وفاة سيدة حامل ورضيعها بزاكورة تعري واقع “مغرب السرعتين” وتكشف هشاشة المنظومة الصحية

في مشهد مؤلم هزّ إقليم زاكورة وأعاد إلى الواجهة واقع المنظومة الصحية المتدهورة بالمغرب العميق، لفظت سيدة حامل ورضيعها أنفاسهما الأخيرة، مساء السبت، على الطريق بين مستشفى زاكورة والمستشفى الإقليمي بورزازات، بعد فشل محاولات إسعافهما في ظروف غير إنسانية، وسط غياب أدنى مقومات الرعاية الطبية.
الواقعة التي وقعت فصولها بين دوار “أولاد بيوسف” بجماعة تمݣروت ومستشفى “سيدي حساين بن ناصر” بورزازات، تُظهر بشكل صارخ ما بات يعرف في الخطاب العمومي بـ“مغرب السرعتين”، في تفاوت غير مفهوم بين مناطق تتوفر على مستشفيات جامعية ومروحيات طبية وأخرى لا تجد فيها الحوامل طبيب تخدير أو سريرا آمنا للولادة.
رحيل مأساوي بسبب غياب طبيب تخدير ومسافة 160 كلم من المعاناة
وبحسب معطيات حصلت عليها جريدة “العمق المغربي” من مصادر محلية، فإن السيدة مريم، وهي أم لطفلة تبلغ من العمر 3 سنوات، دخلت مستشفى زاكورة من أجل وضع مولودها، حيث أجريت لها عملية قيصرية، غير أن رضيعها وُلد في حالة اختناق، ما استدعى نقله على وجه السرعة إلى مستشفى ورزازات، الذي يبعد بأكثر من 160 كيلومترا عبر طريق جبلية خطيرة ومنعرجات “أيت ساون”.
وفي الوقت الذي كانت فيه حياة الرضيع معلقة بخيط رفيع، تعرضت مريم لنزيف حاد بعد العملية، ما استوجب تدخلا عاجلا من فريق التخدير والإنعاش، لكن المفاجأة الصادمة أن المستشفى لم يكن يتوفر على طبيب تخدير في ذلك الوقت، مما دفع الفريق الطبي إلى اتخاذ قرار بنقلها أيضا نحو ورزازات. إلا أن مريم لم تكمل الرحلة، حيث فارقت الحياة رفقة رضيعها في سيارة الإسعاف، على الطريق، وسط حالة من الصدمة والحزن العارم في صفوف أسرتها وساكنة المنطقة.
مستشفى زاكورة.. بناية من إسمنت بلا روح
تعكس هذه الحادثة، وفق متابعين محليين، واقع مستشفى زاكورة الذي يوصف من طرف السكان بأنه “هيكل إسمنتي بلا روح”. فرغم كونه المستشفى الإقليمي الوحيد، إلا أنه يعاني من خصاص مهول في الموارد البشرية، وافتقار خطير في التجهيزات، خصوصا في مصلحة الأمومة والولادة، حيث يضطر الأطباء إلى الاشتغال بإمكانيات شبه منعدمة، مع ضغط رهيب من الحالات الوافدة من مختلف الجماعات المحيطة.
محمد لمين الأبيض، فاعل حقوقي وناشط مدني بإقليم زاكورة، قال إن ما وقع “ليس حادثا عرضيا بل نتيجة طبيعية لإهمال مزمن”، مضيفا: “لقد طالبنا مرارا وتكرارا بتعزيز المستشفى بطاقم طبي متكامل وتوفير وحدة إنعاش خاصة بالنساء الحوامل، لكن لا حياة لمن تنادي”.
وأوضح لمين الأبيض في تصريح لـ”العمق المغربي”، أن “مأساة مريم ورضيعها تكشف حجم التفاوت المجالي بين الجهات. فبينما نجد نساء في الرباط أو الدار البيضاء يخضعن للولادة تحت أجهزة حديثة وأطباء متخصصين، تلد نساء زاكورة في الظلام أو على الطريق”، مبرزا أن “الوضع الصحي بالإقليم لا يليق حتى بالحيوانات، فكيف بالبشر؟”، وفق تعبيره.
كم من مريم يجب أن تموت لنلتفت إلى زاكورة؟
وأشار الفاعل الحقوقي، أن “الدور اليوم على الفقيدة مريم، وغدا سيأتي دور حامل ٱخر، وستطول القائمة. فإلى متى سيظل إقليم زاكورة يعاني من نقص الخدمات الصحية الأساسية من موارد بشرية ومعدات ورغبة وعزيمة وعمل بضمير؟ وكم من روح بريئة يجب أن تزهق قبل أن يلتفت إلى ضرورة توفير مستشفى إقليمي مجهز، قادر على تقديم الرعاية الطبية وإنقاذ أرواح رعايا صاحب الجلالة بهذا الإقليم؟”، يتساءل المتحدث نفسه.
وجدّد المصدر ذاته التأكيد على أن “استمرار هذا الوضع يعد تهميشا ممنهجا للمنطقة، يدفع ثمنه الأبرياء، وخاصة النساء في لحظاتهن الأكثر ضعفا وحاجة للرعاية في مشهد يختزل معاناة ساكنة المغرب العميق المنسي والغير النافع مع واقع صحي كارثي مزري”، لافتا إلى أن “الساكنة لم تعد تطالب بالكماليات، بل فقط بأبسط حق من الحقوق، وهو الحق في الحياة والولادة الكريمة”.
ولم يفوّت لمين الأبيض الفرصة للمطالبة بـ“فتح تحقيق عاجل في ظروف وملابسات وفاة الأم ورضيعها، ومساءلة المسؤولين عن غياب طبيب التخدير والتجهيزات الأساسية في هذا المستشفى الإقليمي”، مشددا على ضرورة مراجعة السياسات الصحية على المستوى الوطني، بشكل يضمن عدالة صحية ومجالية، تضع حدا لمآسي “مغرب الهامش”، وتجعل من الحق في الصحة أولوية فعلية، لا مجرد شعار موسمي.
من جهته، عبّر إبراهيم رزقو، رئيس فرع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بزاكورة، عن أسفه من هذه الواقعة المؤلمة، مؤكدا أنه “من العيب والعار أن نسمع، ونحن في القرن الواحد والعشرين خبر وفاة سيدة حامل بسبب الولادة، خصوصا مع الإحصائيات الرسمية التي تتبجّح بها وزارة الصحة والحماية الإجتماعية حول تقلص عدد الوفيات بسبب الولادة”.
وأوضح رزقو في تصريح لـ“العمق المغربي”، أن “ما جرى في هذه المنطقة المنسية والمهمشة التي لا تزال تعيش تحت وضع مأساوي ومتردي مؤسف جدا، وذلك بالرغم من سنوات النضال في كافة الميادين سواء في التعليم أو الصحة أو التشغيل أو البنية التحتية، خصوصا المستشفى الإقليمي زاكورة، الذي شهد عددا من الأحداث منذ سنوات إلى اليوم”، على حد قوله.
مستشفى زاكورة .. منشأة صحية أم مقبرة
وأبرز رئيس فرع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بزاكورة، أن “السبب في وقوع هذه الكوارث هو عدم وجود قسم الإنعاش بهذا المستشفى المقبرة، الذي تم تدشينه، وبقي بدون بطبيب أو طبيبة إنعاش والسبب يعرفه الجميع، فبالإضافة إلى قسم الإنعاش والتخدير هناك خصاص مهول في الموارد البشرية على مستوى تخصصات الطفولة والجراحة العامة والقلب والعيون وتخصصات ٱخرى كالطب العام، وخير دليل على هذا الخصاص، هو أن أغلب المستوصفات التابعة للإقليم مغلقة أو يوجد بها ممرض أو ممرضة في أحسن الأحوال”.
ودقّ المتحدث ذاته ناقوس الخطر حول معاناة ساكنة الإقليم جراء هذا الوضع الصحي المتردي، مضيفا أن “عددا من الجمعيات، بما فيها الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، سبق لها أن راسلت الجهات المسؤولة حول الموضوع، حيث قامت بمراسلة الوزارة الوصية، وبإحصائيات وأرقام مضبوطة، حول الخصاص المهول في الموارد البشرية و التجهيزات، وكل هذا يؤدي إلى معاناة هذه الساكنة المغلوبة على أمرها، بسبب هذه الوضعية، من جهة والفقر والهشاشة من جهة أخرى”.
وحمّل الحقوقي نفسه وزير الصحة والحماية الإجتماعية والكاتب العام ومدير الموارد البشرية بالوزارة، ومديرها الجهوي بجهة درعة تافيلالت مسؤولية هذا الوضع، معتبرا أن “هناك انتقائية في التعيينات، زد على ذلك القبول بإنتقال الأطباء، دون تعويضهم بأطباء ٱخرين، فعوض أين يبقى هؤلاء الأطباء المعينون بإقليم زاكورة في هذه المنطقة المهمشة والحدودية، يتم السماح لبعض المحظوظين منهم بالإنتقال الى مناطق كبرى تعرف إكتظاظا في الأطباء، حيث يستفيذ المركز على حساب الهامش”.
ولفت المصدر ضمن التصريح ذاته، إلى أن “هذه الوضعية المزرية تستدعي مقاربة قانونية تشمل سن قوانين تلزم الأطباء بالعمل لمدة معينة، بعد تعيينهم في هذه المناطق، مع إلزامهم بقضاء فترة معينة تحت إطار وزارة الصحة والحماية الإجتماعية، وهو الذي من شأنه أن يعمل على معالجة هذا الخصاص، سواء على المستوى المركزي والجهوي والإقليمي، وحتى المحلي”.
إلى ذلك، طالب رزقو القائمين على القطاع الصحي، بكافة مستوياتهم، بـ“وضع حد لهذا الإستهتار بحياة المواطنين، وتجوبد الخدمات الصحية الموجهة للمواطنين والمواطنات بإقليم زاكورة”، مع مطالبة عامل إقليم زاكورة بـ“التدخل العاجل والفوري، لوضع حد لهذه الفوضى العارمة، لإن وفاة هذه السيدة ماهو إلا النقطة التي أفاضت الكأس، أما ما يعانيه السكان طيلة أيام السنة فهو كثير جدا”.
اترك تعليقاً