منوعات

بويخف يكتب: كيف هوى “الثور” وبقيت “الدنيا” ؟

“الدنيا كرة يحملها ثور كبير على أحد قرنيه، وكلما تعب نقلها إلى القرن الآخر فيحدث بذلك زلزالا عظيما” هذه كانت إحدى أشهر “النظريات” التي تفسر الكون، وتنتشر بين الناس أيام طفولتنا الأولى. و لا زلت أذكر كيف استرجع الناس في قريتي الصغيرة هذه “النظرية” بقوة بمناسبة هزة أرضية استفاقوا مذعورين على وقعها في ليلة من ليالي بداية السبعينات.

أذكر أننا في طفولتنا تثير انتباهنا صورة الثور الذي يحمل الدنيا، وكنا نطرح أسئلة “فلسفية” لا نجد لها جوابا عند الأكبر منا، مثل: ومن يحمل الثور إذا كان هو من يحمل الدنيا؟ وماذا يأكل ذلك الثور المسكين؟ … وكان الجواب الجاهز: الثور على ظهر حوث عظيم، والحوث في الماء، والماء على صخرة، والصخرة …، وماذا بعد؟ إنها إرادة الله. فنغمد سيف السؤال ونستلم للشكوك.

لكن مشاغباتنا “الفلسفية” تستمر في مجالسنا الخاصة، فنبدع في التفسير، ونتجادل تحت ضغط اللامنطق الذي تعجز عقولنا الصغيرة عن هضمه، والذي يدفعنا إلى إعادة الأسئلة بيننا حول العالم والثور وماذا يأكل، والزلازل، والحوث والماء والصخرة … ، وكنا “نفكر” دون أن نجد جوابا، ولكن كنا أيضا نستهزئ. غير أننا حينها لم نكن نعلم شيئا عن الألعاب البهلوانية في السيرك حيث يقف البهلوان على كرسي والكرسي على ظهر أسد والأسد على كرة، وهكذا. أتخيل لو كنا نعرف عن مثل هذه الألعاب لسهل عليها فهم العالم الذي على قرن ثور.

وأذكر أن صديقا سلمني ذات يوم كتابا من الحجم الصغير قال إنه من خزانة جده، وأنه أخرجه منها خلسة. كان الكتاب مغلفا بـ”كاغيط” سميك، وأوراقه الصفراء الخشنة قد تآكلت أطرافها، وتحمل خربشات في الهوامش بالقلم القصبي و مداد “السمخ” اللذان كانا، إضافة إلى اللوح، عُدة الكتابة في الكُتاب. لا أذكر أنني قرأت في “كِتاب” صديقي شيئا يمكن اعتباره عنوانا، ولا شيئا يشير إلى “واضعه”. لكن أذكر أن الكتاب قد شدني إليه، قرأته عدة مرات، لقد كان أول كتاب أقرأه إلى جانب “التلاوة” لمستوى المتوسط الثاني(الخامس ابتدائي)، من سلسلة “إقرأ” الشهيرة لمؤلفها أحمد بوكماخ، رحمه الله.

كان موضوع الكتاب حول عجائب الدنيا، يتحدث عن قضايا كثيرة كلها تدور حول “فلسفة الكون”. مثل قصة أصل الماء، وكيف أن طاووسا عملاقا نظر في مرآت عظيمة، ولما اكتشف جماله تصبب عرقا من شدة الحياء، وذلك العرق هو أصل الماء الذي نحيا به اليوم. و”نظرية” تفسير سقوط المطر، وكيف أن غربالا كبيرا في السماء الدنيا هو المسؤول عن صناعة قطرات المطر. و”نظرية” تفسير سر وجود السرة التي هي في أسفل بطوننا، وكيف أنها ترجع في أصلها إلى يوم خلق الله آدم من طين، حين مر الشيطان بقربه فضربه في بطنه حسدا بعصى، فخلفت حفرة صغيرة هي السرة التي نحملها في أسفل بطوننا اليوم. لم يفت “الكتاب”، الذي حفظته أسرة صديقي لتتوارثه الأجيال، أن يتطرق إلى كيف خلقت المرأة من ضلع آدم الأيسر، بتفاصيل كأن راويها كان حاضرا أثناء ذلك. و”نظريات” أخرى كثيرة في تفسير مختلف الظواهر الطبيعية، مثل غروب الشمس في فم حوث عظيم في البحر، والقمر وتنوع أشكاله، والنجوم، والبحار، والبرق، واختلاف ألوان البشرة لدى البشر، والدابة العظيمة التي ستفني العالم عند قيام الساعة. وكان من بين “نظريات” تفسير الكون تلك بالطبع “نظرية الثور العملاق” الشهيرة التي كانت في مطلع “الكتاب”.

أذكر أنني بقيت مشوش الذهن بعد قراءة “الكتاب”، وازدادت الموضوعات التي لا أجد لها تفسيرا منطقيا في عقلي الصغير. في تلك الأيام لم يخطر ببالي أن أسأل “المعلم”، فقد يكون لديه الجواب، لكن “المعلم” في ذلك الزمن لا يسأله التلاميذ أصلا، إذ هو من يسألهم، فكيف بسؤاله عن قضايا “الفلسفة”، هذا على الأقل في محيطي بقريتي الصغيرة إمنتانوت.

ذلك “الكتاب” العجيب قدر لي أن أجده بعد ذلك بين كتب معارف لي من حملة القرآن وبعض الخطباء والوعاظ، ويقدم بذلك النموذج الذي يفسر الثقافة الرائجة حينها حول الكون. ثقافة همها الوحيد أن لا تترك الفراغ للشك الذي قد يملأه الشيطان. فكان لكل سؤال جواب، وكل جواب يكون على شكل قصة من أول الخلق، ولا يهم أن لا تكون القصة -الجواب منطقية ولا مقنعة، ولا حتى مما تكذبه الوقائع اليومية. وهذا لا يعني أن مثل تلك الكتب هي التي كانت موجودة في ذلك الوقت وحدها، بل فقط تلك الكتب هي التي تروج مضامينها شعبيا، وبشكل واسع.

لقد كان للتفسير الغرائبي للحياة جاذبية خاصة، ومتعة خاصة أيضا، فهو دائما على شكل قصة من أول الخلق.

و لازلت أذكر أن جواب السؤال: لماذا تموت النحلة بعد أن تكون قد لسعت أحدا ما؟ كان أيضا في قصة من بداية الخلق، حيث جمع الله الحيوانات التي زودها بالقدرة على اللسع أو اللدغ. وسألها أن تقدم طلباتها حول استعمالاتها لسلاحها، وقدمت كل تلك الحيوات واحدة واحدة نفس الطلب، وهو: إذا لدغت أو لسعت أن تموت ضحيتها، وكان الله حسب القصة يستجيب تلقائيا لتلك الطلبات، إلا النحلة المسكينة أخطأت في الطلب، وسألت الله أن تموت هي إن لسعت أحدا، فاستجاب الله لطلبها على الفور، وبعد أن أدركت خطأها حاولت استدراك الأمر لكن الله قال لها: “سبق الفال إلى فمك” وتركها وانصرف. و لا أفهم إلى اليوم معنى”سبق الفال إلى فمك”.

وأذكر أنه بعد قرابة ثلاثة عقود حاولت مرة تقمص شخصية “كبير” تلك المرحلة الغابرة، وحدثت بنتاي الصغيرتان عن “الدنيا”، وعن الثور الذي يحملها والزلازل التي يحدثها، وعن الطاووس ومرآته العظيمة ومائه الذي منه البحار التي نسبح فيها، وعن النحلة وموتها، … وكان أن واجهتني ثورة عظيمة من الاستنكار والاستهزاء.

وكلما استرجعت فترة “الدنيا التي على قرن ثور عظيم” أتساءل مع نفسي متأملا: كيف هوى ذلك الثور العظيم دون أن تهوي معه الدنيا؟ وحين أنظر إلى الطي المتسارع للمسافة التي تفصل عالم “الدنيا على رأس ثور” والعالم المفتوح اليوم أمام الانسان بفضل العلم ومكاسبه التكنلوجية، وللمسافة التي تفصل التفسير القصصي الغرائبي للكون والتفسير العلمي له اليوم، أستبشر خيرا لمستقبل باقي “الثيران”، فستهوي كلها بصمت تباعا، وتبق الدنيا لذكاء الإنسان.. و البقاء لله.