وجهة نظر

من رعب الخيمة إلى أمان الضمير.. حكاية إنسان غزة

حين تغيب الجدران وتنهار السلطة، أي قانون يحكم البشر؟ هل هي شريعة الغاب؟ أم أن هناك قوة خفية تحفظ المجتمع؟ هذا هو السؤال الذي طرحته على نفسي، وأنا أستعد لقضاء ليلتي الأولى في خيمة بلا أبواب، بلا جدران، وبلا حمام، لا تقي بردًا ولا ترد لصًا.

في تلك الليلة اجتاحني شعورٌ الخوف وأنا أتمدد على أرضٍ الخيمة الباردة، تساءلتُ في هلعٍ صامت: كيف سأحمل صغيرتي في هذا الصقيع إلى مكان قضاء الحاجة في العراء؟ كانت أصوات الكلاب تحيط بنا من كل جانب، يفصلنا عنها “شادر” قماشي أهون من خيط العنكبوت.

يمكنني القول أنّ النوم في العراء داخل خيمة هو قصة رعب حقيقية؛ فلا شيء يحمينا من وحشٍ ضال، ولا من مجرمٍ عابر. كيف نأمن على أنفسنا في هذا المكان؟ فلم تغمض لي عينٌ في تلك الليلة، وظل الخوف سميري حتى الفجر.

لكن الإنسان كائنٌ عجيب، فمع مرور الوقت، اعتدت، بل أصبحت أنام؛ لأني اكتشفت سرًا عميقًا: شعبنا، رغم الحرب والفوضى المطبقة، لا يزال يتمسك بأخلاقه ونخوته. أصبح ذلك الساتر القماشي الهش يعمل عمل الباب الفولاذي، ليس لأنه منيع، بل لأن هناك ضميرًا حيًا وقيمًا مجتمعية ودينية أصيلة تمنع انتهاك الحرمات.

ففي هذه الخيام يتزوج العرسان، وينجبون أطفالًا، ويأمنون على أنفسهم. نعم، يأمنون خلف ساتر قماشي يمكن لأي مقصٍ أو سكين أن يشقه في لحظة. لكن هذا لا يحدث. وإذا تحدثنا عن الاستحمام، فتلك حكاية أخرى مرعبة. كيف لنا أن نستحم ويحيط بنا قماش، والمخيم كله يعلم أن خلف هذا القماش جسدًا يتعرى؟ في البداية، كنت أسرع الخطى وقلبي يدق خوفًا من أن يقترب أحدهم، فلو دُفع الباب القماشي، لسقط. لكن شيئًا من هذا لم يقع قط، لوجود نخوة متأصلة عند الفلسطيني في غزة. هذه التجربة، بكل قسوتها وانعدام خصوصيتها، أكدت لي أصالة معدن الإنسان هنا.

هذا الصمود الأخلاقي في غياب السلطة دفعني للتساؤل بعمق: كيف لا تنهار مجتمعاتنا مع غياب الدولة؟ فقد تعلمنا في بطون الكتب أن “العقد الاجتماعي” وُلد من رحم الخوف، وأن البشر تنازلوا عن حريتهم المطلقة لهيئة حاكمة حتى لا يأكل قويهم ضعيفهم. المنطق إذن يقول إن غياب هذه السلطة هو دعوة صريحة لشريعة الغاب.

وفي حالتنا، فإن رأس السلطة الرسمية “حكومة حماس” مطاردٌ بالنار. فكان من المتوقع أن تغرق مخيماتنا في فوضى عارمة، وأن تتحول إلى ساحات للنهب والجريمة، كما يحصل عندما ينقطع التيار الكهربائي لساعة في الغرب المتحضر.

لكن ما حدث كان أعجب من الخيال؛ لقد تراجعت كل محاولات بث الفوضى في المناطق المأهولة بالغزيين تحت سلطة الضمير الجمعي، وظل اللصوص على أطراف المشهد، لا يجرؤون على ارتكاب جرائمهم إلا حيث تطأ قدم المحتل، فعندما تصدر أوامر الإخلاء وينزح الغزيون تحت النار يتقدم اللصوص والعملاء لنهب البيوت والممتلكات العامة تحت حماية الاحتلال، وكذلك في مناطق الاحتياج البري يُخبأ اللصوص مسروقاتهم ويقيمون أوكارهم تحت حماية الاحتلال.

هذه الحرب لم تكن مجرد زمنٍ عابر، بل كانت يد الصائغ التي أعادت تشكيلنا. لقد صقلت أرواحنا، وأزالت عن أعيننا غشاوة الأيام العادية، فصرنا نرى معادن البشر عاريةً كما هي. لم نعد نتذكر طعم السعادة القديمة، لأننا نتذوق الآن، في كل يوم، طعم البقاء المرّ والمقدس. لم تعد النهاية هي السؤال، بل كيف نحيا بما تبقى من إنسانيتنا حتى النهاية.

هكذا، في عراء الخيمة، وجدنا سِترًا لم تمنحه لنا جدرانُنا الإسمنتية.

لا تبكوا علينا، بل ربما ابكوا على عالمٍ يحتاج أقفالًا فولاذية ليأمن فيه الجار جاره. أماننا، وإن كان قماشيًا، فهو منسوج بالثقة… وهي عملة يبدو أنها أصبحت نادرة في زمانكم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *