منتدى العمق

الفقيه… مغربيا

عندما تسمع كلمة “الفقيه” لأول وهلة، عقلك الباطن يحيلك مباشرة إلى تمثلين إثنين، الأول للفقيه صاحب المكانة الرمزية و المرجعية الدينية، تلك الشخصية التي تلعب دورا هاما في تشكيل ثقافة المجتمع المغربي و هويته الدينية، أما الثاني فهو ل “السي الفقيه” المرتبط بقدرات الجلب و القبول، وصنع الأحجبة و البركة، المس إلخ ، حيث ان الأمر يعتبر شائكا و يجعل الكثيرين يخلطون بين الدور الحقيقي و الأصيل للفقيه، و بعض الممارسات الغير مقبولة و التي لا علاقة لها بالدين بالرغم من إقحام كلام الله فيها، بغية إعطاءها مصداقية أكثر و منح المقبل عليها ارتياحا أكبر.

و لطالما كان الفقيه في المجتمع المغربي ذو مكانة إجتماعية و دينية جد متميزة و مقدسة، حيث يعتبر حامل لكتاب الله، و غالبا ما كان يتم اللجوء إليه، من أجل الإستشارة في أمور دينية و دنيوية، و أيضا من أجل التحكيم و الوساطة و حل النزاعات…

كما أنه يساهم في عملية التعليم و نقل المعرفة عن طريق ” المسيد” أو الكتاتيب القرآنية، إضافة إلى اعتباره شخصا مباركا و شريفا، حيث يتم استدعاءه لحضور حفلات الخطبة و الزواج، الختان، العقيقة، صدقة ،تغسيل الميت، المقابر…زائد أنه شخص متميز أولا من خلال المظهر الخارجي و طبيعة هندامه، و ثانيا من حيث سلوكه الأخلاقي وسط مجتمعه.

هذا دون أن ننسى أن هناك فرق بين الفقيه داخل الوسط القروي و الحضري، في القرية حيث يوجد “فقيه الشرط” الذي يلعب دورا دينيا و تعليميا في نفس الآن، كما يتم التبرك من حضوره في مختلف الأنشطة و المناسبات، و له تأثير كبير في سكان القرية، نظرا لاعتماده على على التقاليد و الأعراف المحلية، و يميل للحفاظ عليها و دوره يبقى اكثر شمولا في الحياة الاجتماعية و تأثيره أكبر محليا، بالنظر إلى الكثافة السكانية ، و طبيعة الدواوير ومرجعية قاطنيها، كما أن أكثر الأسر تقود أبناءها للتعليم عند الفقيه أولا قبل المدرسة، و لازال له حضور كبير لدى الساكنة.

أما الفقيه بالمدينة غالبا ما يقتصر حضوره في المساجد و المؤسسات الدينية، و يظطلع بأدوار الإمامة أو إلقاء الخطب أيام الجمعة، و له حضور بدوره في المناسبات، كما أنه ممكن أن يكون أكثر تعليما و تأهيلا في مختلف العلوم الشرعية و يكون اكثر تخصصا، و منفتحا أكثر على الأفكار و المناهج الحديثة، لكنه في نفس الآن يحضى بمنافسة كبيرة من قبل مؤسسات إجتماعية أخرى، تجعل الكثير من سكان المدينة ينصرفون عن خدماته، مقارنة بالقرية و نظرا لطبيعة كل مجال و ثقافة ساكنيه.

الفقيه إذن مؤسسة مغربية عريقة، تستمد رمزيتها مما هو ديني و إجتماعي و ثقافي، و تتمسك بالحضورو الاستمرارية في الماضي و الحاضر، لكن مع التطور الحاصل والإنفتاح على التكنولوجيا و مواقع التواصل الاجتماعي، تم الإجهاز على السلطة الرمزية للفقيه، و أترث على دوره التقليدي، حيث أن المعلومة الدينية التي كان مصدرها الفقيه، أصبحت متاحة عبر الأنترنيت، أما فيما يخص التعليم لم يعد هناك إقبال على الكتاب أو المسيد كما كان الحال سابقا، حيث أصبح اللجوء إلى المدرسة ذو أولوية، اللهم في المدارس القرآنية، و فيما يتعلق بالوساطة و التحكيم و حل النزاعات، تراجع دوره في هذا الإطار و ذلك لتوجه أغلب المواطنين للقضاء، و هو ما جعل فئة عريضة من الفقهاء و العلماء يلجؤون إلى المنصات الرقمية من أجل بسط المعلومة، و نشرها بطريقة تلائم و تواكب العصر، في لفتة ذكية من بعضهم و لخلق تفاعل أكبر مع فئة الشباب، و هناك من بلغ درجات الشهرة في هذا الباب.

