محرقة القرن: غزة جرح في ضمير العالم.. الدم الذي لا يرى

بعد الإعلان عن وقف إطلاق النار، لا تعود غزة إلى الحياة، بل إلى ما يشبه ما بعد الحياة. الركام لا يفسح الطريق، والهواء لا يحمل سوى رائحة الموت المؤجل. في شوارعها التي كانت تنبض بالأطفال، لا يُسمع سوى صدى الصدمة، وفي وجوه من تبقّى، لا ترى إلا سؤالاً واحداً: “هل نحن أحياء؟ أم مجرد شهود على موتنا؟”
الناجون من المحرقة الفلسطينية لا يحتفلون بالهدنة، بل يتلمسون أطرافهم ليتأكدوا أنهم لم يفقدوا شيئاً آخر. يبحثون في الأنقاض عن صور، عن أسماء، عن أجزاء من ذاكرة. يرممون ما تبقى من منازلهم كما يرممون أرواحهم، ببطء، وبألم، وبلا ضمانات. فالغزّي لا ينجو، بل يُؤجل موته، ويُعيد تعريف الحياة كل مرة من نقطة الصفر.
ناجون يسترقون الحياة
في غزة، لا أحد ينجو حقاً الناجون ليسوا أحياءً بالمعنى الذي نعرفه، بل هم أشباح تمشي على الركام، تتنفس الغبار، وتُقنع أنفسها أن هذا النبض لا يزال يعني شيئاً. في غزة، النجاة ليست خلاصاً، بل لعنة طويلة الأمد. من نجا من القصف، لم ينجُ من الذكرى. من نجا من الموت، لم ينجُ من السؤال: لماذا بقيت أنا؟ الناجون في غزة لا يعيشون، بل يسترقون الحياة من بين أنقاض البيوت، من تحت صراخ الأطفال، من خلف جدران المستشفيات التي لم تعد تشبه شيئاً سوى المقابر.
كل صباح في غزة هو اختبار جديد للقدرة على التحمّل. كل مساء هو محاولة فاشلة للنسيان. الناجون لا ينامون، بل يغمضون أعينهم على صور لا تموت. يأكلون بصمت، لأن الطعم فقد معناه. يضحكون أحيانًا، لا لأنهم سعداء، بل لأنهم تعبوا من البكاء.
في غزة، الحياة ليست حقاً، بل فعل مقاومة يومي. والنجاة ليست امتيازاً، بل عبء ثقيل لا يُحمل إلا بالدموع.
في غزة، لا تُقاس الحياة بالأيام، بل بالانفجارات التي لم تقتلك، وبالأسماء التي لم تُمحَ من ذاكرتك بعد أن مُحيت من الوجود. الناجون لا يملكون رفاهية الحزن الكامل، لأنهم مشغولون بالبحث عن الماء، عن الخبز، عن شاحن هاتف، عن إشارة إنترنت تتيح لهم أن يقولوا للعالم: “نحن ما زلنا هنا، رغم أن كل شيء يقول إننا لا يجب أن نكون.”
الطفل الذي فقد عائلته لا يسأل عن المدرسة، بل يسأل: “هل سأموت الليلة؟” والأم التي نجت من القصف لا تبكي، بل ترتب بقايا البيت وكأنها تُعدّ مسرحًا لجنازة قادمة. في غزة، لا أحد يخطط للمستقبل، لأن المستقبل نفسه لا يجرؤ على دخول هذه الأرض.
الناجون في غزة لا يملكون لغة كافية لوصف ما يشعرون به. اللغة تنهار أمام مشهد طفل يُنتشل من تحت الركام، وأمام صوت رجل يصرخ في الفراغ لأن زوجته كانت تطبخ حين سقط الصاروخ. اللغة تخونهم، فيلجؤون إلى الصمت. لكن حتى الصمت في غزة ليس هادئًا، بل مشحونًا بكل ما لم يُقال، بكل ما لا يمكن قوله.
الناجون لا يطلبون شيئاً من العالم. لا يطلبون شفقة، ولا بيانات إدانة، ولا مؤتمرات صحفية. هم فقط يريدون أن يُتركوا وشأنهم، أن يُسمح لهم بأن يحزنوا، أن يُعترف بوجودهم ككائنات بشرية لها الحق في أن تحلم، أن تحب، أن تنام دون أن توقظها صفارات الإنذار.
لكن العالم لا يسمعهم. العالم مشغول بتبرير القتل، بتأويل الصور، بتوازنات السياسة. وغزة، بكل ما فيها من دم ودموع، تُختزل في خبر عاجل، في تغريدة، في رقم جديد يُضاف إلى قائمة الضحايا.
الناجون لا يعيشون، بل يواصلون البقاء
النجاة من محرقة غزة ليست انتصاراً، بل عبورٌ مشوّهٌ من موتٍ إلى موتٍ آخر. الناجون لا يخرجون من تحت الأنقاض، بل يحملونها معهم أينما ذهبوا. في أجسادهم ندوب لا تلتئم، وفي أرواحهم صمتٌ لا يُفسَّر. لا يسألون عن الغد، بل يحاولون فهم الأمس: كيف نجوا؟ ولماذا؟ وما الذي تبقّى منهم؟
سيبدأ الناجون رحلةً طويلةً من الترميم، لا لمنازلهم فقط، بل لهويتهم، لذاكرتهم، لصورتهم في المرآة. يفتشون في الركام عن شيء يشبههم، عن دليل أنهم كانوا هنا، عن اسمٍ لم يُمحَ بعد. بعضهم سيزرع وردةً في حديقةٍ لم تعد موجودة، كأنما يتحدى الخراب. البعض الآخر سيحدّق في الجدران المحطّمة، يحاول أن يتذكّر شكلها قبل أن تُهدم، قبل أن تُنسى.
الناجون لا يحتفلون بالهدنة، بل يتعلّمون كيف يتنفسون من جديد. كيف ينامون دون أن يصرخوا في نومهم. كيف يربّون أطفالاً دون أن يورثوهم الخوف. كيف يكتبون رسائل لا تبدأ بـ”نحن بخير، رغم كل شيء”. الناجون من الحروب لا يطلبون شيئاً، لأنهم يعرفون أن العالم لا يسمعهم. هم فقط يحاولون أن يظلوا واقفين، أن يظلوا بشراً، ولو من بعيد.
في غزة، لا أحد يخرج من تحت الأنقاض كما دخل. حتى من نجا بجسده، خرج بروح مثقوبة، بعينٍ لا ترى إلا ما فُقد، وبقلبٍ لا يعرف كيف ينبض دون أن يعتذر. الناجون لا يملكون ترف الحداد، لأن الموت لا يمنحهم وقتاً للبكاء، بل يمرّ سريعًا، يتركهم في فوضى من الأشلاء والذكريات، ثم يعود في اليوم التالي ليأخذ من تبقّى.
الناجون في غزة ينزفون، لكن ليس من جرحٍ ظاهر. ينزفون من الداخل، من أماكن لا تصلها الإسعافات، ولا تُسعفها بيانات الأمم المتحدة. ينزفون من سؤال طفل: “أين أبي؟” من صمت أمٍ تنظر إلى السماء وتهمس: “خذني ولا تأخذهم.” من صوت المؤذن الذي يرتفع فوق الركام، لا ليعلن وقت الصلاة، بل ليقول: “ما زلنا هنا، رغم كل شيء.”
الناجون في غزة لا يكتبون الشعر، لأن القصيدة تحتاج إلى مساحة من الأمل، وهم لا يملكون سوى مساحة من الرماد. لا يرسمون، لأن الألوان خانتهم، وصارت كلها رمادية. لا يغنّون، لأن الصوت صار مرادفاً للإنذار، ولأن كل لحنٍ جميل يُذكّرهم بمن رحل قبل أن يسمعه.
الناجون في غزة لا يطلبون شيئاً. لا يريدون أن يُنقذهم أحد، لأنهم يعرفون أن العالم لا ينقذ، بل يُراقب. يريدون فقط أن يُعترف بنزيفهم، أن يُقال عنهم إنهم بشر، لا أرقام، لا هامش، لا خلفية لصورة.
يريدون أن يُقال: في غزة، هناك من ينزف الحياة، لا ليعيش، بل ليُثبت أن الحياة لا تُمنح، بل تُنتزع من بين الموت.
غزة لا تموت، لأنها لا تعرف الاستسلام.
غزة ليست مدينةً فقط، بل معنىً حيٌّ للمقاومة، للكرامة، للعناد الجميل الذي لا ينكسر. كلما ظنّ العالم أنها انتهت، نهضت من تحت الركام، من بين الدماء، من بين الصمت الثقيل، وقالت: “أنا هنا، وسأبقى.” لا تُبنى غزة بالإسمنت وحده، بل تُبنى بأيدي أبنائها، بدموع أمهاتها، بصبر رجالها، وبضحكة طفلٍ يلعب فوق أنقاض بيته وكأنها حديقة.
غزة ليست مجرد مدينة محاصرة، بل روحٌ عصيّة على الانكسار، ذاكرةٌ جماعيةٌ لا تُمحى، وإرادةٌ تتجدد كلما حاول العالم دفنها. في كل بيتٍ تهدم، يولد وعدٌ جديد بالبناء. في كل شهيدٍ يُزف، تُزرع بذرةٌ للمقاومة. في كل طفلٍ ينجو، تُكتب صفحةٌ أخرى من قصة الحياة التي لا تنتهي. غزة لا تُقاس بعدد البيوت التي سُوّيت بالأرض، بل بعدد القلوب التي ما زالت تنبض فيها رغم كل شيء.
الناجون لا يكتفون بالحياة، بل يعيدون تشكيلها. يزرعون في الأرض التي احترقت، يعلّقون ستائر على نوافذ بلا زجاج، يكتبون أسماء الشهداء على الجدران كأنهم يحيونهم من جديد. كل بيت يُعاد بناؤه هو إعلانٌ بأن غزة لم تُهزم. كل مدرسة تُفتح من جديد هي وعدٌ بأن المعرفة ستنتصر على القصف. كل طفل يذهب إلى الصف رغم الخوف هو قصيدةٌ في وجه العالم تقول: “لن تنسونا، ولن ننسى أنفسنا.”
الناجون يخلقون من البقاء معنى. يرممون جدرانهم كما يرممون أرواحهم، يعلّمون أبناءهم أن الكرامة لا تُقصف، وأن الوطن ليس جغرافيا فقط، بل وجدانٌ يُحمل في القلب. يبنون مدارس من الخيام، ومكتبات من الذاكرة، ويرسمون على الجدران المحطّمة: “هنا كانت الحياة، وهنا ستعود.”
غزة ستعيش لأن أهلها قرروا أن يعيشوا. لأنهم لا ينتظرون المعجزات، بل يصنعونها. لأنهم لا يطلبون الشفقة، بل العدالة. لأنهم لا يهربون من الألم، بل يحوّلونه إلى طاقة، إلى بناء، إلى حلم. سيبنيها أبناؤها، حجراً حجراً، وذكرىً ذكرى، وسيكتبون: “هنا كانت المحرقة، وهنا بدأنا من جديد.”
سوف تحيا غزة، لأن الحياة فيها لا تُقهر، ولأن أهلها لا يستسلمون، ولأنهم قرروا أن يزرعوا الأمل في أرضٍ أُغرقت بالدم. لأنهم يعرفون أن البناء فعل مقاومة، وأن الحلم لا يُقصف. لأنهم لا ينتظرون من العالم أن ينقذهم، بل ينقذون أنفسهم كل يوم، بالحب، بالصبر، بالإيمان بأن الغد لهم. سيبنيها أبناؤها، لا بالحجارة فقط، بل بالحكايات، بالأغاني، بالقصائد التي تُكتب على دفاتر الأطفال وتُعلّق على أبواب البيوت العائدة من الموت.
غزة لا تموت، لأنها كلما اقتربت من النهاية، تبدأ من جديد. لأنها مدينةٌ لا تُهزم، لأنها شعبٌ لا يُنسى، لأنها جرحٌ مفتوحٌ في ضمير العالم، وصوتٌ لا يخفت مهما اشتد القصف. غزة ستعيش، لا لأن العالم يريد لها الحياة، بل لأن أهلها قرروا أن يصنعوها، أن يكتبوا فصولها، أن يورثوها لأبنائهم كأغلى ما يملكون: وطنٌ لا يُكسر، وحلمٌ لا يُنسى.
غزة أيقظت الأحرار، لا لتبكيهم، بل لتعيد تعريفهم.
غزة لم تكن مجرد جغرافيا تُقصف، بل مرآةٌ كاشفة للضمير الإنساني. كل صاروخ سقط على بيتٍ في الشجاعية أو رفح، سقط معه وهم الحياد، وسقطت معه أقنعة كثيرة. الأحرار في العالم لم يعودوا كما كانوا قبل غزة، لأن غزة علّمتهم أن الصمت خيانة، وأن الإنسانية لا تُقاس بعدد المؤتمرات، بل بعدد الأصوات التي ترتفع في وجه الظلم. غزة فعلت بالأحرار ما لا تفعله الكتب ولا الخطب: جعلتهم يرون الحقيقة عارية، دامية، ومقدّسة.
في كل صورة لطفلٍ تحت الأنقاض، في كل أمٍ تحتضن جثمان ابنها، في كل صوتٍ يصرخ من تحت الحصار، كان هناك من يستيقظ في أقصى الأرض ويقول: “أنا معكم.” لم تكن غزة بحاجة إلى جيوش، بل إلى قلوبٍ لا تخاف أن تنبض بالحق. فخرجت المظاهرات من شوارع باريس إلى أزقة كيب تاون، ومن الرباط إلى تطوان، ومن بيروت إلى نيويورك. وامتلأت الساحات بلافتاتٍ كُتب عليها: “غزة، نحن لا ننسى.” صار اسمها نشيداً في حلقات الشعر، وصورةً في معارض الفن، وصرخةً في وجوه الساسة المتواطئين.
غزة لم تطلب من الأحرار أن ينقذوها، بل أن ينقذوا أنفسهم من العار. أن يختاروا أن يكونوا بشراً في زمنٍ يُباع فيه كل شيء. فعلت بهم ما تفعله النار بالحديد: صهرتهم، شكّلتهم من جديد، وجعلتهم أكثر نقاءً، أكثر صدقاً، أكثر قدرةً على أن يقولوا “لا” في وجه الجريمة. غزة لم تكن ضحيةً فقط، بل معلّمةً عظيمةً في مدرسة الكرامة. وكل من سمع صوتها، تغيّر إلى الأبد.
أيها العالم، نحن لا نطلب منك أن تُنقذنا، فقد تعلّمنا أن النجاة لا تأتي من الخارج. نحن لا نرجوك أن تبكي علينا، فقد جفّت دموعنا قبل أن تلتفت إلينا. نحن فقط نطلب منك شيئاً واحداً: ن ترى.
أن ترى الطفل الذي يحمل أخاه الميت كأنما يحمل قلبه. أن ترى الأم التي تُرضع طفلها في خيمة، بينما صوت الطائرات يعلو فوق صوت الحليب. أن ترى الأب الذي يدفن عائلته بيديه، ثم يعود ليبحث عن رغيف خبز لمن تبقّى.
أيها العالم، كفّ عن عدّنا أرقاماً في تقاريرك. كفّ عن اختزالنا في “نزاع”، في “صراع”، في “تبادل نيران”. نحن لسنا هامشاً في نشرتك المسائية، نحن قلبٌ ينزف، ولا أحد يضمده.
نحن لا نطلب منك أن تحبنا، لكننا نطلب منك أن تتوقف عن تبرير قتلنا. أن تكفّ عن قول “لكن”، عن قول “تعقيدات”، عن قول “توازنات”. فلا شيء في هذا العالم يبرر أن يُقتل طفلٌ نائم، أن تُقصف مدرسة، أن يُدفن حيٌّ تحت بيته.
أيها العالم، إن كنت لا تستطيع أن تُنقذنا، فلا تكن جزءًا من موتنا. دعنا ننزف وحدنا، لكن لا تُصفّق للقاتل، لا تُبرّر الجريمة، لا تُغسّل يديك بدمنا وتقول: “لم نرَ شيئاً”.
إقامة نصب لضحايا محرقة غزة، لا ليُخلّد الموت، بل ليُعيد للإنسانية وجهها
في قلب العالم، حيث تُنسى الجرائم وتُمحى الذاكرة، يجب أن يبقى حجرٌ واحدٌ على الأقل يصرخ: “هنا كانت غزة، وهنا سقط الأبرياء.” النصب ليس مجرد بناء، بل ضميرٌ مجسّد، شهادةٌ لا تُمحى، وصرخةٌ في وجه النسيان. يجب أن يُقام نصبٌ لضحايا المحرقة الفلسطينية، لأنهم لم يُقتلوا فقط، بل أُريد لهم أن يُمحوا من التاريخ، من الصور، من السرديات الرسمية. والنصب هو فعل مقاومة ضد هذا المحو، ضد هذا التجاهل، ضد هذا الصمت العالمي الذي شارك في الجريمة.
يجب أن يُقام نصبٌ يحمل أسماء الأطفال الذين لم يكبروا، والأمهات اللواتي دفنّ أبناءهن بأيديهن، والبيوت التي تحوّلت إلى تراب. نصبٌ لا يطلب الشفقة، بل يطالب بالعدالة. نصبٌ لا يكتفي بالبكاء، بل يُجبر كل من يمرّ به أن يتوقف، أن يقرأ، أن يشعر، أن يسأل نفسه: كيف حدث هذا؟ ولماذا سُمح له أن يحدث؟ يجب أن يُقام نصبٌ في كل مدينةٍ حرّة، في كل ساحةٍ تنادي بالحق، ليكون شاهداً على أن غزة لم تكن مجرد خبرٍ عابر، بل جرحاً في قلب الإنسانية.
النصب هو وعدٌ بأننا لن ننسى. بأننا سنروي القصة كما هي، بلا تزييف، بلا تبرير، بلا خوف. هو مساحةٌ للحداد، وللحب، وللغضب، وللأمل. هو المكان الذي يذهب إليه الأحرار ليجددوا عهدهم مع الحقيقة، ومع الكرامة، ومع غزة التي لم تمت، ولن تموت. لأن من يُقتل ظلماً لا يُنسى، ومن يصمت أمام الجريمة شريكٌ فيها، ومن يُقيم نصباً للضحايا يُعيد للإنسانية بعضاً من وجهها المفقود.
اترك تعليقاً