منوعات

بويخف يكتب..”الأصالة” الزائفة لا يمكن استدامتها إلا بالتحكم

 “الحقيقي نادر”، هذا هو الشعار الجديد الذي اعتمده منتجو الألماس في العلم الجمعة الماضية (3يونيو)، فيما أصرت الشركة الرئيسية المنتجة للألماس على استعمال شعار “الألماس للأبد” الذي كان معتمدا مند أزيد من 50 سنة.

والمقارنة بين الشعارين على مستوى القوة التسويقية بينهما تظهر أن شعار “الحقيقي نادر” يحمل قيمة تسويقية أقوى، إذ أن الكلمتين، وإن كانتا لا تذكران الألماس بالإسم المباشر، غير أنهما تختزلان قيمتين تسويقيتين عظيمتين.

القيمة الأولى هي “الحقيقي”، وتعني الأصيل، وهي قيمة تتصدر فطريا سلم الأولويات لدى الإنسان، حتى أنها تشكل روح ديناميكية البحث عن الجودة، سواء تعلق الأمر بالعلاقات، أو بالسلع والخدمات وغير ذلك. وتتجاوز قيمة “الحقيقي” مقابلة الألماس بغيره من النفائس إلى معيار موضوعي للاختيار بين مكونات عالم الألماس نفسه، بصفته على رأس تلك النفائس. ولا شك أن قوة قيمة “الحقيقي” تكمن في أنها قيمة مجردة تتأسس على معايير موضوعية لا ترتبط بموجود محدد، بل بشروط لا تتعلق بأساسات الوجود فقط بل بالنشأة أيضا. وفي هذا المستوى يختلف “الحقيقي” عن “المستنسخ” مهما تطابقا في المظهر، بل وأيضا في المخبر إذا هما اختلفا في المنشأ. فمثلا لا يكفي تقليد العسل الأصيل، الذي تنتجه النحلة من مصادره الطبيعية، بمجرد إنتاج مادة تشبهه في اللون والتركيب، إذ أن “المنشأ” قيمة مستقلة لها خصوصية مميزة. كما أن لها وقعا معياريا خاصا في النفوس يفسر الاستعداد الفطرية لتقبل “الثمن” الغالي للشيء الأصيل.

لكن ما “الحقيقي”؟

قيمة “الحقيقي” لا تكتسب بمجرد أن تطلق على الشيء، بل لتوفر ذلك الشيء على شروط ومعايير من دونها يعتبر نعته بالحقيقي مجرد ادعاء أو تزوير. فمثال العسل الأصيل يفرض شروطا على 3 مستويات: مستوى التركيب ، إذ أن العسل الأصيل (الحر) له تركيبه الذي يميزه. لكن لا يكفي توفر هذا التركيب للحديث عن العسل الأصيل بل لا بد من شرطين آخرين، الأول هو الفاعل في الإنتاج وهو النحلة، وليس الآلة، لكن هذا الشرط أيضا لا يكفي إذ أن النحلة قد تتغذى من السكر الذي يقدم لها، فتنتج عسلا لا يصف أبدا ضمن العسل الأصيل بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل لا بد أن يكون غذاء النحلة طبيعيا، أي من الزهرة. وحين تجتمع هذه الشروط نكون بصدد عسل أصيل. ووسط العسل الأصيل يكون تفاضل آخر لا يتعلق بالأصالة في حد ذاتها، بل بنوع المصدر الطبيعي الذي تغذت عليه النحلة (الزعتر، الليمون، اللوز، …).

إن الاهتمام بتحديد شروط ومعايير “الحقيقي” هو المدخل الحيوي لاعتماد “الأصالة” كقيمة فضلى في الحياة الخاصة والعامة.
ومن المهم مثلا، وعلى سبيل التطبيق، طرح سؤال ما هو الحزب الحقيقي؟

قد لا تختلف شروط الحديث عن حزب حقيقي عن تلك التي أشرنا إليها في الحديث عن أي منتوج حقيقي، مثل العسل:
فعلى مستوى تركيبة الحزب من حيث البشر والأهداف: مناضلون مستقلون أم انتهازيون مسخرون؟ خدمة الوطن والصالح العام، أم خدمة أجندات داخلية أو خارجية تتخفى وراء الحزب لممارسة التحكم؟ …

وعلى مستوى مصدر صناعة ذلك التركيب وطريقتها: الاختيار الحر للأشخاص، أم الإكراه والابتزاز وتغذية الأطماع؟ بالديمقراطية والنزاهة والشفافية، أم بالتزوير والكولسة والتحكم؟

وعلى مستوى الفاعل الذي ركب الحزب وصنعه وسهر على إخراجه ورعايته: هل هم أعضاؤه الأحرار؟ أم السلطة و المال؟
المعايير السالفة الذكر تعتبر الحد الأدنى الضروري للحديث عن حزب حقيقي أو أصيل، وحين تختل تلك المعايير أو بعضها، لا يمكن أبدا الحديث عن الأصالة في حزب إلا زورا وبهتانا، أو من باب الدعاية المضللة.

إن الاختلاف على مستوى الفكر لا دخل له في قيمة الأصالة، إذ يتعلق بقيمة أخرى هي حرية الفكر والاعتقاد، وذلك الاختلاف يتعلق بمعيار التفاضل في إطار ما هو أصيل، مثل الحديث عن أنواع العسل الأصيل التي تختلف باختلاف أصل غذاء النحلة ( عسل الزعتر، عسل الليمون، عسل الزكوم، …). وداخل الأحزاب الأصيلة سنجد اليمينية أو اليسارية، كما سنجد العلمانية أو ذات المرجعية الدينية، …

وبالعودة إلى الكلمة الثانية في الشعار الجديد لمنتجي الألماس، أي كلمة “نادر”، فدلالتها التسويقية كبيرة جدا على اعتبار أن الندرة، وهي القيمة التي تميز الألماس بين الأشياء، هي ما يصوغ غلاء “الثمن” الذي يقدمه الناس مقابل حصولهم على كل الأشياء النادرة. والعلاقة بين الندرة والأصالة تكاد تكون علاقة تلازم تقريبا. وكلما كان الشيء مفيدا وناذرا كلما تعلق الناس به، وهذه القيمة التي يبحث الناس بالفطرة عن تملكها، تجعلهم يضحون من أجلها، فيتحملون غلاء ثمنها الذي قد يكون حياتهم أيضا. وقد تنشب بسبب الندرة حروب حين يتعلق الأمر بمصادر الغذاء مثلا. والندرة هي العامل الديناميكي الذي يفسر الكثير من الصراعات في العالم، وخاصة الثروة والسلطة، فكلاهما يتسم بالندرة.

إن الجميل في القيمتين أن الشيء الحقيقي والأصيل كلما كان نادرا كلما اشتد الطلب عليه وغلا ثمنه، مع أن وفرته لا تفقده قيمته. لكن الشيء الغير أصيل كلما ندر كلما اتجه الناس إلى الاستغناء عنه ونسيانه، وكلما توفر فقد ما تبقى له من قيمة.

وبالعودة إلى مثال الأحزاب، نجد أنه لا تقاس قيمة الندرة بحجم شعبيتها، ولا بحجمها السياسي والتنظيمي، بل بالشروط التي يضعها كل حزب للانخراط فيه. فكلما كانت هناك شروط لانتقاء الأعضاء الحقيقيين الأصلاء كلما كسب الحزب قيمة الندرة التي ترفع قيمته العامة عاليا. وكلما شرع أبوابه للوصوليين والانتهازيين، غرق في الوفرة وفقد أصالته وقيمته معا بسببها.

لذلك فشعار “الحقيقي ناذر” أقوى من شعار “الألماس إلى الأبد” لأن الألماس قد يكون غير أصيل، والرهان على “الأبد” بغير الأصيل رهان على الوهم وعلى فرضه في السوق خارج قوانين المنافسة الطبيعية. لذلك فـ”الحقيقي نادر”، و”الأصالة” الزائفة لا يمكن استدامتها إلا بالتحكم.