و في باب آخر بتنا نشهد نوعا من الميوعة إن صح التعبير، أو محاولة سلب شخصية الفقيه وقارها و مكانتها الإعتبارية، و هو ما نلحظه على منصة “التيك توك “مثلا، فتظهر لنا شخصيات المفروض فيها أنها تمثل الدين الإسلامي، بسلوكيات مشينة و تثير الإستهزاء والإستنقاص منها وتضعها في مواقف تجردها من مكانتها، هو ما يجعلنا نطرح سؤال هل نحن أمام محاولة لإفراغ مؤسسة الفقيه من محتواها و استلابها؟ أم أن الأمر عبارة عن تراكمات لأحداث سابقة ؟ جعلت لقب الفقيه مرتبطا بوقائع غير مقبولة أخلاقيا، خصوصا عندما يتعلق الأمر بإعتداءات جنسية أو التحرش و التورط في علاقات غير شرعية ، ناهيك عن بعض حالات الإنتحار في صفوف رجال الدين، بغض النظر ما إذا كان يتوفر في هؤلاء الأشخاص شرط الفقه و أصوله، لكن استغلال الصفة و توريطها في مجموعة من الأفعال رسخت لدى فئة كبيرة من المجتمع، أفكارو أحكام جاهزة قد تكون مغلوطة أو العكس، و هو ما عززته أيضا ثلة من الأمثلة الشعبية المغربية، والتي خصت شخصية الفقيه من قبيل:

-الفقيه دحمان قرا البرا سبع أيام، و قاليهوم الخط عيان.
-الفقيه اللي نتسناو بركتو دخل للجامع ببلغتو.
-الفقيه يدو فالدواية و عينو غمازة.
-قالوا للفقيه زردة ف بغداد، قاليهوم قريبة …

و معروف جدا التأثير العميق الذي تخلفه الامثال الشعبية، على إعتبار أنها مستمدة من تجارب سابقة و تترجم الوقائع و الأحداث الماضية، كلها عوامل ساهمت في غرس تلك النظرة الشائكة في شخصيته إجتماعيا.

*هل نستغني عن الفقيه؟ هل انتهى فعلا دور الفقيه كشرط ديني و إجتماعي و تاريخي؟

الدين يعتبر مسألة جد مهمة لدى أغلب المغاربة، فالإنسان كائن يصعب عليه الإنفصال عنه، لأنه يملأ الفراغ الروحي الذي يشعر به، و شرط أساسي لتقبل الأحداث و االنوائب التي تصيبه، لكنه بالمقابل هو في حاجة دائمة لفهم الدين أكثر و الإستفسار حوله، و يحتاج لإيجابات عن أسئلة ملحة، و لرجال الدين دور في المساعدة على الفهم و التوجيه.

فالفقيه كان و لا يزال القدوة، و هذا نابع من احترام المغاربة له على مر التاريخ، بالرغم من التحديات القائمة و التي تمسهم بشكل شخصي، و التي تساهم فيها وسائل الإعلام الرقمية، لكن يبقى حظوره مستمرا في مختلف مناحي الحياة، قد لا يكون كما كان الحال مع الأجيال السابقة، لكنه جزء من الهوية الدينية و المجتمعية المغربية، ليس من السهل تجاوزها أو تناسيها، سواء لكونه مصدرا أولا للقيم و التقاليد أو من ناحية تأثيره على الجانب السياسي و القانوني أيضا، زائد حظوره في الممارسات و الشعائر الدينية الثابتة، و بالتالي لا يمكن محو أو إلغاء شخصية الفقيه بكل حمولاتها الثقافية من المشهد الديني بالمجتمع المغربي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *