منوعات

اليحياوي يكتب..”في التكنولوجيا كحاضنة للديموقراطية”

ترتبط الديموقراطية عموما، فيما هو قائم وسائد وشائع، بطبيعة النظام السياسي، إذ عن طريقها يتم التمييز بين نظم سياسية ليبيرالية وأخرى شعبية كليانية، بين نظم تعتمد أسلوب التمثيلية المباشرة، وأخرى لا تلجأ إلى الأسلوب ذاته إلا جزئيا، أو لا تتعامل به في الجملة والتفصيل.

وبقدر ما تثار إشكالية الديموقراطية بارتباط وطبيعة النظام السياسي، فإنها تثار أيضا في شق ليس بالضرورة من طينة سياسية خالصة، عندما تعتبر السوسيولوجيا مثلا أن الديموقراطية ليست حتما “حالة سياسية”، بل هي بالأساس حالة اجتماعية، تتجاذبها مستويات أخرى محددة، لا مكانة أخرى في خضمها للبعد السياسي، إلا في كونه البعد الطاغي والمهيمن… لا المحدد نهاية المطاف.

ولئن كان الطرح الصائب، لفهم إشكالية الديموقراطية، يتمثل في استحضار أكثر من مستوى، فإن المثير حقا أن يتم ربط الديموقراطية بتقنية ما، أو يعمد إلى تذييلها بمستجد تكنولوجي، من قبيل المعلوماتية أو الاتصالات، أو السمعي- البصري، أو الشبكة، أو ما سواها.

لا يبدو أمر الربط هذا مجرد شغف بفورة تكنولوجية كبرى، اتسعت وبدأت تسائل مستويات “عليا” (كالسياسة والثقافة والفضاء العام، وغيرها). ولا يبدو الأمر أن لذات الربط خلفية إيديولوجية، من قبيل ما أسميناه في مناسبات عدة بـ”إيديولوجيا الاتصال”، بل يبدو ذلك على اعتبار أن التكنولوجيا إنما هي أيضا وسيلة من الوسائل الفعالة في تشكيل السلوك الفردي والوعي الجماعي، وفي صناعة تمثل الأفراد والجماعات لذواتهم، للمجتمع من حولهم وللعالم أيضا.

بالتالي، فالبعض لا يرى فيها فقط أداة اتصال وتواصل، بل وسيلة حقيقية، يضعون على محكها أطروحة الحق في التعبير، وحرية الاتصال، والحق في الإعلام والخبر، وأداة من أدوات تكريس، إذا لم تكن الديموقراطية المكتملة، فعلى الأقل المواطنة، باعتبارها مكمن واجبات الأفراد والضامن الأسمى لحقوقهم.

وعلى هذا الأساس، فالديموقراطية الرقمية المقصودة هنا، إنما هي العملية التي يتم من خلالها استوظاف الأدوات التكنولوجية (من تلفزيون، ومتعدد الأقطاب، وشبكات إلكترونية، وفي مقدمتها الإنترنيت وما تفرع عنها من مواقع إخبارية وشبكات اجتماعية) إما بغرض تجديد مضمون الممارسة الديموقراطية، أو بجهة توسيع فضائها ومجال فعلها، أو على خلفية من ضرورة إعادة تشكيل قواعد اللعبة القائمة عليها.

تتحدد الديموقراطية الرقمية، أو الديموقراطية الإلكترونية، أو ديموقراطية الشبكة، أو الديموقراطية الافتراضية، أو ما سواها من تعابير وعناوين جامعة، تتحدد بالقياس إلى الرافعة المادية، التي تؤثث الفضاء العام، الذي تعتمل فيه الممارسة الديموقراطية، والممارسة السياسية بوجه عام. البنية التحتية هنا هي المقياس والمعيار. ولما كانت كذلك، فإنها تحيل بالبداية وبالمحصلة، على تكنولوجيا الإعلام والمعلومات والاتصال، على مستوى العتاد والأجهزة والأدوات، باعتبارها البنية الحاملة، وعلى البيانات والمعطيات والمعلومات، باعتبارها المادة الخام التي تقتني البنية ذاتها، بغية الرواج والشيوع، والانتقال من الجهة المنتجة والمخزنة والباثة، إلى الجهة المتلقية، المعيدة للإنتاج أو المستهلكة له بهذا الشكل أو ذاك.

ولما كان من إحدى أسس الديموقراطية توافر المعلومة، وسريانها دون إكراهات أو عوائق، فإن توافر البنى الأساس لتوزيعها، بات أمرا حيويا لتوسيع الفعل السياسي، وإشراك الجماهير في مسلسلات اتخاذ القرار العمومي، لا سيما في ظل تراجع مد الديموقراطية التمثيلية التي لطالما أسست للخيط الناظم لذلك.

إن الشفافية والتعاون والتفاعلية هي المظاهر الكبرى التي تفترضها فلسفة الديموقراطية الرقمية، والتحولات التي تنشدها بغرض إخراج الديموقراطية التمثيلية من أزمتها، والمتمثلة في احتكار الفاعلين العموميين لمنظومة المعلومة. بالتالي، فتوافر المعلومة إنما بات قيمة ديموقراطية في حد ذاتها، من شأنها زعزعة مفهوم السلطة التمثيلية التقليدية، دونما حاجة إلى فعل مؤسساتي منظم. والمنتخبون لم يعودوا مطالبين بتملك هذه الأدوات، ولكن أيضا ضبط استعمالاتها واستخداماتها.

من هنا، فإن المدافعين عن الأنماط التقليدية لتنقل المعلومات، والمرتكزة على العمودية والتراتبية والمراقبة، إنما أضحوا في محك نمط جديد في الفعل السياسي، يتجاوز على مبدأي الأغلبية والتوافق، ويتيح لفاعلين جدد “على الهامش”، التأثير المباشر في الفعل ذاته. بالآن ذاته، فإن بروز وانتشار الشبكات الرقمية، خلص المعلومة من احتكار وسائل الإعلام التقليدية، ومن هيمنة المجموعات الإعلامية، التي كانت تسيطر على السوق عتادا ومضامين، أجهزة ومحتويات.

ثم إن الشبكات قد أغنت الفضاء العام، وأسهمت بالانتقال من مجتمع للاتصال، من خلال وسائل إعلام ذات توجه عمودي، إلى مجتمع للتواصل تفاعلي، أفقي، تشاركي، مكسرة بذلك ثنائية الإخبار والتواصل، وأيضا ثنائية الإعلام والشبكات، لدرجة تحول معها متلقي المعلومة ومستهلكها، إلى منتج للمضامين، بفضل البرامج والتطبيقات التي حملتها التقنيات الرقمية المتراكمة.

إن الخروج من اختزالية النمط التمثيلي، الذي لم يكن المواطن بموجبه إلا مجرد مصوت أو مراقب للسياسة عن بعد، هذا النمط بات في طريقه للتجاوز، ليس فقط بفعل التحولات التي طاولت الفضاء العام، ولكن أيضا لأن جدلية التكنولوجيا والمجتمع هي التي باتت تؤثث الفضاء ذاته، وتحول الفعل السياسي من طبيعته العمودية، الأبوية والجافة، إلى فعل سياسي قيمه الجديدة، التفاعلية والتشاركية والأفقية في التواصل.