وجهة نظر

الفرجة الكروية بالمغرب.. بين الاستيلاب الرياضي والتوظيف السياسي

يشهد المغرب ، منذ سنوات ظاهرة رياضية مثيرة للاهتمام ، تتمثل في إقبال شرائح واسعة من المجتمع المغربي على تتبع شبه يومي لجل المباريات الكروية المنقولة تلفزيا، خاصة مباريات الدوري الإسباني والإنجليزي ، والإيطالي ، والفرنسي ، بالإضافة إلى الدوري المغربي، وبعض الإقصائيات الكروية الدولية والقارية.

-الهوس الكروي

أصبح من المألوف أنه كلما مر المرء من أمام مقهى إلا ووجده غاصا بمتفرجين مشرئبين برؤوسهم ، كأن على رؤوسهم الطير ، يتتبعون باهتمام بالغ تمريرات اللاعب الظاهرة الأرجنتيني ميسي ، أو تسديدات النجم البرتغالي رولاندو، أو ومناورات كاكا وراموس وغيرهم من النجوم معلقين على هذا النجم الكروي أو ذاك ، أو يتحدثون على القيمة المالية الخيالية التي صرفت على استقدام هذا الفريق لهذا المهاجم أو ذاك المدافع ، لتتخلل هذه التعليقات انقضاض جماعي نتيجة تمريرة معينة ، أو سب أو لعن على خطأ هذا اللاعب أو ذاك ، أو صيحات جماعية مدوية تسمع من بعيد بعد تسجيل هدف من الأهداف.

في حين يلاحظ أن جل نقاشات أوسع الفئات الجماهيرية من مختلف الأعمار والجنس ، أصبحت تتمحور حول النجوم الرياضية ، خاصة الأوربية منها ، وبعض اللاعبين المغاربة كالعلودي ، وأيت العريف أو الراقي و بن عطية و غيرهم أو تجاذب الحديث عن أهداف النجم المصري صلاح….إذ يمكن أن تجد شابا ، أو تلميذا مغربيا يحفظ عن ظهر قلب سيرة ومسار لاعب معين وتنقلاته بين الفرق ، ويتذكر بشكل جيد الأهداف التي سجلها هذا اللاعب أو ذاك، والحصة التي ربح بها هذه الفريق أو ذاك ، في الوقت الذي قد يعرف بالكاد اسم هذا الوزير، سواء كان مغربيا أو أجنبيا ، أو اسم هذا المسؤول أو ذاك ، في حين يجهل تماما اسم هذا العالم أو ذاك ، و لا يتعرف على أعمال هذا الروائي أو تلك الأديبة أو الشاعرة …بينما يكاد لا يعرف من تاريخ المملكة سوى أسماء بعض الشخصيات من سلاطين وأمراء ….، وعادة ما يخلط بين الحقب السياسية التي عرفها تطور الدولة بالمغرب أو الأحداث الكبرى التي عرفها العالم.

-التعصب الكروي

بالإضافة إلى ظاهرة هذا الهوس الكروي ، فقد انتشرت ظاهرة التماهي مع مجريات الدوري الإسباني ، حيث انقسم جل هؤلاء المغاربة إلى متعصب للبارصا ، ومتعصب للأتلتيكو مدريد وذلك على غرار المتعصبين لفريق الرجاء والمتعصبين لغريمه فريق الوداد ، حيث غالبا ما تتحول التجمعات سواء في المقاهي ، أو على ناصية الدروب والأزقة ، أو في بعض أماكن العمل والإدارات إلى “نزالات كلامية” بين عشاق البارصا وبين عشاق الأتلتيكو . فقد اخترقت هذه الظاهرة ، التي كانت مقتصرة حتى حدود منتصف الثمانينيات من القرن الماضي على سكان شمال المغرب، ثم سكان الداخل ، لتنتشر في كل المدن الكبرى بالمغرب بما فيها الأقاليم الجنوبية . ويمكن عزو انتشار هذه الظاهرة إلى العولمة التكنولوجية والرقمية التي اكتسحت جل البيوت والمقاهي المغربية ، من خلال الفضائيات العربية والأوربية ،فقد شجعت هذه الأخيرة إقبال المغاربة على متابعة مختلف الدوريات الأوربية وعلى رأسها الدوري الكروي الإسباني . كما أن اكتساح الفضائيات الخاصة ، وتوزيعها لبطاقات المشاهدة بأثمنة جد مناسبة شجع بعض الشرائح على اقتناء هذه البطائق لتتبع جل أطوار الدوريات الأوربية . في حين أن قرصنة هذه البطائق من طرف (خبراء وتقنيي درب غلف)، قد ساهم بشكل كبير في إقبال أرباب المقاهي ، على اقتناء مثل هذه البطائق ، والتنافس على وضع الشاشات التلفزية الكبرى، لما يدره ذلك عليهم ذلك من أرباح بسبب إقبال الزبائن على متابعة مثل هذه المباريات التي أصبحت تنقل طيلة أيام الأسبوع ، و لم تعد مقتصرة فقط على نهاية الأسبوع .

– التكوير السياسي

يبدو أن هذا الهوس والتعصب الكرويين لم يكونا إلا عاملين مسرعين لهذه الظاهرة ، إذ أن السياسة التي اتبعت في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، والتي مازالت متواصلة لحد الآن ،قد ساهمت بشكل كبير في انتشار هذه الظاهرة . فقد استغل عشق المغاربة لكرة القدم ورغبتهم الدفينة في مشاهدة مباريات احترافية تحبل بغزارة الأهداف واللعب الجميل ،ليتم تخصيص مبالغ مهمة لنقل مباريات الدوري الفرنسي ، والإسباني ، التي كانت تنقل باللونين الأبيض والأسود في نهاية كل أسبوع، حيث كانت القناة التلفزة الوطنية تحتكر نقلها بشكل شبه مطلق في غياب الفضائيات . وبالتالي ، فقد حول المشاهد المغربي إلى مدمن كبير على مشاهدة وتتبع المباريات بشكل يثير التساؤل حول إذا ما كانت هناك إرادة سياسة مبيتة تريد( تكوير) رؤوس المغاربة وتسطيح فكرهم لإشغالهم وإلهائهم على التفكير في واقعهم اليومي والمشاكل المحيطة بهم ، والتي من أبرزها تعويد المغاربة على متابعة المباريات وهم قاعدون على الكراسي والمقاعد . إذ أن هذا القعود يكرس في الجسم الخمول ، في حين يعود العقل على الكسل الفكري وعدم الاهتمام إلا بالصور المتحركة التي تجسد قوة التسديدات ، وتسجيل الأهداف ، والتسابق على الكرة ، وهتافات الجماهير … وهذا بالطبع مما يزيد من التسطيح الفكري والاستيلاب السياسي.

فهذا التماهي مع فرق أجنبية والتعصب لها ، والانقسام بين متعصب للبارصا أو الأتلتيكوعلى سبيل المثال يكرس نفس الاستيلاب الذي كان يعاني منه سكان الشمال في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي ، حيث كانوا متحولين بفكرهم واهتماماتهم حول ما يدور في إسبانيا أكثر بما يدور في بلدهم ، الشيء الذي يمكن اعتباره كرد فعل منهم على إقصائهم من الاهتمام الرسمي وتركهم لقمة سائغة للتهميش والتهريب بكل أنواعه . فهذا الإدمان بشكل مرضي على متابعة الدوريات الكروية لا يعكس إلا رغبة من طرف السلطة في نشر نوع من التخدير الكروي الجماعي ، والتنفيس عن معاناة المغاربة اليومية نتيجة مثبطات الواقع اليومي ، بما في ذلك واقعهم الكروي والذي بلغ حضيضه من خلال الإقصاء المذل للمنتخب الوطني من أول إقصائيات كأس العالم في كرة القدم التي جرت بالقارة الإفريقية بعدما كان من الفرق العربية والإفريقية السباقة للمشاركة في هذه الإقصائيات ، وإقصائه من جديد في كان 2013 بجنوب إفريقيا بعد تعادلات مع كل من أنغولا ، والرأس الأخضر ، وجنوب إفريقيا البلد المنظم لهذه الإقصائيات .وعلى الرغم من تأهل الفريق الوطني بقيادة المدرب الفرنسي رونار لكأس العالم المنظم بروسيا في يونيو 2018 وما حصده من نتائج ، والتأهل للمربع الذهبي في مونديال قطر برئاسة المدرب المغربي وليد الركراكي ، فهذا لم يمنع من إخفاء الاختلالات التي ما زال يعاني منها الواقع الكروي بالمغرب وعلى رأسها عدم ترسيخ نظام الاحتراف الكروي خاصة فيما يتعلق بالتسيير بكل ما يخلف ذلك من تأرجح مستوى الأندية ، وضعف الفرجة الكروية مما حول أنظار الجماهير خاصة من الشباب إلى الادمان على تتبع مباريات الأندية الأجنبية ، ومتابعة إقصائيات ودوريات الفرق الأوربية خاصة الاسبانية و الفرنسية والانجليزية والإيطالية… مما يثير الاستغراب حول هذه القدرة الغريبة لدى الجماهير المغربية في تتبع كل هذه الدوريات طيلة أيام الأسبوع وفي مختلف أوقات اليوم نهارا أو ليلا ، والتساؤل عن الأسباب وراء هذه الظاهرة هل يرجع ذلك إلى الفراغ القاتل الذي يعاني منه جل الشباب في غياب نوادي ودور شباب وملاعب تمكنهم من تزجية هذا الوقت في هوايات مفيدة لأجسامهم وعقولهم أم يرجع ذلك إلى البطالة التي تنخر وتيرة حياتهم ، أم أن ذلك يعود إلى فراغ فكري وتكوير ذهني يجعلهم يتتبعون مسلسل هذه المباريات التي لا تنتهي على غرار تتبع جل المغربيات من فتيات وربات البيوت للكم الهائل من المسلسلات التركية ، والمكسيكية التي لا تنتهي….والتي انضاف إلى ذلك تتبعهن خلال السنين الأخيرة لمباريات كرة القدم بكل دورياتها الأجنبية والوطنية.

وكيفما كان الأمر، فإن هذا الإدمان الكروي في غياب تربية رياضية سليمة خاصة في أوساط القاصرين ، و تحول المجال الكروي إلى مجال للريع السياسي و التكالب المحموم حول الربح السريع بين مختلف مكونات النخب الاقتصادية والمالية ، قد أدى تدريجيا إلى استشراء ظاهرة التعصب الكروي التي حولت الملاعب إلى ساحة للاقتتال بين فئات مشجعي الفرق الوطنية ، الشيء الذي خلف عدة ضحايا من الشباب واليافعين ، وجعل السلطة تبحث جاهدة عن حلول لمواجهة هذا الوضع الذي أصبح مقلقا . فما حدث من شغب غير رياضي بملاعب في بركان ، وطنجة ، والدارالبيضاء ، وأكادير ، والجديدة …يعكس اختلالا اجتماعيا سواء في التنشئة الأسرية أو التعليمية أو الرياضية أو السياسية يتناقض بشكل كبير مع مقولة تردد عادة حول أن “العقل السليم في الجسم السليم” . إذ أن تخريب العقول من خلال تكويرها لن يؤدي إلا إلى أوضاع كارثية على المجتمع والدولة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *