محمد أمسكان.. العابر في الليل والنهار

يقف محمد أمسكان على الخط الفاصل بين عالمين، الفكر والثقافة، والشارع وصراخه. ليس غريبا أن تجده في زوايا ناد صغير ومبتذل، يجالس عاملا بسيطا، يستمع إلى حكاية عجوز تسرد قصتها للمرة الألف. أو ينظر للأطياف التي تعبر دون أن ينتبه إليها أحد.
عاشق يرمم الجدران المهدمة لذاكرة ثقافية مشتركة. يكتب عن المغاربة اليهود مثلا، وكأنه يكتب عن شجرة عائلته.
رأى محمد أمسكان النور في المدينة الحمراء عام 1962، وتلقى تعليمه الأولي هناك، قبل أن ينتقل إلى الدار البيضاء، حيث حصل على شهادة الباكالوريا بثانوية الإمام مالك، ثم إلى فرنسا لدراسة علم الاجتماع وتاريخ الفن. في باريس سيجد ضالته في المكتبات والمتاحف، وفي اللقاء مع الشاعر والكاتب الكبير محمد خير الدين.
وهناك سينشر أول مقال له عام 1989، عن فيلم «Carnets du Maroc» في مجلة «perspectives judio arabes».
فضل لاحقا العودة إلى الوطن، وتزامنت عودته إلى المغرب مع اندلاع الحرب على العراق. لا ينسى محمد أمسكان هذا التاريخ أبدا. وبعد عودته سينشر أولى مقالاته على صفحات مجلات “Le Libéral”، و”La Gazette du Tourisme”، و”Le Matin du Sahara”، ثم “La Gazette du Maroc”، ويشغتل حاليا مع مجلتي “Vision Homme” و”hallenge”.
ما يميز محمد أمسكان، بجانب موهبته الصحفية، هو رؤيته العميقة والمتفردة. يكتب وكأن الكلمات سكاكين تشق الظلام، يعيد تعريف ما هو مهم وما هو أقل أهمية، يتخطى حدود الصحافة التقليدية، ويجعل منها فضاء للبوح، للنقد، ولرسم ملامح مجتمع قد لا يشبهنا دائما.
أمسكان الكاتب الصحفي الذي أسهم في صيانة الذاكرة، وسكب الضوء على الأزقة الخلفية للهوية المغربية على امتداد عقود من العمل البحثي والكتابة الرصينة.
يربط بين الماضي والحاضر، كشاهدٍ عارف يسرد قصصًا تُعيد تشكيل الوعي الجماعي للمغاربة. هو ليس مجرد صحفي يكتب عن الفن التشكيلي، وعن التراث اليهودي المغربي، بل أمينًا على ذاكرتنا المشتركة، يغزل خيوط التعايش والتعدد في نسيج الهوية الوطنية دون عبث بحدود العلاقات والأشياء، وبلا أدنى تفريط في أعماق القضايا.
ببصيرة عميقة، وبلغة فرنسية أنيقة أقرب إلى سلاسة الماء في مجراه، صاغ أمسكان نصوصًا ومقالات وصفت بكونها شهادات تاريخية، وأفعال مقاومة ضد النسيان.
كتاباته تقود القارئ عبر زقاقٍ في الملاح القديم، أو إلى طقوس احتفالية في أعماق قرية معزولة، أو تتجول به في الأحياء المنسية في كازا بلانكا.
ورغم خلفيته الاجتماعية والعائلية المرتبطة بوالده “السعيد أمسكان”، المسؤول السياسي الحزبي المعروف، والوزير الأسبق، ظل محمد أمسكان متشبثًا بجذوره الأخرى الأكثر عمقًا، تلك التي يحاول أن يجذرها أكثر في أرض الثقافة والفكر. رفض الانتماء إلى السلطة أو إلى أي رمزية سياسية تقترب منها أو تحيل عليها، وفضّل أن يكون ابنًا حقيقيًا للكتب والباحثين والمثقفين. مؤمنا بما تصنعه الكلمة الصادقة والبحث الأمين.
ما يميز أمسكان ليس فقط موضوعاته، بل طريقته في تناولها، هو القادر على تحويل الحكايات اليومية إلى نصوص ومقالات عميقة، كما لو أنه يعيد كتابة التاريخ من وجهة نظر شخصية وإنسانية. وحضوره في الساحة الثقافية المغربية يعكس التزامًا نادرًا، إذ ليس هدفه توثيق الماضي فحسب، بل استخدامه كمنارة لحوار عابر للثقافات والأديان.
محمد أمسكان بهذا المعنى ليس مجرد صحفي ومؤلف لكتابين حول “الأغاني المغربية والمغاربية”، وكاتب باحث عابر أو هامشي، ومدير فني لعدد من المهرجانات الثقافية والمعارض الفنية، أو مخرج للوثائقي “بوحميد وجنون العيطة”، ومخرج مساهم في البرنامج التلفزيوني “في البال أغنية”، والوثائقي “تحليق النوارس”، اللذين بثا على القناة الأولى. إنه ذاكرة تمشي على قدمين، فالهوية، مهما كانت متشابكة، ومثقلة، ومتعددة، إلا أنها دائما ما تجد طريقها نحو شخص يحملها بعزة، يكتبها بنبض قلبه، ويمنحها للمستقبل كهدية ثمينة لا تشيخ.
يمتلك محمد أمسكان ذاكرة خصبة، لا تنسى شيئًا، كل شيء، عن الأشخاص ومساراتهم وحياتهم العامة والخاصة، وعن الأمكنة وتاريخها ومن مر منها، كل هذا بتفاصيل دقيقة وأخبار لا تجدها إلا عنده، وأحيانا تتشابك المعلومات وتضج في رأسه. ورغم الخوف من أن يغرق في بحرها يظل يجمع، يرتب، ويحيك من خيوط الحياة نسيجًا فريدًا، ولسان حاله يقول، “سَتُبدي لَكَ الأَيّامُ ما كُنتَ جاهِلاً** وَيَأتيكَ بِالأَخبارِ مَن لَم تُزَوِّدِ”.
وبالإضافة إلى ذاكرته الخصبة، وشغفه بالقراءة والكتابة، لا يتوقف أمسكان عن المشي أبدا، يمشي لساعات، وربما ليوم كامل، لا أحد يعرف متى يستيقظ ولا متى ينام في زمن العاصمة الغامض والمنفلت.
سأل الكاتب والشاعر حسن نجمي مرة، القاص الراحل ادريس الخوري عن كيف ينتقي شخصياته وكيف يختارها، فأجابه هذا الأخير، أختارها انطلاقا من شخصيات حقيقية، مركبة، معقدة، وملهمة، وكمثال ذكر له اسم وشخصية محمد أمسكان. الذي يحلق كطائر نادر في سماء رحبة حيث لا أحد يرفع عينيه عاليا كي يراه هناك.
الصورة بعدسة: عبد الحي الديوري
اترك تعليقاً