نخبة “حداثية” انتهازية تستجدي الزوايا و”الصوفية”

لا زال كثير من المفكرين يندهشون أمام سلوك، وثقافة كثير من ممثلي النخب المغربية الغارقة في التناقضات. ولن يتمكن كل من يمتلك قدرة على تحكيم العقل أن يفهم ما يدور في زوايا غابرة وغائبة عن الفعل لتغيير المجتمع. يلاحظ كل متتبع لما يدور في فضاء طرق صوفية، التي تحولت إلى مؤسسات شبه رسمية، تلك المحاولات الاستفزازية، والمتلونة بسلوكيات انتهازية، والتي تريد أن تمتطي موجة الزوايا “المسماة صوفية” لكي تقوي حظها للحفاظ على كرسي في البرلمان، أو في مجلس وطني لحزب من أحزابنا غير الفاعلة في التنمية، وفي التحرر من مركب الثقافات الرجعية.
تجتاحني لحظات شك كبيرة في قدرة النخبة السائدة على تغيير مسار بلادي. أقرأ، بكثير من التهكم غير المصطنع، تلك التعابير المستفزة والمنافقة، التي تصاحب حضور الكثير منهم في مواسم، تسمى بالدينية، وهي للمهرجانات الموسيقية الشعبوية أقرب. يقفون، لمدة طويلة، أمام منصات الخطابة، وهم يثيرون الانتباه إلى المؤشرات الماكرو اقتصادية، ويتوسعون في شرح المعطيات الديمغرافية والاقتصادية، وآثارها على القرار السياسي. ويتحولون بقدرة قادر إلى مريدي طريقة، يقال إنها صوفية، وأعينهم تترصد الكاميرات لكي تصطاد لحظة خلف “سيدي فلان أو علان”. يقف هؤلاء الانتهازيون في كل الصفوف لكي يحضروا حفلاً بمناسبة وصول هبة ملكية لأتباع زاوية، ثم يلتحقون بركب رقص على إيقاع، يشبه جذبة غير متحكم فيها، من طرف من يحتاج إلى إيجاد توازن نفسي أو اجتماعي بعيداً عن هلوسات تحتاج للأطباء لشفاء العليل.
وتجدر الإشارة إلى أن أكبر المواسم يقترب بسرعة. يستعد ممتهنو الانتخابات للمشاركة في كل المواسم الدينية، والطرقية، وحتى لتلك التي تتعلق بفن العيطة والملحون وطرب الآلة. رأيت وجوهاً تتغنى بالحداثة، وتقف خلف قيادات الزوايا لكي تنال الرضى، في انتظار الإعلان عن نتائج الانتخابات. ولا أدري ما السر في تكاثر احتفالات الزوايا الكتانية والدرقاوية والقادرية البودشيشية، والشرقاوية والمشيشية وغيرها في هذه الفترة. لا يمكن أن نتدخل في رغبات هذه الزوايا في مجالات التأطير والتمويل والاستمرار في التواجد عبر أساليبهم، والتي لا تؤثر في مستوى النمو، ولا في تغيير أساليب الحكامة والتغيير الثقافي والسياسي والاجتماعي.
سيظل مشكل الزوايا والطرق الصوفية في بلادنا هو ضعفها في التأثير على تغيير السلوك المجتمعي، والتأثير في تخليق تدبير الاقتصاد والسياسة. أتذكر ذلك الحضور الباهت للزاوية البودشيشية في الأيام التي تلت مظاهرات 20 فبراير. أتذكر عشرات من المريدين يرددون دعاء لا يكاد يسمع. وأتذكر ذلك الخجل الذي كان يسود وجوه المشاركين في مظاهرة دعم مضامين خطاب 8 مارس الذي أعلن فيه الملك عن إصلاحات سياسية عميقة. وكان حضور كل الزوايا باهتاً في تلك الفترة التي شكلت منعطفاً كبيراً في كثير من دول الجوار، وخصوصاً في مصر وتونس وليبيا. اكتفت الزوايا بالجذبة وتلاوة الأذكار، خرج إخوة بن كيران إلى الميدان ليبصموا على بداية مرحلة من التدبير الحكومي استهلكت رأسمالهم السياسي في عشر سنوات. ولا يمكن الاعتماد على الزوايا والطرق الصوفية في تحقيق الفعل في الواقع. لقد أظهرت الطريقة القادرية البودشيشية أنها لا تعيش خارج تجاذبات أكثرها دنيوي ومتعلق بالقيادة، وبمتاع الدنيا الزائلة. التصوف يحتاج إلى اليقين والبحث المستمر عن صفاء الروح، والسياسة لا تحتاج إلا للتموقع والدفاع عن مصالح حزب، أو طبقة، أو فئة اجتماعية، أو رغبة شخص في تحقيق نزوة تقودها نفس “أمارة بالسوء” وشتان بين تدفق المال والوصول إلى مراحل “النفس اللوامة”، وإلى تلك التي تصل إلى مستوى “الراضية المرضية”.
التصوف لا يعفي الشيخ والمريد من السعي لجلب الرزق، وعدم الاعتماد على تضحيات الفقراء بما ينفقون، لكي يعيش الشيخ وعائلته في رغد، ولكي يستمتعوا بالسكن الراقي، والأسفار المكلفة، وضمان رفاهية لا يقدر عليها إلا “علية القوم” يود كل فقير حقيقي أن يعرف مصدر رزق شيوخ الطرق الصوفية. شاهد المغاربة كيف يقضي شيخ يسمى بالكركري وقته في يخت لا يمتلكه إلا البرجوازيون الكبار. كان فريد الدين عطاراً، وقيل إن الحلاج كبر في أسرة عاشت على موارد قليلة مصدرها حرفة صعبة. وبنى أبو العباس السبتي مؤسسة تضامنية لا زالت تدعم ذوي الحاجة إلى اليوم. فكفى من التقرب للزوايا لأغراض سياسية، وكفى من استغلال كرم ذوي النيات الحسنة. وما نراه اليوم من إقبال بعض الأطر، وفئات تنفق على بناء قصور تصبح ملكاً خاصاً، وتغذي حسابات بنكية باسم أسرة الشيخ، لا علاقة له بالصوفية التي لا تبغي في الأصل والمنتهى غير التقرب بتواضع من الحق سبحانه. التصوف أصبح، لدى البعض صنفاً من صنوف الفلكلور، والتميز بأصوات لا تفيد السمو بالأخلاق. عندما أرى تهافت البعض على التدفقات المالية للزوايا، وحاملي لباس المتصوفة، أزداد حباً لما قاله الحلاج حين أقسم قائلاً “والله ما طلعت شمس ولا غربت… إلا وحبك مقرون بأنفاسي….” إلى أن يقول في وسط صخب وضجة وجذبة.. “ديني لنفسي… ودين الناس للناس”. وكفى من الانتهازية يا نخبا ضحكت من ضعفها النخب الحقيقية.
اترك تعليقاً