وجهة نظر

التخطيط الحضري ورهان التنمية المجالية

يعرف التخطيط الحضري كونه أسلوب للتفكير بالمستقبل و ظروفه ، فهو عبارة عن مجموعة من الدراسات التي تهدف إلى فهم واقع المدينة بكل تمظهراته ، بما يكفل تحقيق الأهداف المقررة مستقبلا ، لأن المدينة ليست كيانا ماديا يتكون من مباني و مرافق و طرق فقط ، بل هي إلى جانب كل ذلك كيان إجتماعي و ثقافي يشمل مؤسسات إجتماعية و ثقافية ، إذن فالتخطيط الحضري هو أهم إستراتيجية يتبناها صناع القرار لتوجيه البنيات الحضرية و ضبط توسعها و تحسين جودة الحياة بها قصد توزيع أفضل للأنشطة و الخدمات و تحقيق أقصى الفوائد للساكنة.

فدور المدينة أساسي لضمان التوازنات الاجتماعية والاقتصادية , لأن التحضر السريع غيرالمحكم والتضخم السكاني ، الذي عرفته المدن في النصف الأخير من القرن العشرين جر معه العديد من الرواسب السلبية،التيتتطلب تخطيطا معقلنا وشاملا لإعادة تنظيمها و لمعالجة مختلف الإختلالات التي تعاني منهاوذلك بتهيئتها لمختلف الاستعمالات السكنية والصناعية والمرافق العمومية الضرورية بالمدينة، كما أن غياب تصور واضح للمدينة المغربية، وضعف التخطيط الحضري،يعتبر من بين العواملالتي لم تمكن المجال الحضري من تبوء المكانة اللائقة به ، بل جعلته يتخبط في مجموعة من المظاهر العشوائية التي تسيء للمنظر العام للمدن و تخل بالدور الأساسي المنوط بها ، حيث ساهم التخطيط الحضري في إعادة التوازن لتوزيع التجهيزات والأنشطة داخل المدينة، وهم بالأساس ضبط توسع الأحياء ومنع الاستعمال العشوائي للأراضي ، وبالتالي فإن التخطيط الحضري يعتبر خطوة مهمة وضرورية لأي سياسة تنموية تهدف إلى تحقيق الرفاهية للإنسان ليس فقط عن طريق تشييد المباني وتخطيط أحياء الخدمات ، بل بإقامة البيئات السكنية الملائمة صحيا,إجتماعيا وإقتصاديا و بيئيا…

ومن أجل ذلك وضعت الدولة المغربية مجموعة من الوثائق لتقوم بهذا الدور تعرف بوثائق التعميرو التهيئة ( التصميم التوجيهي للتهيئة العمرانية – تصميم التهيئة – تصميم التنطيق …. ) ، لكن الإشكال الحقيقي الذي تعيشه المدن بالمغرب هو الفوضى الكبيرة في مجال التخطيط الحضري و التعمير حيث نجد كل مدينة لها تصميمها الخاص إنطلاقا من هندسة الواقع التي تفرض نفسها على الجميع ، فيكون المشرع و المنتخب و الإدارة بين مطرقة القانون و سندان الواقع و التوازنات الإجتماعية حيث يتيه الجميع بين واقع التخطيط الحضري و متطلبات التنمية ، في وضعية شاذة لا يمكن تخطيها إلا بتطبيق القانون وفق مقدار معين لينحواالجميع منحى التنمية المنشودة ،التي تتطلب مجهودا مضاعفا من جميع مكونات المجتمع التي تربطها علاقة بالمجال ، لأن الخاسر الأكبر من هذه الوضعية هو البلد و هو التوازن البيئي ، و بصفة عامة فهي أجيال المستقبل التي لن تجد غير الإسمنت المسلح أينما تولي وجهها في مستقبل الزمان.

وأمام هذا الواقع الذي يقوم التخطيط الحضري فيه على أسس سياسية، و ليس على أسس التهيئة، فإنه يصبح “أداة تهدئة قبل أن يكون أداة تهيئة” و أن التخطيط الحضري يتم داخل الحدود الإدارية، و ليسفي إطار تصورإستراتيجي للمدن، أو في مناطق الإنتاج وهذا يتجلى في الأولوية التي تحظى بها الاحياء الادارية و”الإهمال شبه التام لمجالات الإنتاج كالأحياء الصناعية “.كما أنه لا يجب أن تنحصر أدوارالتخطيط الحضري فقط في تحديد إستعمالات الأرض، و تحديد إتجاهات التوسع العمراني، بل أن يجعل منه أداة لتأهيل المدينة، من أجل تحقيق الأهداف المرجوة منه، المتمثلة في الرفع من إنتاجية و تنافسية المدينة، و تثمين الإمتيازات الترابية التي توفرها، ثم تحسين الوضع البيئي الذي من دونه لن تكون هناك أية جودة لحياة الساكنة ، وإصلاح الإختلالات التي تساهم في إضعاف جاذبية المدينة ، وتدعيم “التآزر” بين المجالاتالمكونة لها .

سأصوغ هنا مثالا حيا يجسد الإرتباط الحقيقي بين التنمية المجالية و التخطيط الحضري ، فالمنطقة الشمالية لسيدي البرنوصيالمحاذية للطريق الحضري السريع ،كانت عبارة عن ملعب ممتد سمي آنذاك ” بالجماعة” قرب شارع أحمد أهراس و مرتبط بشريط أخضر غير مرتب يمتد لغاية تراب مقاطعة عين السبع ، و كانت تلك المنطقة مهملة و لا يستفاد إلا من ملعبها الذي تستغله الأندية الكروية بسيدي البرنوصي مع ضياع كبير للوعاء العقاري النادر بمنطقة سيدي البرنوصي، هنا فطن صناع القرار بعمالة مقاطعات سيدي البرنوصي و مقاطعة سيدي البرنوصي بضرورة الإستفادة القصوى من المساحة المتوفرة حيث تمت إعادة تهيئة و تقسيم الفضاء المتوفر بشق طرق جديدة خلقت متنفسا للسير و الجولان بسيدي البرنوصي و خلقت مدخلا جديدا للحي يستجيب لمتطلبات حركة السير المتزايدة يوما عن يوم ، بالإضافة لهذا فقد ثم بناء مسجدو خلق فضاء تجاري للقرب بجواره، إستفاد منه الباعة الجائلون بسيدي البرنوصي بالإضافة لخلق فضاء ”ماكلتي” خاص بالأكل السريعة في إبداع فريد بتحويل أصحاب عربات الأكل السريعة من العشوائية للتنظيم و من الشتات للمراقبة و التتبع الصحي ، و كل هذا في قالب إيكولوجي ممتاز يتيح للساكنة إمكانية التنزه و الإستفادة من المساحات الخضراء المجاورة ، فقيمة هذا المشروع المتكامل تتجلى أولا في إعادة تقسيم الفضاء العام و الإستفادة القصوى من وعاءه العقاري ، و ثانيا في خلق بديل واقعي لحل مشكل الباعة الجائلين بسيدي البرنوصي ، و ثالثا خلق تنمية مستدامة و فرص شغل قارة لفئات كثيرة من الساكنة إستفادت من المشاريع المحدثة.

فمن هذا المثال الحي نرى أن التغيير بمدننا ممكن و الحلول موجودة و متاحة، ينبغي فقط أن تكون للفاعلين في التنمية والمجال الإرادة والعزم على محو الصورة السوداء التي يتسم بها مجال بعض مدننا ، فبمثل هذه المشاريع الطموحة و المتكاملة، و التي تتطلب توفر الكفايات الضرورية لبلورة مشاريع حضرية ترقى من خلالها المدينة إلى مستوى المشروع الحضري الإندماجي و المتكامل الأبعاد الذي يوفر الحلول الملائمة والمستديمة لإشكاليات التخطيط والتدبير الحضريين ومتابعة بناء تكتلات ذات قدرة تنافسية، وتأهيل مجالاتنا عبر تنمية محكمة التخطيط ومستديمة توافق بين الحداثة والإرتقاء بالهوية الوطنية وبالخصوصيات الجهوية والمحلية.
ـــــــــــ

نائب رئيس لجنة التعمير والبيئة بمقاطعة سيدي البرنوصي / باحث سلك الماستر في التهيئة الحضرية.