السودان.. كعملة منهارة وإنتاج متوقف.. خريطة طريق لإنقاذ اقتصاد مستنزف

يمثل الإعلان عن تشكيل المجلس الرئاسي لحكومة السلام في السودان برئاسة الفريق أول محمد حمدان دقلو «حميدتي» محطة فارقة في مسار الأزمة الحالية في البلاد والتي طالت لسنوات بفعل النزاعات المسلحة والانقسامات السياسية، حيث أعاد شيئًا من الأمل إلى الشارع، واعتبرت خطوة أولى نحو إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس جديدة تتجاوز منطق الإقصاء والصراع، وتفتح الباب أمام مشاركة أوسع لمختلف القوى الاجتماعية والسياسية.
ويرى مراقبون أنه بتشكيل مجلس رئاسي لحكومة السلام من 15 عضواً يمثلون مختلف الأقاليم كضمانة للوحدة والمشاركة ومن بينهم حكام الأقاليم، في إطار رؤية تحالف تأسيس السودان الرامية إلى إقامة نظام لامركزي، سينعكس على تراجع ملحوظ في وتيرة العنف داخل عدد من المناطق، مما يسهم في توفير بيئة أكثر استقرارًا تسمح بعودة تدريجية للنازحين واللاجئين إلى مجتمعاتهم، وهذا التحسن سيتيح إطلاق عمليات إعادة الإعمار وتهيئة المناخ لجذب الاستثمارات الإقليمية والدولية.
وينظر العديد من المراقبين إلى أن دستور السودان 2025 الذي سيعمل المجلس الرئاسي لحكومة السلام على تنفيذ بنوده وفي مقدمتها إيقاف وإنهاء الحروب، وإحلال السلام العادل والمستدام وتأسيس الدولة السودانية على أسس جديدة، سيعطي فرصة أيضًا لإعادة هيكلة الاقتصاد السوداني المنهك، عبر تعزيز الشفافية في إدارة الموارد، وفتح قنوات تعاون جديدة مع مؤسسات التمويل الدولية.
وحددت الوثيقة الدستورية ثمانية أقاليم لإدارة البلاد، في إطار إعادة هيكلة الحكم وتوزيع السلطات على المستويات المختلفة، بهدف تحقيق المشاركة العادلة في السلطة والموارد وتعزيز الاستقرار السياسي في البلاد وبما يقود في النهاية إلى استعادة السودان سيطرته على اقتصاده بما يضمن تحقيق العدالة والإصلاح عبر إرساء حكم القانون والمصالحة عبر الإنصاف مجتمعيًا واقتصاديًا وإنهاء سياسة إفلات الفاسدين من العقاب.
كيف تبدو الأوضاع حاليًا؟
قبل الحديث عن أي توقعات سياسية أو اقتصادية للسودان لا بد من الوقوف أمام الأرقام التي تجسد الأوضاع في البلاد بعد نحو عامين ونصف العام من الحرب الدائرة بين الجيش وقوات تحالف تأسيس، حيث يؤكد تقرير البنك الدولي الخاص بالاقتصاد السوداني، الذي صدر في مايو الماضي، أن الحرب الدائرة أدت إلى أضرار جسيمة للبنى التحتية، ونزوح جماعي، وانكماش اقتصادي حاد، ودفعت المعارك اقتصاد البلاد إلى حافة الانهيار، وتقلص الناتج المحلي وأُخذت جميع مؤشرات التنمية إلى الخلف.
ويشير التقرير إلى أن استعجال وضع خطط إعادة الإعمار بات أمرًا ملحًا للحفاظ على ما تبقى من مؤسسات الدولة وتحقيق استقرار اقتصادي يجب أن يبدأ من الأساس، خصوصًا بعد أن انهار الناتج المحلي الإجمالي بصورة غير مسبوقة، مع توقعات تشير إلى انكماش اقتصادي قد يتجاوز ما بين 30% إلى 40% بنهاية العام الجاري في ظل استمرار النزاع وتضرر القطاعات الإنتاجية الحيوية.
ولعل بعض التحليلات الأكاديمية المرافقة لتقرير البنك الدولي تقول إن الاقتصاد السوداني قد يشهد انكماشًا بنحو 32% في السيناريو المعتدل أو يصل إلى 42% في سيناريو متطرف إذا استمرت الأزمة بلا تهدئة شاملة، وهذا الانكماش يسهم بشكل مباشر في انخفاض العائدات الحكومية السنوية، مما يقوض قدرة الدولة على تقديم الخدمات الأساسية، ويزيد الاعتماد على الدعم الخارجي.
وتعرضت القطاعات الإنتاجية لضرر شامل، فقد خرج أكثر من 60% من الأراضي الزراعية عن الخدمة، ما حرم المجتمع من مصدر أساسي للغذاء والدخل، وأصبح الاقتصاد الرسمي في وضع شبه توقف مع انهيار الإنتاج وتوقف الضرائب وتعطل الميزانيات الحكومية لعامي 2023 و2024.
وتراجع إنتاج الذهب وانخفضت موارد الدولة من نحو 18 طنًا سنويًا إلى نحو طن أو اثنين فقط عام 2025، وأثر ذلك على الإيرادات الوطنية. وبطبيعة الحال فإن هذه الخسائر البنيوية تؤثر على مستقبل السودان.
من هنا يشير تقرير البنك الدولي إلى ضرورة البدء في وضع أطر سياسية لتمويل إعادة الإعمار على أن تشمل استعادة الوظائف الإنتاجية عبر دعم الزراعة والصناعة وقطاعات الخدمات لإعادة دفع عجلة النمو، واستعادة الخدمات المدنية الأساسية مثل التعليم والصحة والمياه والطاقة، والاستفادة من تمويل المؤسسات الدولية، وتوطيد قاعدة ضريبية عادلة بعد الاستقرار، والأهم إشراك المجتمع المدني لضمان شفافية توزيع الموارد وتوجيهها إلى الفئات الأكثر تضررًا.
وقبل فترة وجيزة أيضًا، ظهر تقرير البنك الإفريقي للتنمية لعام 2025 ليرصد حالة الانهيار لمؤسسات الدولة، وتراجع أداء القطاعات الإنتاجية، والانكماش غير مسبوق في الناتج المحلي الإجمالي، إلى جانب نزوح الملايين وفقدان رأس المال البشري.
ففي تقييمه للوضع الاقتصادي الكلي للسودان، يقول التقرير إن السودان شهد انكماشًا يفوق 40% من الناتج المحلي الإجمالي بين 2023 و2025، وهو أحد أعمق الانكماشات في القارة الإفريقية، مرجعًا ذلك إلى شلل القطاعات الزراعية والصناعية، وانهيار التجارة الداخلية، وتعطل سلاسل الإمداد، فيما فقدت البلاد أكثر من نصف إيراداتها الضريبية وغير الضريبية، وارتفع العجز المالي إلى مستويات خطيرة.
وتجاوز معدل التضخم السنوي 300% في بعض الفترات، نتيجة انهيار العملة الوطنية (الجنيه السوداني) وتوسع السوق السوداء للعملات، وأدى هذا إلى فقدان الثقة في النظام النقدي، واتجاه المواطنين للاحتفاظ بالذهب أو العملات الأجنبية كملاذات آمنة.
وتزامن مع كل ذلك توقف الاستثمارات الأجنبية المباشرة بشكل شبه كامل، وفقدان المؤسسات التعليمية والصحية جزءًا كبيرًا من بنيتها الأساسية، مما سيؤثر طويلًا على الإنتاجية. وفي الوقت الذي يشكل القطاع الزراعي تقليديًا أكثر من 30% من الناتج المحلي، فإنه تعرض لخسائر جسيمة بسبب الحرب ونزوح المزارعين، وتراجع إنتاج محاصيل أساسية كالقمح والذرة والفول السوداني بنسبة تتجاوز 60%، ودُمرت أنظمة الري في ولايات الجزيرة وسنار، ما جعل استعادة الزراعة مكلفة وتحتاج إلى استثمارات ضخمة.
وعلى مستوى الصناعة فقد تضررت المصانع في الخرطوم ومدني وبورتسودان بشكل كبير، وتكاد تكون الصناعات الغذائية والنسيجية متوقفة تمامًا، وتوقف استخراج النفط في بعض الحقول أو خضوعه للسيطرة المتنازع عليها، ما أثر سلبًا على عائدات الدولة من العملة الصعبة.
وانهارت البنية التحتية للنقل والطرقات جزئيًا، وأصبحت حركة البضائع صعبة، وفقد المواطنون السودانيون الثقة في قطاع الخدمات، خاصة المالية والمصرفية، بسبب انهيار النظام البنكي.
سيناريوهات واحتياجات
أما عن السيناريوهات المستقبلية للنمو في السودان، يقول تقرير البنك الإفريقي للتنمية، إن السيناريو المتشائم يرتبط باستمرار الحرب إلى ما بعد 2025، مع تدهور أكبر للبنية التحتية، متوقعًا أن يبقى النمو سلبيًا (-10% إلى -15%) سنويًا، مع تضاعف معدلات الفقر وانهيار شبه كامل لمؤسسات الدولة.
ويتمثل السيناريو الأوسط في وقف إطلاق نار هش مع بقاء انقسامات سياسية عميقة، وفيها يتوقع البنك الإفريقي نموًا محدودًا (2% إلى 3%) خلال الفترة ما بين عامي 2026 و2028، لكن يتطلب الأمر دعمًا دوليًا قويًا لإعادة الخدمات الأساسية.
وما بين هذا وذاك، يظهر السيناريو المتفائل ويرتبط بنجاح مسار سياسي يفضي إلى حكومة انتقالية مستقرة نسبيًا، واستعادة بعض النشاط الزراعي والصناعي تدريجيًا، ونمو اقتصادي متوقع يتراوح بين 5% و6% خلال الفترة من عام 2027 إلى عام 2030، شريطة تدفق مساعدات خارجية وتمويلات استثمارية ضخمة.
إلا أنه وعلى رغم تلك السيناريوهات المختلفة تظل الفجوات التمويلية ثابتة – وفق البنك الإفريقي – بعد أن خسر السودان خلال الفترة من 2023 وحتى منتصف 2025 بما يزيد على 150 مليار دولار، وهذه الخسائر تشمل البنية التحتية المدمرة، والناتج المفقود، والأصول الخاصة والعامة المدمرة. وهناك تقارير أخرى تشير إلى أضعاف هذا الرقم.
ويحتاج السودان تمويلًا قصير الأجل يقدر بحوالي ما بين 10 إلى 12 مليار دولار ضرورية لإعادة الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه والصحة والتعليم. ولعل جزء كبير من هذا التمويل يجب أن يأتي من المانحين الدوليين، إذ إن السودان شبه عاجز عن جمع موارد محلية.
وتقدر احتياجات إعادة الإعمار الكاملة بما يتراوح بين 80 و100 مليار دولار خلال عقد كامل، حيث ستوجه هذه الأموال إلى إعادة تأهيل البنية التحتية من طرق وسكك حديدية ومطارات، وإعادة إعمار القطاع الزراعي من الري والمدخلات والدعم الفني، ودعم القطاع الصحي والتعليمي لضمان استعادة رأس المال البشري.
وسيكون السودان بحاجة إلى قروض ميسرة ومنح إنسانية وتنموية وشراكات بين القطاعين العام والخاص لجذب استثمارات في مجالات الطاقة والاتصالات، وإعفاء الديون المقدرة بأكثر من 60 مليار دولار، ولا يمكنه التعافي دون مبادرات لإعفاء أو إعادة هيكلة هذه الديون.
ولن يتحقق كل ذلك من دون التركيز على الاستثمار في الخدمات الأساسية والبنية التحتية وليس على مشروعات غير إنتاجية، مع ضرورة إصلاح النظام الضريبي والمالي لزيادة الإيرادات المحلية تدريجيًا ومحاربة الفساد، خصوصًا أن أكثر من 25 مليون سوداني بحاجة إلى مساعدات إنسانية عاجلة، ومعدلات الفقر مرتفعة إلى ما يتجاوز 70% من السكان، كما أن انهيار المنظومة التعليمية بات يهدد جيلًا كاملًا بفقدان فرص التعلم، ما سيؤثر على النمو طويل الأمد.
اترك تعليقاً