الثقة تبنى ولا تعطى ولا ديمقراطية بدون ديمقراطيين ولا سياسة بدون أخلاق

“فممارسات بعض المسؤولين المنتخبين، تدفع عددا من المواطنين، وخاصة الشباب، للعزوف عن الانخراط في العمل السياسي، وعن المشاركة في الانتخابات. لأنهم بكل بساطة، لا يثقون في الطبقة السياسية، ولأن بعض الفاعلين أفسدوا السياسة، وانحرفوا بها عن جوهرها النبيل… وإذا أصبح ملك المغرب غير مقتنع بالطريقة التي تمارس بها السياسة، ولا يثق في عدد من السياسيين، فماذا بقي للشعب؟” مقتطف من الخطاب الملكي السامي بمناسبة الذكرى 18 لعيد العرش المجيد.
بهذه الكلمات وبهذه الصراحة توجه صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله وأيده، في خطاب عيد العرش نهاية شهر يوليوز 2017 وفي غيره من المناسبات التي تكررت فيها النداءات والتوجيهات والتنبيهات لمختلف المؤسسات إلى ضرورة الاضطلاع بأدوارها بكل مسؤولية في خدمة الوطن وبناء جسور الثقة بينها وبين المواطنات والمواطنين.
وبهذه الكلمات من الخطاب السامي انطلقت شرارة مطالب “جيل Z” شهر شتنبر 2025 معبرة عن سخطها عن الأوضاع الاجتماعية وعدم ثقتها في المؤسسات وفي طرق تدبيرها، لا سيما التنفيذية والتمثيلية والحزبية منها، مخاطبة أعلى سلطة في البلاد ومناشدة تدخلها لتحقيق مطالب يشترك فيها جميع المغاربة بمختلف أجيالهم وتهم أساسا: التعليم، الصحة، الشغل، العدالة المجالية ومحاربة الفساد. فرغم كل ما تحقق من تقدم ومنجزات عبر ربوع المملكة وما يتم رصده من ميزانيات واعتمادات أو سنه من تشريعات، إلا أن الأثر على الحياة المعيشية لم يتحقق، والعدالة المجالية لا تزال بعيدة المنال في “مغرب يعيش بسرعتين”.
إن أزمة الثقة والشرخ بين المواطنات والمواطنين والمؤسسات التمثيلية والحزبية بلغت أقصاها في السنوات الأخيرة، لا سيما في أوساط الشباب. والحق يقال فلها ما يبررها، فمن جهة، فما تعرفه جل المؤسسات (الترابية، التشريعية أو التنفيذية…) من تراجع عن القيام بأدوارها، سواء بسبب انعدام الكفاءات أو تقصير المسؤولين أو انغماسهم في تضارب المصالح وتحقيق المآرب الشخصية أو تفشي الفساد والمحسوبية أو تنازلهم عن اختصاصاتهم أو بسبب بعض الحملات الإعلامية التبخيسية، رسخت الشعور بـ”الفراغ المؤسساتي” و”انعدام الجدوى” من تواجدها، خاصة وهي لا تؤدي وظائفها كما يجب في خدمة المواطنات والمواطنين وتيسير أغراضهم وتوفير سبل الحياة الكريمة لهم.
وهنا، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فحتى آليات الديمقراطية التشاركية كالهيئات الاستشارية بالمجالس الترابية، والتي كان من المفترض أن تشكل جسرا للتواصل وبناء الثقة، تم تعطيلها من طرف هذه الأخيرة. وهنا أنطلق من تجربة شخصية كعضو بمكتب الهيئة الاستشارية المختصة بدراسة القضايا المتعلقة باهتمامات الشباب بجهة الرباط سلا القنيطرة، والتي لا تعدو أن تكون مجرد حبر على ورق بالرغم من مناشداتنا المتكررة لأعضاء مكتب مجلس الجهة لتفعيل أدوار هذه الهيئات الثلاث، ولكن بدون أي تفاعل إيجابي، فيما مفاده غياب الإرادة والوعي السياسيين لدى هذه “النخب” بمفاهيم الديمقراطية والغاية من الهيئات الدستورية.
ومن جهة أخرى، فما نعيشه في المشهد السياسي الوطني في مجمله كفيل بتنفير المواطنات والمواطنين عن أي مشاركة عبر بوابة الأحزاب السياسية أو تنظيماتها. فمن ناحية، فبعض محاولات التحكم والتدخلات والإسقاطات التي عرفتها بعض الأحزاب، أو الصورة الإعلامية التي يتم تسويقها عن الفاعل السياسي، أو عدم تمكين هذه الهيئات من الموارد اللازمة لتسهيل عملها، ساهمت كلها في تبخيس دورها وتوسيع هذه الهوة. ومن ناحية ثانية، وللأسف — فلا بد من النقد الذاتي — فالفعل السياسي قد انسلخ عن كنهه وابتعد عن جوهره، حيث إنه، وباستثناء بعض ومضات الأمل هنا وهناك، لا تجد ميدانيا إلا الفراغ التنظيمي، ولا تجد إعلاميا إلا التنابز وتبادل التهم والحربائية في المواقف والتسابق نحو المصالح الشخصية والفئوية. فالمفروض في الأحزاب أن تبدع في صيغ الاستقطاب والتواصل الدائم وفتح الأبواب، وقبل هذا فالمفروض في الفاعل السياسي أن يتسلح بالأخلاق وبالنبل وأن يتنفس الديمقراطية قبل أن ينطقها، وأن يطبقها قبل أن يطالب بتطبيقها، فلا يعقل أن تجد الشخص يطالب بتمكين الشباب وهو يحاربهم، أو النساء وهو يحاربهن ما لم يعبروا(ن) عن ولائهم(ن) له أو يدخلوا(ن) في جبته وتحت مظلته التي يوزع في كنفها صكوك الوعود والحصص من “الغنائم”. فكل هذا كفيل بأن يجعل مجموعة من الطاقات والكفاءات الشابة لا تلج عالم السياسة أو تخرج منه بعد أن ولجته على أمل المساهمة في البناء والتغيير من داخل هذه المؤسسات، والتي لو وجدت فيها متنفسا وفضاء لائقا لما خرجت متبرئة منها، بل ومطالبة بحلها في شكل يهدد بعصف كل التراكمات التي حققتها البلاد في مسار ترسيخ مغرب المؤسسات والبناء الديمقراطي.
إن هذه الحركات الاحتجاجية التي خرجت معبرة عن سخطها وعن توسع أزمة الثقة، التي تكاد تصبح جينية لدى جميع الأجيال، تسائل جميع الفاعلين المؤسساتيين لإعادة التفكير في نمط التسيير والتفاعل والتدبير، لعلنا نقلص من الهوة بين المؤسسات والمواطنات والمواطنين، خاصة الشباب. هذا الشباب الذي أبان عن وعي سياسي كبير خلال خرجاته، هذا الشباب الذي يعطي ويبدع في عطائه لوطنه كلما أتيحت له الفرصة، وكلما أحس بالثقة والتقدير والاحترام والاستقلالية والحرية، وكلما أنصت لصدق الكلمات ولمس إخلاصها كما أكد على ذلك جلالة الملك بقوله: “… الشباب المغربي، متى توفرت له الظروف، وتسلح بالجد وبروح الوطنية، دائما ما يبهر العالم بإنجازات كبيرة وغير مسبوقة…”.
إننا اليوم، وكل من موقعه، مطالبون باستحضار دقة المرحلة والرهانات والطموحات الكبرى للتسريع من وتيرة التنمية حتى ينعم المواطنات والمواطنون بالحياة الكريمة في الحواضر كما في البوادي، وفي الأرياف كما في الجبال، ولن يتأتى ذلك إلا بالتسلح بروح المسؤولية والجدية كمذهب في الحياة والعمل، كما دعا لذلك صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله في خطابه بمناسبة الذكرى 24 لعيد العرش قائلا:
“… الجدية يجب أن تظل مذهبنا في الحياة والعمل، وأن تشمل جميع المجالات:
الجدية في الحياة السياسية والإدارية والقضائية: من خلال خدمة المواطن، واختيار الكفاءات المؤهلة، وتغليب المصالح العليا للوطن والمواطنين، والترفع عن المزايدات والحسابات الضيقة.
وفي المجال الاجتماعي، وخاصة قطاعات الصحة والتعليم والشغل والسكن.
كما أن الجدية التي نريدها، تعني أيضا الفاعلين الاقتصاديين، وقطاع الاستثمار والإنتاج والأعمال.
والجدية كمنهج متكامل تقتضي ربط ممارسة المسؤولية بالمحاسبة، وإشاعة قيم الحكامة والعمل والاستحقاق وتكافؤ الفرص.”
إنها معركة تحتاج رجة في مجموعة من السلوكيات السلبية التي تم التطبيع معها ومأسستها حتى أصبحت من المسلمات، إنها معركة المضي نحو مغرب الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، إنها معركة ضخ نفس جديد ورد الاعتبار لمغرب المؤسسات. إنها معركة إعادة بناء الثقة، فالثقة تبنى ولا تعطى، ولا ديمقراطية بدون ديمقراطيين، ولا سياسة بدون أخلاق.
اترك تعليقاً