين. هذا المفهوم يوسع نطاق العمليات ليشمل مناطق جغرافية واسعة، مستهدفًا كل من يعتبرونه عدوًا للإسلام.

رابعاً، العداء للغرب وإسرائيل: تعتبر السلفية الجهادية أن الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، هو العدو الأول للإسلام، وتدعو إلى محاربته بكل الوسائل. وفيما يتعلق بإسرائيل، تعتبرها “كيانًا صهيونيًا غاصبًا” يجب إزالته من الوجود، وتدعو إلى تحرير فلسطين من “الاحتلال اليهودي”. هذا العداء لإسرائيل متجذر في أدبياتهم، ويعتبرونه فرض عين على كل مسلم.

وقد برزت السلفية الجهادية بشكل واضح في أفغانستان خلال فترة الاحتلال السوفياتي، حيث توافد إليها مقاتلون من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وشكلوا ما عرف بـ”المجاهدين العرب”. وبعد انتهاء الحرب، عاد هؤلاء إلى بلدانهم حاملين معهم الفكر الجهادي، وأسسوا تنظيمات وجماعات جهادية، أشهرها تنظيم القاعدة.

  1. موقف السلفية الجهادية من الصهيونية واليهود

يُعد الموقف من الصهيونية واليهود أحد الركائز الأساسية في الفكر السلفي الجهادي، ويتسم بالعداء الشديد والرفض المطلق لوجود إسرائيل. هذا الموقف ليس مجرد عداء سياسي، بل هو متجذر في رؤية عقدية تعتبر اليهود أعداءً للإسلام، وأن الكيان الصهيوني هو كيان غاصب يجب إزالته.

2.1. العداء الوجودي لإسرائيل

تنظر السلفية الجهادية إلى إسرائيل كـ”عدو وجودي”، وهو تعبير يعكس قناعتها بأن وجود هذا الكيان يمثل تهديدًا جوهريًا للأمة الإسلامية. هذا العداء ليس موجهًا فقط للسياسات الإسرائيلية، بل للكيان نفسه، وللصهيونية كحركة تسعى لاحتلال الأراضي الإسلامية وتدنيس مقدساتها. تعتبر أدبيات السلفية الجهادية أن إسرائيل “كيان صهيوني غاصب يجب إزالته من الوجود، وتحرير فلسطين من الاحتلال اليهودي”. هذا الموقف لا يقبل أي حلول وسط أو تسويات سياسية، ويرفض بشكل قاطع أي صلح أو اعتراف بإسرائيل.

2.2. مفهوم الجهاد ضد إسرائيل

في إطار هذا العداء الوجودي، يُنظر إلى الجهاد ضد إسرائيل على أنه “فرض عين على كل مسلم”. هذا يعني أن قتال إسرائيل ليس واجبًا على فئة معينة أو في ظروف خاصة، بل هو واجب فردي يقع على عاتق كل مسلم قادر. تدعو هذه الأدبيات إلى تحرير فلسطين وإقامة الدولة الإسلامية عليها، وتعتبر أن هذا الهدف لا يمكن تحقيقه إلا من خلال الجهاد المسلح. ورغم هذا التأكيد على الجهاد ضد إسرائيل، فإن بعض المصادر تشير إلى أن بعض منظري السلفية الجهادية، مثل أبي مصعب السوري، يخصصون صفحات قليلة للقضية الفلسطينية في كتاباتهم، ويرفضون الصلح والتطبيع مع اليهود، لكنهم لا يتطرقون لتجربة الجهاد ضد إسرائيل بشكل مفصل، مما يثير تساؤلات حول الأولوية الفعلية لهذا الصراع في ممارساتهم.

  1. أولويات الصراع في أدبيات السلفية الجهادية

على الرغم من العداء الواضح للصهيونية واليهود، فإن أدبيات الحركة السلفية الجهادية تظهر تباينًا في تحديد أولويات الصراع، مما أدى إلى انقسامات داخلية وصراعات بين التنظيمات المختلفة. ينبع هذا التباين من تفسيرات مختلفة لمفاهيم فقهية مثل “العدو القريب” و”العدو البعيد”، وكذلك من النظرة إلى الصراعات المذهبية.

. العدو القريب مقابل العدو البعيد

تعتمد الجماعات السلفية الجهادية على فتاوى ابن تيمية التي تنص على “البدء بجهاد المرتدين قبل جهاد الكفار من أهل الكتاب”. وقد تبنى محمد عبد السلام فرج في كتابه “الفريضة الغائبة” مقولة “قتال العدو القريب أولى من قتال العدو البعيد”.

العدو القريب

يُقصد بـ”العدو القريب” الأنظمة الحاكمة في الدول الإسلامية والعربية التي لا تطبق الشريعة الإسلامية، وتعتبرها هذه الحركات أنظمة “كافرة” أو “مرتدة”. ويرى أنصار هذه النظرية أن قتال هذه الأنظمة وتغييرها هو الأولوية القصوى، باعتبارها العائق الأساسي أمام تطبيق الشريعة وإقامة الدولة الإسلامية. وقد ركز على هذا المفهوم منظّرون مثل محمد عبد السلام فرج في كتابه “الفريضة الغائبة”

العدو البعيد

أما “العدو البعيد” فيُقصد به القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، التي تُعتبر داعمة للأنظمة “المرتدة” ومحتلة للأراضي الإسلامية. ويرى أنصار هذه النظرية أن قتال “العدو البعيد” هو الأولوية، حيث أن هزيمته ستؤدي تلقائياً إلى ضعف وسقوط الأنظمة المحلية. وقد ركز على هذا المفهوم منظّرون مثل أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر

الصراع مع الشيعة كأولوية

في بعض أدبيات السلفية الجهادية، يُنظر إلى الشيعة، وخاصة إيران، كـ”العدو الداخلي الأخطر”، وأحيانًا “أشد رفضًا” من إسرائيل. ينبع هذا الموقف من رؤية عقدية تعتبر الشيعة “أهل بدعة مغلّظة” أو حتى “طائفة ردة”، بسبب ما يرونه من انحرافات عقدية لديهم. وقد رأى بعض شيوخ التيار السلفي الجهادي أن “الرافضة أخطر من اليهود والنصارى”، واعتبروا إيران “عدوًا عقديًا استراتيجيًا” لا يمكن التعايش معه. هذا التصور العقدي أدى إلى عداء شديد لإيران ورفض أي تقارب معها، معتبرين أن أي تحالف مع إيران هو خيانة للإسلام وموالاة للكفار. هذا المنظور العقدي أفرز معضلة في التعامل السياسي الواقعي، حيث لا يسمح بأي تقارب مع الشيعة حتى في حالات المصالح المشتركة، مثل مواجهة الاحتلال أو نصرة القضية الفلسطينية، لأن ذلك يُعد من زاوية عقدية ضربًا من الموالاة المحرمة.

  1. التباينات داخل الحركة السلفية الجهادية

على الرغم من وجود قواسم مشتركة في العداء للصهيونية واليهود، إلا أن الحركة السلفية الجهادية ليست كتلة واحدة، بل تتكون من تنظيمات وجماعات تختلف في تفسيراتها للأولويات وتكتيكات العمل. هذه التباينات أدت إلى صراعات داخلية وتشتت في الجهود.

. موقف تنظيم القاعدة

ينظر تنظيم القاعدة، الذي أسسه أسامة بن لادن، إلى الولايات المتحدة وإسرائيل كـ”رأس الكفر”، ويعتبر قتالهما هو الأولوية. ففي أدبيات القاعدة، يُعتبر الجهاد ضد “العدو البعيد” (الولايات المتحدة وإسرائيل) هو السبيل لتحرير الأمة من الهيمنة الغربية والصهيونية. ورغم أن القاعدة ترفض الصلح والتطبيع مع اليهود، إلا أن تركيزها الأساسي كان على ضرب المصالح الأمريكية والغربية، معتبرة أن ذلك سيؤدي إلى إضعاف إسرائيل بشكل غير مباشر.

أيمن الظواهري: أولوية “العدو البعيد”

يُعد أيمن الظواهري، الزعيم السابق لتنظيم القاعدة، من أبرز منظّري الجهاد العالمي. تركز كتاباته وبياناته على مفهوم “العدو البعيد”، أي القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، باعتبارها الداعمين الرئيسيين للأنظمة “المرتدة” في العالم الإسلامي. وقد أظهرت كتابات الظواهري تحولاً في أولويات الجهاد من التركيز على الأنظمة المحلية إلى استهداف القوى الكبرى [2].

تحليل كتاب “فرسان تحت راية النبي” لأيمن الظواهري:

  • التركيز على الولايات المتحدة كعدو رئيسي: يخصص الظواهري جزءاً كبيراً من كتابه للحديث عن الولايات المتحدة الأمريكية كعدو رئيسي للأمة الإسلامية، وضرورة استهدافها. فأمريكا يُنظر إليها على أنها الداعم الأكبر للأنظمة “المرتدة” في العالم الإسلامي، ولإسرائيل.
  • إسرائيل كجزء من الصراع الأوسع: تُذكر إسرائيل في سياق الصراع الأوسع مع القوى الغربية، وليست كهدف مستقل بذاته. فهي تُنظر إليها كحليف أو أداة للولايات المتحدة في المنطقة، وبالتالي فإن قتالها يندرج ضمن استراتيجية إضعاف “العدو البعيد”.
  • غياب التفصيل العملياتي حول إسرائيل: على غرار كتاب “ملة إبراهيم”، لا يقدم كتاب “فرسان تحت راية النبي” تفصيلاً حول خطط عملياتية محددة لاستهداف إسرائيل. وبدلاً من ذلك، يركز على الجوانب الفكرية والتاريخية للجهاد، وضرورة توجيه الضربات إلى رأس الكفر (الولايات المتحدة).
  • أولوية الجهاد العالمي: يؤكد الظواهري على أولوية الجهاد العالمي ضد القوى الكبرى التي تهيمن على العالم الإسلامي. وفي هذا الإطار، تصبح القضية الفلسطينية جزءاً من هذا الجهاد الأوسع، ولكنها لا تشكل الأولوية العملياتية المباشرة التي تركز عليها الحركات الجهادية المحلية في فلسطين.

بناءً على تحليل “فرسان تحت راية النبي”، يمكن القول إن أيمن الظواهري، ومن بعده تنظيم القاعدة، ينظر إلى إسرائيل كعدو، ولكنها ليست الهدف المباشر أو الأولي في استراتيجيتهما. فالأولوية تُعطى لقتال “العدو البعيد”، معتقدين أن هزيمته ستضعف بالتبعية الأنظمة المحلية المتحالفة مع الغرب وإسرائيل.

أسامة بن لادن: مهندس استراتيجية “العدو البعيد”

يُعتبر أسامة بن لادن، مؤسس تنظيم القاعدة، الشخصية المحورية في تبني استراتيجية “العدو البعيد”. فقد ركزت بياناته وخطاباته بشكل كبير على الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، معتبراً إياهم رأس الكفر والداعم الرئيسي للأنظمة “المرتدة” في العالم الإسلامي [2].

أبرز ما صدر عنه:

  • “رسالة إلى أمريكا” (2002): تُعد هذه الرسالة من أهم بياناته، حيث يوضح فيها أسباب هجمات 11 سبتمبر، ويركز على السياسات الأمريكية تجاه العالم الإسلامي، ودعمها لإسرائيل، ووجود قواتها في الأراضي المقدسة. وتُظهر هذه الرسالة بوضوح أن إسرائيل تُذكر في سياق الصراع الأوسع مع الولايات المتحدة، وليست الهدف الأساسي المباشر.
  • العديد من التسجيلات الصوتية والمرئية: أصدر بن لادن العديد من التسجيلات التي يحرض فيها على الجهاد ضد الغرب وأمريكا في كل مكان، ويؤكد على أن الصراع مع “العدو البعيد” هو الأولوية، وأن هزيمة هذا العدو ستمكن المسلمين من تحرير أراضيهم وتطبيق الشريعة.

تؤكد أدبيات بن لادن على أن الصراع مع “العدو البعيد” هو الأولوية، وأن هزيمة هذا العدو ستمكن المسلمين من تحرير أراضيهم وتطبيق الشريعة. ويفسر هذا التركيز جزئياً لماذا لم تحتل إسرائيل موقعاً متقدماً كهدف مباشر في أدبيات القاعدة، بل كانت جزءاً من الصورة الأكبر للصراع مع الغرب.

. موقف تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)

يختلف تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) عن القاعدة في ترتيب الأولويات، حيث يرى أن إيران هي “العدو الأكبر”، وأن قتالها أولى من قتال إسرائيل. ينبع هذا الموقف من رؤية داعش للشيعة كـ”طائفة ردة وكفر”، وأنهم أخطر من اليهود والنصارى. وقد كفّر تنظيم الدولة حركة حماس، واتهمها بأنها “طائفة ردة وكفر” بسبب “تحكيمها للقوانين الوضعية وموالاتها للمشركين والتزامها بالديمقراطية”. كما هدد قيادة حماس بالتنكيل والقتل، معتبرًا أن الحركة أحد العوائق في طريق وصوله إلى القدس. هذا التركيز على قتال الشيعة والأنظمة المحلية أدى إلى صراعات عنيفة بين داعش والتنظيمات الأخرى، بما في ذلك القاعدة نفسها.

4.3. مواقف أخرى (مثل جيش الإسلام وجند أنصار الله)

توجد داخل غزة تنظيمات سلفية جهادية أخرى، مثل “جيش الإسلام” و”جند أنصار الله”، والتي تظهر مواقف متباينة وصراعات مع حماس. فـ”جيش الإسلام”، الذي ارتبط فكريًا بتنظيم القاعدة، شارك في عملية أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط عام 2006، مما يدل على اهتمامه بالصراع مع إسرائيل. ومع ذلك، فقد دخل في اشتباكات مع حماس، واتهمها بـ”الردة والكفر” في عام 2015. أما “جند أنصار الله”، فقد أعلن زعيمها “أبو النور المقدسي” قيام “الإمارة الإسلامية في أكناف بيت المقدس” عام 2009، وهاجم حكومة حماس، مما أدى إلى اشتباكات عنيفة. هذه الأمثلة توضح أن السلفية الجهادية في فلسطين لم تكن فاعلًا أساسيًا مباشرًا في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي إلا بعد سيطرة حماس على القطاع عام 2007، وأن صراعاتها الداخلية مع حماس، ومع بعضها البعض، قد طغت أحيانًا على تركيزها على قتال إسرائيل.

حماس وتأثير عملية طوفان الأقصى على الخطاب الجهادي

تعتبر حركات المقاومة في الشرق الأوسط جزءاً لا يتجزأ من المشهد السياسي والأمني المعقد في المنطقة. من بين هذه الحركات، تبرز حماس في فلسطين وحزب الله في لبنان كقوتين رئيسيتين لهما تأثير كبير على الصراعات الإقليمية، وخاصة الصراع العربي الإسرائيلي. على الرغم من أن كلتا الحركتين تهدفان إلى مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، إلا أنهما تختلفان في المنشأ، الأيديولوجية، النطاق الجغرافي، والعلاقات الإقليمية والدولية. تهدف هذه الدراسة إلى تقديم تحليل مقارن شامل لحماس وحزب الله، مع التركيز على الطابع المحلي لحماس وصراعها الوجودي المباشر مع إسرائيل، ودور حزب الله كجزء من محور المقاومة الذي يربط فلسطين بالصراع الأوسع مع الغرب. بالإضافة إلى ذلك، ستتناول الدراسة تأثير عملية “طوفان الأقصى” الأخيرة على الخطاب الجهادي العام، وكيف أعادت هذه العملية تشكيل الديناميكيات بين حركات المقاومة.

1. حركة حماس: الطابع المحلي والصراع الوجودي المباشر مع إسرائيل

حركة المقاومة الإسلامية، المعروفة اختصاراً بـ “حماس”، هي حركة فلسطينية وطنية المنشأ والتوجه، تأسست في عام 1987 خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى. جذورها إسلامية، حيث يرتبط مؤسسوها فكرياً بجماعة الإخوان المسلمين. تهدف حماس بشكل أساسي إلى تحرير الأراضي الفلسطينية المحتلة وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس. صراعها مع إسرائيل يعتبر صراعاً وجودياً، حيث ترفض الاعتراف بشرعية الاحتلال وتعتبر المقاومة المسلحة وسيلة أساسية لتحقيق أهدافها.

1.1. الطابع المحلي

تتميز حماس بطابعها المحلي الفلسطيني الخالص، حيث ينصب جل اهتمامها ونضالها على القضية الفلسطينية داخل حدود فلسطين التاريخية. هذا الطابع يتجلى في عدة جوانب:

  • التركيز الجغرافي: تركز حماس جهودها بشكل أساسي على الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك قطاع غزة والضفة الغربية والقدس. لا تتدخل الحركة بشكل مباشر في الشؤون الداخلية للدول العربية الأخرى، وتعتبر مقاومتها موجهة حصرياً ضد الاحتلال الإسرائيلي.
  • الأهداف الوطنية: تسعى حماس إلى تحقيق أهداف وطنية فلسطينية بحتة، مثل تحرير الأرض والمقدسات، وعودة اللاجئين والنازحين إلى ديارهم، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة الكاملة وعاصمتها القدس. هذه الأهداف تعكس تطلعات الشعب الفلسطيني وتاريخه.
  • النشأة والارتباط بالمجتمع: نشأت حماس من رحم المجتمع الفلسطيني، وتحديداً من جماعة الإخوان المسلمين، وتغلغلت في نسيجه الاجتماعي من خلال شبكة واسعة من المؤسسات الخيرية والاجتماعية والتعليمية. هذا التغلغل أكسبها قاعدة شعبية واسعة ودعماً جماهيرياً كبيراً، خاصة في قطاع غزة.
  • المشاركة السياسية: شاركت حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006 وحققت فوزاً كبيراً، مما يؤكد طابعها المحلي ورغبتها في العمل ضمن الأطر السياسية الفلسطينية، على الرغم من التحديات والعقبات التي واجهتها.

1.2. الصراع الوجودي المباشر مع إسرائيل

تعتبر حماس أن صراعها مع إسرائيل هو صراع وجودي، وليس مجرد صراع على الحدود أو الموارد. هذا المفهوم ينبع من رؤيتها بأن أرض فلسطين وقف إسلامي ووطن تاريخي للفلسطينيين، وأن الاحتلال الإسرائيلي هو احتلال غير شرعي يجب مقاومته وإزالته. تتجلى طبيعة هذا الصراع الوجودي في النقاط التالية:

  • رفض الاعتراف بإسرائيل: ترفض حماس الاعتراف بإسرائيل كدولة شرعية على الأراضي الفلسطينية، وتعتبرها كياناً احتلالياً. هذا الرفض هو جوهر أيديولوجيتها وصراعها.
  • المقاومة المسلحة: تعتبر المقاومة المسلحة وسيلة أساسية لتحقيق أهدافها في التحرير، وتنظر إليها كحق مشروع للشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال. الجناح العسكري لحماس، كتائب الشهيد عز الدين القسام، يقوم بعمليات عسكرية ضد أهداف إسرائيلية.
  • الاستهداف المتبادل: شهد الصراع بين حماس وإسرائيل جولات عديدة من التصعيد العسكري، بما في ذلك الهجمات الصاروخية من قطاع غزة والعمليات العسكرية الإسرائيلية الواسعة النطاق. هذا الاستهداف المتبادل يؤكد طبيعة الصراع المستمرة والعميقة.
  • الخلاف الأيديولوجي: يتجاوز الصراع الجانب السياسي والعسكري ليشمل خلافاً أيديولوجياً عميقاً بين المشروع الصهيوني الذي يقوم على أساس ديني وقومي، والمشروع الإسلامي الوطني لحماس الذي يرى في فلسطين أرضاً إسلامية لا يمكن التنازل عنها.

باختصار، حماس حركة ذات طابع محلي فلسطيني خالص، وصراعها مع إسرائيل هو صراع وجودي يهدف إلى تحرير كامل التراب الفلسطيني وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.

4. تأثير عملية طوفان الأقصى على الخطاب الجهادي

  1. إعادة إحياء مركزية القضية الفلسطينية في الخطاب الجهادي

أعادت عملية “طوفان الأقصى” القضية الفلسطينية إلى واجهة الخطاب الجهادي بعد أن تراجعت مكانتها في العقدين الأخيرين لصالح أولويات أخرى، أبرزها:

  • التركيز على إسقاط الأنظمة الحاكمة (العدو القريب).
  • الحرب المفتوحة مع الولايات المتحدة والغرب (العدو البعيد).
    غير أن ضخامة العملية ورمزيتها جعلت فلسطين تتحول مجدداً إلى ساحة استقطاب وجداني وعقائدي، وأعادت إنتاج أدبيات “الجهاد من أجل الأقصى”، مما وفّر للحركات الجهادية فرصة لإعادة تعبئة أنصارها بخطاب يوحّد ولا يفرّق.
  1. موقف تنظيم القاعدة: محاولة التكيف والتوظيف الاستراتيجي
  • أصدرت القيادة العامة وفروع القاعدة بيانات متقاربة المضمون، أكدت على أن “طوفان الأقصى” يمثل نموذجاً للعمل الجهادي الخالص.
  • ركز الخطاب على شرعية المقاومة المسلحة في فلسطين، واعتبرها امتداداً لمشروع القاعدة العالمي.
  • تجاوز التنظيم عقبة العلاقة بين حماس وإيران من خلال الفصل بين جناحها السياسي والجناح العسكري، وهو خطاب تكتيكي يهدف إلى عدم خسارة رمزية العملية.
  • في العمق، رأت القاعدة في العملية فرصة لتأكيد أطروحتها القديمة بأن “العدو البعيد” (إسرائيل/أميركا) لا يمكن مواجهته إلا بجهاد عالمي يتجاوز حدود الدول.
  • استراتيجياً، يمثل هذا الموقف محاولة لإعادة التموقع في الساحة الجهادية التي تقاسمتها داعش وحركات أخرى خلال العقد الماضي، عبر خطاب يوحّد الجمهور الإسلامي خلف “الأقصى”.
  1. موقف تنظيم داعش: الغموض والحسابات المعقدة
  • التزام داعش التحفظ وعدم إصدار بيان مباشر يعكس أولويات مختلفة عن القاعدة.
  • بالنسبة لداعش، تظل الأولوية القصوى قتال الأنظمة الحاكمة والميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، بينما يرى أن حماس ليست سوى “حركة وطنية إخوانية” بعيدة عن نقاء المشروع “الخلافوي”.
  • صحيفة “النبأ” اكتفت بعموميات عن نصرة المسلمين، مما يؤكد أن التنظيم لا يريد أن يُحسب ضمن “معسكر المقاومة” الذي يتقاطع مع إيران وحزب الله.
  • يعكس هذا الموقف استمرار أزمة داعش الفكرية: فهو لا يستطيع إنكار رمزية الأقصى، لكنه في الوقت نفسه لا يريد أن يخسر روايته التي ترى أن الصراع مع “العدو القريب” أهم من مواجهة إسرائيل.
  • من زاوية أخرى، الغموض الداعشي قد يؤدي إلى تراجع جاذبيته الدعائية أمام صعود خطاب القاعدة الأكثر انسجاماً مع المزاج الشعبي الإسلامي بعد العملية.
  1. التأثير على الحركات الجهادية المحلية
  • فروع القاعدة في المغرب الإسلامي والقرن الإفريقي واليمن رأت في العملية فرصة لربط ساحاتها المحلية بالقضية الفلسطينية، وهو ما يمنحها شرعية أكبر أمام جمهورها.
  • في المقابل، حركات ذات مرجعية داعشية (مثل ولاية خراسان) واصلت التركيز على مشاريعها المحلية، لكنها قد تجد نفسها مضطرة لإعادة تكييف خطابها إذا استمرت موجة “الأقصى” في تحريك الشارع الإسلامي.
  1. التحولات المحتملة في أولويات الخطاب الجهادي
  • القاعدة: مرشحة لاستثمار العملية لإعادة بناء شرعيتها كـ”مظلة جامعة للمقاومة الإسلامية”، مع دفع خطاب “الجهاد العالمي” في مواجهة إسرائيل والغرب.
  • داعش: قد يواجه أزمة في التمايز، حيث إن استمراره في تهميش فلسطين سيعمق صورته كتنظيم معزول، بينما أي محاولة لتبني خطاب “الأقصى” ستصطدم بأطروحاته السابقة المعادية لحماس وإيران.
  • الجهاديون المستقلون والتيارات السلفية الحركية: وجدوا في العملية مادة خصبة لإعادة صياغة خطاب تعبوي عابر للتنظيمات، ما قد يؤدي إلى بروز موجة جديدة من “الجهاد الشعبي” المرتبط بفلسطين.
  1. الخلاصة

يُظهر تحليل أدبيات الحركة السلفية الجهادية تجاه الصهيونية واليهود تعقيدًا وتنوعًا في المواقف، على الرغم من العداء الأساسي المشترك. ففي حين تعتبر السلفية الجهادية إسرائيل “عدوًا وجوديًا” يجب إزالته من الوجود، وتدعو إلى الجهاد لتحرير فلسطين، إلا أن هناك تباينات واضحة في تحديد أولويات الصراع وتوجيه الجهود.

تتأثر هذه التباينات بمفاهيم فقهية مثل “الولاء والبراء” و”فقه الموازنات”، التي أدت إلى جدل حول أولوية قتال “العدو القريب” (الأنظمة الحاكمة في الدول الإسلامية) مقابل “العدو البعيد” (إسرائيل والقوى الغربية). كما أن الصراع المذهبي مع الشيعة قد برز كأولوية لدى بعض التنظيمات، مثل تنظيم الدولة الإسلامية، الذي يعتبر الشيعة “العدو الداخلي الأخطر”، وأحيانًا أشد رفضًا من اليهود والنصارى.

لقد أدت هذه الاختلافات في ترتيب الأولويات إلى انقسامات وصراعات داخلية بين تنظيمات السلفية الجهادية، مثل القاعدة وداعش، وحتى بين الجماعات المحلية في فلسطين. هذه الصراعات الداخلية قد صرفت الانتباه والجهود عن التركيز الكامل على قتال إسرائيل، مما يعكس أن العلاقة بين السلفية الجهادية والصهيونية واليهود ليست علاقة أحادية البعد، بل هي متعددة الأوجه وتتأثر بعوامل عقدية وسياسية وتاريخية معقدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *