مجتمع

العيون.. صهاريج المياه تفضح هشاشة الخدمات وسط ضجيج “الكوبات” ومعاناة الساكنة

حين تطأ قدمك مدينة العيون، عاصمة الأقاليم الجنوبية للمملكة، سيلفتك فورا حجم التحول العمراني والتنمية التي شهدتها في سنوات قليلة. من شارع مكة إلى حديقة أم السعد وحديقة الطيور، مرورا بساحة المشور وشارع السمارة، تبدو المدينة كواجهة حضرية عصرية تنبض بالحياة. غير أن وراء هذا البريق، واقعا آخر يفرض نفسه بصوت محركات “الكوبات”، وهو الاسم الذي يطلقه السكان المحليون على صهاريج المياه التي تجوب الأزقة والأحياء، والتي تحولت من حل مؤقت لأزمة الماء إلى مشهد يومي مزمن يثير قلق الساكنة ويكشف اختلالات تدبيرية عميقة.

لم تعد هذه الشاحنات مجرد حل استثنائي لنقص طارئ في المياه، بل أضحت جزءا من المشهد اليومي، تجوب الشوارع والأزقة في أوقات يختارها أصحاب “الكوبات”، محدثة ضجيجا يقض مضاجع السكان وينتهك حقهم الأصيل في السكينة، وهو ما يثير التساؤل حول الإطار القانوني المنظم لهذا القطاع حول ما إذا كان أصحاب هذه الشاحنات يخضعون لدفتر تحملات يحدد مواقيت عملهم ومناطق تحركهم أم أن الأمر متروك للفوضى والعشوائية، في غياب تام لأي رقابة من الجهات المسؤولة التي يبدو أنها تغض الطرف عن هذه الممارسة التي أصبحت مصدرا رئيسيا لشكاوى المواطنين.

يعتبر مراقبون أن الانتشار المهول لـ “الكوبات” ليس مجرد خيار يلجأ إليه المواطن طواعية، بل هو دليل مباشر على عجز شبكة التزويد العمومية عن مواكبة التوسع العمراني والسكاني الذي تشهده المدينة. ويدفع هذا الوضع العديد من المراقبين للتساؤل حول ما إذا كان اهل العيون أمام ضعف في صبيب المياه، أم انقطاعات متكررة تدفع بالسكان قسرا إلى الاعتماد على هذه الحلول البديلة والمكلفة.

ولا يتوقف الأمر عند الإزعاج وشبهة قصور الخدمة العمومية، بل يمتد ليثقل كاهل المواطنين بعبء مالي إضافي. فالمستهلك يجد نفسه مجبرا على دفع فاتورتين؛ الأولى لخدمة عمومية قد لا تفي بالغرض، والثانية لمياه الشاحنات ذات التكلفة المحررة من أي سقف أو مراقبة. وهذا يفتح الباب على مصراعيه أمام تساؤل أكثر خطورة يتعلق بالسلامة الصحية: من يضمن أن هذه المياه الموزعة عبر صهاريج قد لا تخضع دائما لمعايير النظافة المطلوبة، صالحة للشرب وتطابق مواصفات الجودة؟ وهل هناك مراقبة صحية دورية على مصادر هذه المياه والشاحنات التي تنقلها؟

وتزيد فوضى الأسعار من معاناة المستهلك، ففي غياب أي تقنين أو آلية مراقبة، يترك تحديد سعر صهريج الماء للمضاربة وقانون العرض والطلب، مما يفتح الباب واسعا أمام استغلال حاجة المواطنين، خاصة في أوقات ذروة الطلب خلال فصل الصيف أو عند تسجيل انقطاعات في الشبكة العمومية، كما حدث في فترات سابقة. هذا الوضع يحول خدمة أساسية كالحصول على الماء إلى سلعة خاضعة للمساومة والمزاجية، بعيدا عن أي حماية للمستهلك.

وتعليقا على هذا الموضوع، كشف عبد الناصر المويسي، رئيس الجمعية المغربية لحماية المستهلك، في تصريح لجريدة “العمق المغربي” عن قلقه البالغ إزاء هذه الظاهرة، معتبرا أن الطريقة التي يتم بها نقل وتوزيع هذه المادة الحيوية تعرض صحة وسلامة المستهلكين لمخاطر متعددة.

وأوضح لميسي أن الانعكاسات السلبية لهذه الظاهرة محفوفة بالمخاطر، بدءا من عدم ضمان نظافة وتعقيم العديد من الصهاريج بالطرق العلمية الصحيحة، مما يجعلها بيئة خصبة لنمو البكتيريا والطحالب ونقل الملوثات، مرورا بخطر تلوث المياه بالمواد الكيميائية الضارة الصادرة عن الخزانات غير الملائمة.

وأكد المصدر ذاته أن غياب الرقابة الصحية المنتظمة على مصادر المياه، والتي غالبا ما تكون آبارا، يجعل من المستحيل التأكد من مطابقتها للمعايير الصحية وخلوها من الميكروبات، كما يفتح الباب أمام الغش التجاري عبر بيع مياه من مصادر غير معتمدة وغير صالحة للاستهلاك.

وأعلنت الجمعية أنها باشرت إجراءات ملموسة لمواجهة هذا الوضع، حيث قامت بإطلاق حملات توعوية ووجهت مراسلات رسمية إلى جماعة العيون ووالي الجهة بهدف تشديد الرقابة على صهاريج المياه والحد من الممارسات التي تهدد سلامة المواطنين، مؤكدة أن صحة الأسر خط أحمر.

وأشار رئيس الجمعية إلى أنها توصلت بشكاوى متكررة من سكان أحياء عدة كالدويرات والنهضة والراحة ولابوركو، بخصوص الضوضاء الناتجة عن حركة الشاحنات في أوقات الراحة ليلا، معتبرا أن ذلك يستدعي تدخلا عاجلا من السلطات.

واعتبرت الجمعية أن الاعتماد المتزايد على الشاحنات يكشف عن حاجة ماسة لتحسين الخدمة العمومية التي تعاني من انقطاعات مستمرة، خصوصا في المناسبات وفصل الصيف، مما يستدعي تضافر الجهود لتقوية البنية التحتية.

وأضاف المصدر أن تكلفة شراء المياه من الشاحنات تشكل عبئا ماليا إضافيا على الأسر التي تجد نفسها مضطرة لدفع فاتورة مزدوجة، داعيا إلى مراجعة نمط التمويل العمومي لقطاع الماء وتقديم دعم أكبر للفئات الهشة.

وطالبت الجمعية السلطات المحلية بتكثيف حملات التفتيش المفاجئة، وفرض نظام تراخيص إلزامي بشروط صحية وفنية دقيقة، مع سحب عينات دورية من المياه لتحليلها وتطبيق عقوبات رادعة بحق المخالفين.

وثمن رئيس الجمعية ضمن تصريحه الجهود المبذولة، موجها نداء لتعزيزها وتنظيم عمل ناقلي المياه بما يضمن حقوق الجميع، كما حث المواطنين على توخي الحذر والإبلاغ عن أي حالة اشتباه، مؤكدا أن الجمعية ستظل يقظة وتعمل مع السلطات لمراقبة هذه الظاهرة.

وفي انتظار تدخل الجهات المعنية لوضع حد لهذه الفوضى وضمان حق المواطن في خدمة عمومية فعالة ومياه سليمة وبيئة هادئة، يظل السؤال قائما: إلى متى ستبقى “الكوبات” الحل الصاخب لمشكلة صامتة في مدينة تنافس المدن الكبرى في بنياتها التحتية؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *