أدب وفنون

لحسن زينون.. الطائر الراحل

من بين كل الطرق التي تؤدي إلى الإله، اختار لحسن زينون طريق الرقص والموسيقى.

وفي الزاوية الأكثر هدوءا من هذا العالم الصاخب، وقف على حافة الريح.

ترك الباب مفتوحا للأحلام وغادر.

عندما كان لحسن زينون لا يرقص، كان يقرأ، يكتب، يرسم، ينحت، أو يصنع فيلما. كان يستمد إلهامه من كل شيء حواليه، من كتابات عالمية، من موسيقى تقليدية تغمر وجدانه في ليالي الشتاء الباردة، ومن التأملات في الطبيعة، في وجه امرأة جميلة، وفي مظاهر الحياة الناعمة.

وكان ينزع إلى الحرية كما ينزع إلى البساطة، تاركا بينه وبين العالم مسافة آمنة.

في درب مولاي الشريف، بمدينة الدار البيضاء، ولد الراقص الحالم، والكوريغرافي الكبير، لحسن زينون عام 1944، وبدأ رحلته مع الفن في مجتمع تتعثر خطواته بين الحواجز الثقافية والاجتماعية، إلا أن إصراره على الرقص كان بمثابة ثورة هادئة، في وجه والده بادئ الأمر، الرجل السككي التقليدي المحافظ، الذي كان يوقف القطار متى نادى المؤذن، يصلي مطمئنًا، ثم يعود ليقود القطار ويواصل الرحلة، فلا شيء يعطّل السكة سوى موعد مع السماء، ثم أمام مجتمع يفخر برقصاته الجماعية، متحفظا على الرقص الفردي المعاصر، ربما بسبب عدم الفهم، أو بسبب الانتصار للقبيلة.

جسده كان صوته، وحركته كانت سؤاله الوجودي الدائم عن الهوية، عن الحرية، عن الفن الذي آمن به طليقا كغيمة، عابراً للحدود. وفي كل عمل، كان يترك توقيعه الخاص: لمسة من حنان، نظرة عميقة نحو المجهول، وصمتا يسبق الدهشة والفرح.

حين سافر إلى بلجيكا لدراسة الرقص الكلاسيكي، كان يبحث عن أفق أوسع لصقل موهبته، وعندما عاد إلى المغرب، حمل معه هذه الرؤية الجديدة. إذ كل حركة على المسرح هي نتيجة بحث طويل، استثمره في الاشتغال رفقة فنانين شعبيين “شيوخ وشيخات” لتصميم رقصات تراثية بروح عصرية تغني الرقص التقليدي وتجوب به المسارح وتثبت استعداده لمضاهاة رقصات عالمية والتماهي معها. وأذكر هنا كمثال، عرضه الشهير، “فرحة دكالة”.

غير أن هذا التجديد الذي حمله لحسن زينون في قلبه، لم يكن ليمرّ بهدوء.

فحين امتدت يدُه إلى التراث، ليمنحه حياةً جديدة، استيقظت في وجهه السلطةُ حاميةُ المقدّس. يروي زينون في كتابه “الحلم المحظور”، تلك اللحظة التي وجد فيها نفسه وجهاً لوجه أمام الملك الراحل الحسن الثاني، الذي صرخ في وجهه غاضباً، “أقسم بالله إن لمست التراث مرة أخرى، لرفعت دعوى قضائية ضدك…”.

لم يكن الأمر يتعلق بصفعة على الوجه كما روّجت الألسن.، لكن ما حدث كان أعنف من ذلك بكثير، صدامٌ رمزيّ بين رؤيتين، بين فنانٍ يرى في التراث جسداً قابلاً للرقص، وسلطانٍ يخاف عليه من الذوبان في الحداثة، لكنّ زينون، برهافته المعتادة، لم يجعل من الحادثة خصومة، بل قرأها كقدرٍ من أقدار الفن، إذ لا يولد الجمال إلا من الاحتكاك، ولا تنبثق الحرية إلا حين تُمسّ حدودها.

يقول زينون، “ومع مرور الزمن، أصبحت قادرا على أخذ المسافة والتأمل في أهمية هذا الحادث الذي وضعني في مواجهة غضب الحسن الثاني، والذي أثر عميقا في حياتي…”.

لكن زينون لم يتوقف عند الرقص، بل مدّ شغفه إلى السينما، هذه التجربة ستؤثر بشكل كبير على رؤيته الفنية، حيث وصف لاحقا بأنه واحد من أهم المبدعين الذين ساهموا في رفع مستوى السينما المغربية إلى الساحة الدولية. في أفلامه، “عود الورد”، “موشومة”، “Faux pas” ، “البيانو” وغيرها، تظهر المرأة دائمًا كشخصية معقدة، محملة بالتناقضات، لكنها ثابتة في بحثها عن الحرية والمعنى والأفق.

كان زينون يعبر بقلبه جسور العالم، محمولاً على أجنحة المجد، ليقدم عروضه بين الشرق والغرب، ويحفر اسمه في سجلات الرقص العالمي. رقصاته لم تتوقف عند خشبات المسارح، بل انصهرت مع ضوء الكاميرا، حيث صمم حركات لا تنسى في أفلام مثل،”الإغراء الأخير للسيد المسيح” لمارتن سكورسيزي، و”شاي في الصحراء” لبرناردو برتولوتشي، و”ظل فرعون” لسهيل بنبركة وغيرها.

منح العالم إيقاعاً جديداً حين أسس مع زوجته الفنانة الراقصة ميشال باريت مدرسة للرقص وفرقة “باليه – مسرح زينون”. إذ تفتحت على إيقاع خطواته الحالمة مواهب راقصين من بينهم ولداه، قيس، وشمس الدين الذي رحل باكرا، كغصن انكسر قبل أن يكتمل اخضراره.

كتابه “الحلم المحظور” كان آخر أعماله، سيرة ذاتية عن حياةٍ تشظّت بين جسد يرقص وحلم يرفض أن ينكسر. ستة فصول، ستة مرايا، طفولة تحت ظلال الاستعمار، عائلة عمالية، ووطن مثقل بالتاريخ..

الرقص؟ ليس حركة، يقول لحسن زينون، إنه مقاومة. كل خطوة ضوء، كل مشهد بين الأزقة والمسرح، بين المغرب والعالم، يظل الحلم حياً. محرّمًا. لكنه لا يموت.

وعلى الرغم من اتساع آفاقه، بقي لحسن زينون مخلصًا لجذوره، إلى أن أغمض عينيه للمرة الأخيرة في 16 يناير 2024، تاركا لمحبيه وأصدقائه ظلا ناعما على الأرض، وفراشة تحلق في الضوء.

الصورة بعدسة زليخة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *